واشنطن - طهران: صناعة داعش آخر
سال مداد وفير في السعيّ لتفسيرِ ظاهرة داعش والأصوليات الجهادية الرائجة منذ سقوط بغداد في ربيع 2003. خطت الكتب حكاية دولة البغدادي من حيث أنها امتداد لقاعدة بن لادن بعد مرورها داخل محولات أبو مصعب الزرقاوي وصحبه. أفرج المحللون عن كم من حكايات الولادة وأسرار النشوء. في مشهد الرواية تتشابك خطوط الأيديولوجيا والفقه، مع مسارات المصالح وأجهزة المخابرات. وعلى مسرحِ العرض يتحدث الممثلون عن تواطؤ طهران ودمشق وبغداد، وعن تورط تركي خليجي، وعن صدام بين أصوليتين، أصولية الشيعة ومركزها طهران في كل الفصول، وأصوليّة السنّة التي يضيع عنوانها أو يتعدد حسب الفصول.
حين شاع صيت داعش بعد إسقاطه المدن والمحافظات وهزمه الفرق العسكرية العراقية، كتبت الصحفُ الغربية شهادات من الداخل تفيد أن المدن السنية تفضل حكم “هؤلاء المجهولين على سطوة جيش المالكي”. وفي تفسير انهيار “جيش المالكي” من رأى أن الجنود الشيعة لن يقاتلوا من أجل حماية مدن السنّة، ومن لاحظ في أوامر بغداد بالانسحاب تواطؤ ملتبس مشبوه مع هذا الغضب الخارج لتوّه من بطون التاريخ العتيق. بدا واضحاً، ودون مواربة، أن الحدث صدام معلن بين سنّة وشيعة، وأن في دعوة آية الله السيستاني للجهاد، إعلان رسمي لموسم الفتنة، التي لطالما مورست دون إعلان رسمي.
داعش فعل سني يمارسه سنّة، يعمل وفق فقه سنّي، وينمو داخل بيئة سنّية. وداعش يمثل اعتراضا سنّيا، يعتاش من مظلومية سنية، ويعبر عن علة بدأت منذ أن ارتأت العبقرية الأميركية في عهد بوش الابن، تحميل سنّة العراق وزرَ الخصومة مع صدام، ومنذ أن أرسى الدبلوماسي الفذ بول بريمر مراسيم فكفكة العراق وإعادة تركيبة على قاعدة التحالف مع الشيعة (المتحالفين مع طهران) واجتثاث التركيبة التي وسمت عراق عشرينات القرن الماضي.
على أن تنظيمَ أبو بكر البغدادي ترعرعَ منتشياً من تراكم تبرمٍ نفختُه عشائرُ ومنابر وتيارات، وجاهرَ به علماءُ دين ووجاهات، وعبّرت عنه تظاهراتٌ وساحاتُ اعتصام. في عراق ما بعد صدام من رأى في القاعدة “بعثاً” يبعثُ، وفي داعش “بعثا” يعود. وبالمحصلة، وبغضّ النظر عن تعقد سيرة “دولة” البغدادي وكواليس نشوئها، فإن إجماعا، عند الأنصار كما عند الخصوم، يقرُّ بأن المخلوق رد فعل أسود على فعلة حالكة الظلام. وأن إزالة ردّ الفعل ومآسيه تجري دون أي تراجع عن الفعلة وكوارثها.
مارس رد الفعل السني (الذي زعم داعش تمثيله) همجيته على البيئة السنية التي ولد منها أو هبط داخلها. توقف مد داعش عن تهديد بغداد، وراح يعبث داخل المحافظات السنية، يهاجم مدن الأيزيديين والأشوريين وتخوم الأكراد. بدا أن التنظيم غير معني بالصدام مع “الرافضة” وفق أدبياته، حريص على تصدير عبثه نحو مصر وليبيا وتونس، بعد أن تمدد وأزال الحدود بين عراق وسوريا.
يمثل الحدثان العراقي والسوري أقصى درجات الورم الناتج عما يطلق عليه بالمظلومية السنية. كان الأميركيون قد تنبهوا لذلك في العراق، واعترفوا ضمناً بما اقترفته سياساتهم وممارساتهم (لاسيما بعد افتضاح إنجازاتهم في سجن أبو غريب)، وراحوا يتحرون الوصل مع السنّة المهمّشين لعلّ في ذلك سعي متأخر لإعادة توازن بات ضرورياً للقضاء على “القاعدة”. نجح ذلك المسعى نسبيا (أي القضاء على القاعدة) من خلال تقليعة “الصحوات”، وفشل في إعادة التوازن، لا بل زاد اختلاله، حتى بات نائب الرئيس العراقي السني منفيا، وساحات الاعتصام السنّية منتهكة. خرج داعش من قمقم الفشل. أطيح بالمالكي. وتم التعامل مع الورم المذهبيّ السني بأدوات مذهبية تقودها طهران.
لا يبدو أن واشنطن معنية هذه الأيام بإعادة توازن ما بين الطوائف. باتت الولايات المتحدة، العاجزة في عهدي باراك أوباما عن تقديم ترياقها، مستسلمة لمن يتطوّع بترياق. تتأمل الإدارة الأميركية بصمت، وربما بإعجاب، زحف القوى الشيعية بقيادة الجنرال الإيراني قاسم سليماني لتحرير المدن السنّية من غيّ داعش. لم يعد أوباما وصحبه قلقين من كارثة تسببها إطاحة الشيعة بقوى الاعتراض السني (على عللها وكوارثها) داخل مدن السنّة، حتى أن الجنرال مارتن ديمسي (رئيس هيئة الأركان المشتركة) القلق من قهر محتمل جديد تمارسه ميليشيات شيعية ضد السنّة في معرض الحرب ضد داعش، تكفيه تطمينات رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الشفهية لينام ملء جفونه مرتاحاً لمآلات ذلك (لافتة تصريحات شيخ الأزهر المنددة بـ“المجازر التي ترتكب ضد أهل السنة” في العراق في إشارة إلى ميليشيا الحشد الشعبي).
وللعزف على وتر الانعطافة التي تروق للمغردين حول البيت الأبيض في واشنطن، يطل وزير الخارجية الأميركي جون كيري مكتشفا فضيلة الحوار مع بشار الأسد. ينصحُ الرجل نفسه، بعد أن صمّ آذاننا بلا شرعية سيد دمشق، بأنه “علينا التفاوض مع الأسد”. لا نعرف من منعه قبل ذلك حين راح روبرت فورد سفير واشنطن في دمشق يوزع المواقف والتصريحات ويزور (رفقه زميله الفرنسي إريك شوفاليه) المدن المنتفضة والمنتفضين مباركا مراميهم وعدالة قضيتهم. ولا نعرف نجاعة حواره المنشود وهو الذي يمثّل إدارة تفتقت، بعد جهد، عن عبقرية تروم بناء جيش من بضعة آلاف عنصر، بعد فحص دمائهم والتحقق من خلوها من العلل والشوائب، لمواجهة جيش دمشق وطهران وحارة حريك وجيوش أنحاء أخرى برعاية موسكو وأسيادها.
قبل تصريح كيري، كان مدير السي آي إيه جون برينان يبلغ سامعيه في مجلس العلاقات الخارجية أن “واشنطن لا تريد انهيار نظام الأسد، لأن ذلك سيوجد فراغا سوف يملؤه داعش”. سيد الأمن الأميركي لا يرى انهيارا وتفككا وكارثة تجتاح سوريا في ظل الوضع القائم، وهو وضع يقف الشلل الأميركي، بالدرجة الأولى، وراء تفاقمه وتعفّنه المخزي، وهو وضع يشبه ما حرك “الضمير” الأميركي ضد سلوبودان ميليزوفيتش في صربيا، علما أن ما أرتكب هناك، على فظاعته، يبقى أقل مما يقترف في سوريا.
ربما في تصريحات كيري (رغم التوضيحات الركيكة للمتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية) ما يطمئن نظيره الإيراني محمد جواد ظريف، ومن خلفه الرئيس حسن روحاني والوليّ الفقيه علي خامنئي حول نجاعة الاتفاق النووي العتيد. لكن في تصريحات الرجل ما بات يقنع الكثيرين في المنطقة أنها تعكس خواء وتخلو من صدقية وتشبه إدارة زائلة عن التحكم بعرش من يتزعم هذا العالم. حتى الأسد نفسه، المعني بنبوءة كيري اعتبرها (في تصريحه للتلفزيون الإيراني) “مجرد كلام وفقاعات تذهب وتختفي”.
تفرج الحرب ضد داعش في طبعتيها العراقية والسورية عن انشغال غربي، بشراكة إيرانية كاملة، للإجهاض على ردّ الفعل السنيّ كما برز بالفعل الداعشي المدان، والاستمرار برعاية الفعل الأساسي الذي أنتجَ اختلالا ومظلومية وبيئة لاحتضان الاعتراض والعنف على أشكاله. في ذلك أن ورشة التخلّص من ورم الإرهاب الذي تمثّله دولة البغدادي، تزرع بذور موسم إرهاب آخر لا تنتهي فصوله. فهنيئاً لمن يصفق لبغداد عاصمة لإمبراطورية الفرس الجديدة، وطوبى لمن يكتشف أن دمشق لا تُحكم إلا من سيّد دمشق الحاكم أبدا نجلا بعد أب.
صحافي وكاتب سياسي لبناني