البطنة والفطنة
أحب “صلاح جاهين” جملة وتفصيلا، جملة لأنه شخص بدين وأنا بطبعي أتعاطف مع البدناء من شاكلتي، لأن البدانة قرينة الدنيوية والرفاه، وحب الحياة التي أحب الله أن تبدو آثارها على عباده، لهذا كان “أمبيرطو إيكو” أقرب إلى نفسي من “رولان بارت”، رغم أن كليهما زعزعا أساسات الاعتقاد النقدي في نفسي، بالقدر عينه.
لكن صورة “رولان بارت” الرشيق صاحب القامة الفارعة التي تغوي النساء في أغلفة كتبه، جعلت الناقد الإيطالي البدوي يكتسح هوامش التعاطف الداخلية لدي، ففي البدانة لطف حضور ورقة حاشية، وبراءة دفن سرها الباري في كتل الشحم.
أما التفاصيل فتبدأ من رباعيات “صلاح جاهين” الساحرة ولا تنتهي بأدواره في التمثيل، خصوصا حين وقف أمام العملاق “عبدالمنعم مدبولي”، أستحضره الآن وأنا أعيد قراءة نص “محمد برادة”: “مثل صيف لن يتكرر” فبعد جولة ليلية طويلة مع عزيزنا “حماد” مستمعا مطيعا لشطحاته السياسية وقف فجأة وقال له: “لكن الشعب ده يميني بطبعه".
قالها “صلاح جاهين” في سياق لم يكن مخضلا بالدماء، مثلما هو الآن، قالها والحاضنة الاجتماعية للإرهاب لم تتفاقم بالقدر المزري لما بعد ما سمي بانتفاضات الربيع العربي، لكنه قالها حتى يكفي شخصية “حماد” اليساري مغبة التكرار، والاستعراض غير المفيد.
بعدها بسنوات ستتفجر فضيحة كبرى في جامعة القاهرة لأن مفكرا بدينا، مثل “صلاح جاهين”، أو تجاوزه قليلا، أراد أن يرتقي في سلم وظيفته الجامعية، فقدم كتبا وأبحاثا ومقالات، هي في الأساس تتعلق بسياق مناهض للقناعة والنحافة، تتعلق بدنيوية النصوص الدينية، وتكييفها بمجالها الاجتماعي، المانح للربح أو الخسارة، وضع اللبنات الأولى لفهم النص بما هو سبب للبدانة أو النحافة هنا والآن.
ما جرى، بعد ذلك، أن كل البدناء من المفكرين والباحثين، في الجامعة ناصروه، وعلى رأسهم الناقد الشهير الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة المصري اليوم، والذي أصيب بجلطة دماغية قبل سنوات لارتفاع في نسبة الكولسترول، ولبدانته الحيوية، لكن يبدو أن فقر الدم انتصر، فقد حكمت المحكمة بالتفريق بين البدين الدنيوي “نصر حامد أبوزيد” وزوجته “ابتهال يونس”، وبالتالي انتصر “عبدالصبور شــاهين” داعية النحافة والضعف والتقتير.
حين أتأمل اليوم في مسألة البدانة والرشاقة، أميل إلى الاعتقاد أن الرغبة في العيش الهنيء تجعل نسب الكولسترول والضغط والسكر، غير ذات معنى، تُشتهى الحياة وما يدعمها من فكر دون محاذير، لهذا أعذر دوما “هشام جعيط” وقبله “محمد الماغوط” رحمه الله، لاسترسالهما في ترتيب الفضاءات الحاضنة للتدفق البدني، هي حجة قد تكون ضدهما في معايير الصحة لكنها لهما في مقاييس الحياة.
كاتب من المغرب