هاملت وغودو: أن تكون أو لا تكون هذا هو العبث!

من مأساة في مدينة لندن إلى ملهاة في مقاطعة كورنوول؛ من إنتاج شكسبيري مُبْهِر إلى عرض يتّكل على فردين وشجرة، يتألق المشهد البريطاني بمسرحيتين تعكسان عصرهما وكل عصر: "هاملت" (1600) للبريطاني ويليام شكسبير (1564-1616) و"في انتظار غودو" (1952) للأيرلندي صامويل بيكيت (1906-1989).
قد يظن البعض أن مسرح شكسبير الملكي ببلدة ستراتفورد أون أيفون – مسقط رأس شكسبير – ينتهج دوماً منهجاً محافظاً، ولا سيما مع حبكة معروفة: يُبْلغ شبح الأب الأمير بأن عمه ملك الدنمارك قتله ويطالبه بالثأر، ومع ذلك لو أطاح هاملت برجل برئ، ستحل عليه لعنة أبدية.
عله ليس من الممكن أن تُعرَض "هاملت" دون أن يعاني النص إفراطاً في الأفكار والألاعيب اللغوية. فالمسرحية تطوي عقوداً من التحليل والنقد، معضلات عتيقة وتحديات أبدية.
|
تنفَض في العصر الحديث، علها ستينات القرن المنصرم، إذ تتجلى لافتات الليبراليين المنادية بالسلام، 'احْظرْ القنبلة'، ويتشارك جاسوسان أرسلهما الملك للتجسس على هاملت سيجارة ماريجوانا! تستخدم الشخصيات المشاعل الكهربائية لإجلاء العتمة وتنير أنوار النيون الباردة غرف القصر مع الاحتفاظ بالعتيق من الجماجم والسيوف.
لا تخلو "هاملت" من تكنيكات سرد معاصرة، إذ يصرخ هاملت في بداية المسرحية بكلمة "وحيداً"، وبعدها يناجي ذاته وهو يرنو مباشرة إلى الجمهور مصراً أن نتذكر أنه ممثل بينما يتحدانا أن ننسى أنه هاملت. إنها مسيرة حذِرة على حبل بهلوان يقفز بين الأدب والواقع، مسيرة كان ليتعفف عنها الأقدمون. يوحي أيضاً جمع الممثل البريطاني جريج هيكس بين دور كلوديوس ملك الدنمارك وشبح الملك المغدور به المرتدي قناع مبارزة بأن الأخير ما هو إلا سياسي محنك لا يسمح لقناعه قط بالانزلاق عن وجهه.
يشدد النص المعاصر على هاملت باعتباره حالة مَرَضية هي في الحقيقة المرادف المعاصر لمفهوم السوداوية السائد إبان القرن التاسع عشر. المؤكَد أن هاملت في هذا العرض رجل شديد الاكتئاب، غاضب غضباً لا هوادة فيه، في تقلباته العنيفة بين الإنهاك المتأمِل والانفعال المحموم، يشْرف على الهوس. لا ريب أنه أول هاملت ينهمك ساخراً في غناء أغنية "السعادة" للكوميدي البريطاني كين دود قبل صيحته الشهيرة "تكون أو لا تكون".
وشأن الإنسان المعاصر لا يمسك عن الارتياب في كل خطوة يخطوها كحيوان في خطر. يعثر على كل عاطفة متطرفة، ويضخمها حتى الإعياء، مبالغة قد يشينها التَكَلُّف من جانب سلينجر. ومع أن العروض السابقة للمسرحية تُصدِّق تظاهر هاملت بالجنون، نراه هنا ممسوساً قبل حتى أن يدعي "اصطناعه مزاجاً عجيباً"، مسكوناً بالأشباح على وشك أن ينزوي في ركن ويعوي.
لا شك أن الهوس طال أوفيليا حبيبة هاملت – الممثلة البريطانية بيبا نيكسون- ففي إحدى المشاهد يهجم هاملت عليها هجوماً وحشياً، يخلع عنها ملابسها ليمسك بسكين على رقبتها صارخاً "فلتكوني في مثل عفاف الثلج، في مثل نقاء الجليد، فلترجعي إلى دير الراهبات". وحتى إسدال الستار تظل جثتها أمام أعين المشاهدين على خشبة المسرح.
من العسير تحديد إن كانت مسرحية "في انتظار غودو" – أهم مسرحية في القرن العشرين وفقاً لجريدة "ذا نيويورك تايمز" – مغرقة في الهزل أم مشحونة بالجد. عرَضتها فرقة ميراكل المسرحية في الشهر الفائت من إخراج البريطاني بيل سكوت، مُخرِج لم يدخر معاصروه جهداً في اختيار أشد المسارح كآبة لعرض "غودو" بيد أنه انتقى موقعاً رومانسياً قد لا يليق حقاً بكل ما يخامر المسرحية من تيهان وذهول: في الهواء الطلق، قبالة قلعة سانت موز، والمحيط الأطلنطي في الخلفية، والغسق يَهبط على المشاهدين خلال العرض.
"نولد كلنا مجانين، ويظل البعض على الحال نفسه"، يعلن الممثل ستيف جاكوبس في دور إستراجون في هذه المسرحية السرمدية، لا شيء فيها يَحدث مرتين، تتحدى كل يقين، تبرهن على أنها علاج مثالي للأوهام، تتأمل ما قد يحث الإنسان المعاصر على الانفعال. في سبيل ريفي في آخر النهار ينتظر متشردان رجلاً اسمه غودو، لا يجيء، ولكنهما ينتظران إلى ما لا نهاية، حبكة أبسط من البساطة، مَن منا لم ينتظر – بمعنى ما – ما لا يجيء في فترة ما من حياته؟
لا أحد يُطلعنا على هوية غودو، مَن هو؟ وماذا يريدان منه؟ ينهمك الصعلوكان في تهريج يتراوح بين المنطقي المُرْبِك والفلسفي العابس وهما يتلاعبان بالألفاظ ويمضيان وقتاً يتبدى في الظاهر بلا قيمة. لا يشعر المتفرج بأن الوقت "ملعون" حسب تعبير بيكيت وهو يرصد رؤية للحياة بوصفها كدحاً لا معنى له من المهد إلى القبر، علاوة على أن إخراجها الشهير لا يشي إلا بهذه الفكرة: لا أحد يتحرك، ولا قيد أنملة.
وبالرغم من انقضاء نحو ستين عاماً على كتابة صيحة يائسة تند عن بطل المسرحية الثاني فلاديمير – الممثل أنجَس براون – "في ثانية واحدة سيختفي كل شيء، وسنبقى بمفردنا مرة أخرى وسط العدم"، لا تنفك نكات المسرحية اللاذعة وصورها المخيفة – الشجرة الوحيدة، القمر الصاعد، معركة الجزم البالية – في مثل عظمة مَشاهد يناجي فيها هاملت نفسه.
|
لعل معضلة المسرح ذاته تكمن في ضرورة أن يكشف كل عرض عن عوامل تألقه وابتكاره لتبرير وجوده في حد ذاته. الحق أن هناك مسرحيات عتيقة تَسقط صلاحية أفكارها بالتقادم، ولكنه من المحتم أن تنسجم مع المسرح المعاصر مسرحية تسبر مشاعر الخسارة والذنب بحكمة ملتهبة، وأخرى تطرح كل الأسئلة الفلسفية الكبيرة – الحياة والموت والغاية مما يقع بينهما – وتتلفع بلفاع كل منتظِر – وما أكثرهم.