تكرونة صفحة خالدة من التاريخ الأمازيغي في تونس

تونس - قرية ”تكرونة” تعد من أقدم القرى الأمازيغية، ومن آخر المواقع التاريخية في الشمال التونسي، التي ترمز إلى حضارة الأمازيغ التي استمرت حسب بعض الدراسات، آلاف السنين في منطقة المغرب العربي، وتتميز القرية عن بقية المواقع الأمازيغية الأخرى، التي اندثر بعضها ولم يعد له أثر، بوجودها فوق تلّة صخرية صلبة حافظت على تماسكها على مرّ العصور وصمدت أمام قسوة الطبيعة وانتهاكات الإنسان.
فوق تلة متوسطة الارتفاع تظهر منازل قديمة متلاصقة ما تزال متماسكة في مساحة ضيّقة وعلى مستويات مختلفة الارتفاع وقد أضحى بعضها مهجورا لصعوبة ترميمه، وبعضها الآخر يبدو منحوتا بشكل مذهل يخطف أنظار المارين من جميع الاتجاهات، أما مشيدوها أو سكانها الأوائل فهم من “الأمازيغ”، وهي مجموعة سكنت المنطقة الممتدة من واحة سيوة (غرب مصر) شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن البحر الأبيض المتوسط شمالا إلى الصحراء الكبرى جنوبا.
“تكرونة” التي تبعد 5 كيلومترات عن مدينة النفيضة التابعة لمحافظة سوسة الساحلية (شرق)، و100 كيلومتر جنوب تونس العاصمة، تحيط بها غابات الزيتون والأراضي الزراعية الواسعة من جهات مختلفة، ولا تزال تسكنها بعض العائلات الأمازيغية التي تشبثت بموطن أجدادها رغم صعوبة تضاريسها والحياة فيها.
حافظت القرية على تسميتها الأمازيغية (لا يوجد ترجمة للعربية لاسم تكرونة) رغم مرور آلاف السنين على تأسيسها، وتعاقب الحضارات عليها منذ الحقبة الأمازيغية مرورا بحضارات أخرى عريقة حتى فترة الفتح الإسلامي، وفي التاريخ المعاصر حافظت القرية على أهم مميزاتها وعادات وتقاليد أهلها، وصمدت أمام بطش المستعمر الفرنسي في القرنين التاسع عشر والعشرين لتبوء كل محاولات طمس الهوية التاريخية والإسلامية للقرية بالفشل.
حافظت القرية على تسميتها الأمازيغية رغم مرور آلاف السنين، وتعاقب عليها الحضارات منذ الحقبة الأمازيغية
ورغم أن القرية كانت مسرحا لمعارك عنيفة، خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، إلا أنها اليوم لم تعد موقعا للتمركز العسكري، كما كانت سابقا، بل أصبحت وجهة مميزة للسياحة الثقافية تقصدها رحلات سياحية جماعية سنويا لسياح من جنسيات مختلفة منهم من زارها سابقا وانبهر بجمالها وأبى إلا أن يعود إليها مرة أخرى، ربما مصطحبا معه بعض أصدقائه وأفرادا من عائلته ليتقاسم معهم متعة التجول في هذا المكان النادر جغرافيا وتاريخيا ولالتقاط صور للذكرى.
الصعود إلى “تكرونة”، على الأقدام يكون عبر مدرج تحيط به الصخور الكبيرة ونبتة “الصبار” إلى جانب مسالك أخرى يعرفها أهل القرية جيدا وجميعها تقود إلى أعلى التلّة حيث توجد المساكن القديمة وضريح ”سيدي عبدالقادر” الذي يصفه السكان بـ”الولي الصالح”.
رغم ذلك فإن جمال المناظر الطبيعة من أعلى المكان والمباني العتيقة وروح التاريخ القديم فوق التلة قد يُنسي دون شك حتى المتقدمين في السنّ مشقة الصعود. ولا يتوجه السياح فقط إلى تلك المنطقة الرائعة، فقد حظيت أيضا باستحسان وإعجاب المخرجين السينمائيين والتلفزيونيين الذين حرصوا على تصوير مشاهد من أفلامهم وإنتاجهم التلفزيوني في محيط القرية وداخل أزقتها الضّيقة ومبانيها القديمة.
|
وتكرونة قبلة للتظاهرات الثقافية والرحلات الترفيهية التي تقام سنويا في القرية خاصة في فصل الربيع عندما تتزين القرية بالأزهار التي تحيط بالمباني وتزيدها جمالا على جمالها، وتمثل تلك العروض فرصة تلتقي فيها عفوية أهالي القرية مع إبداعات كبار المثقفين والفنانين والمشاهير.
“كرم الضيافة”، يعد من أكثر الأشياء روعة في تكرونة، وهي الصفة التي يتميز بها أهلها الذين يعود أغلبهم إلى جذور أمازيغية فطريقة ترحيبهم بالزائرين بمثابة تعبير عن عشقهم الكبير لقريتهم، لذلك هم يبادلون كل من يزورها مشاعر الودّ والمحبة.
فعند الوصول إلى أعلى التلة وبمجرد التنبه لوجود زوار، تسرع النساء في تقديم خبز الطابونة الساخن (الطابونة فرن تقليدي من الطين) وزيت الزيتون إلى الضيوف.
وتقول “أم محمد” التي ورثت مسكنها في تكرونة أبا عن جد، إن توافد السياح “أسال لعاب رجال الأعمال والمستثمرين الذين أقبلوا على شراء المنازل القديمة والمهجورة قصد تحويلها إلى مشاريع سياحية وثقافية مربحـة”.
وأضافت السيدة أن جزءا كبيرا من سكان القرية غادرها بسبب الظروف المعيشية القاسية وقلة فرص العمل، وانتقل يبحث عن ضالته في المدن الكبرى، وذلك عدا الصعوبة في الحصول على المياه الصالحة للشرب أعلى التلة، وكذلك صعوبة التنقل عبر المسالك الوعرة.
وعن العادات الأمازيغية تقول محدثتنا عن الآكلات الأمازيغية القديمة التي ما تزال نساء القرية تطبخنها، فإلى جانب خبز الطابونة، تطبخ نساء القرية “الكسكسي” و”المحمصة” وهي مأكولات شعبية قديمة تصنع في البيوت من مشتقات الحبوب.
ولعل أجمل ما قيل عن “تكرونة”، ما يخص الأديب الطاهر قيقة (1922-1993) الذي كان من أشهر أبنائها وهو صاحب العديد من المؤلفات المعروفة منها ”الصخرة العالية”، والمجموعة القصصية ”النسور والضفادع”.
وفي حديث نادر عن “تكرونة” نشرته مجلة “المسار” التونسية عام 1990، قال قيقة هذه الكلمات الرائعة عن قريته ”تكرونة هي الجبل، هي الريف، هي الجامع والزاوية والمقبرة، والصخور المتناثرة بين المنازل تذّكر أهل القرية بالشدّة والصلابة التي جُبلوا عليها مع الأنفة وعزّة النفس.. والشموخ.. تكرونة هي المنبت.. وهي الذكرى..”.