واشنطن تعيد رسم النفوذ في أفريقيا عبر اتفاق سلام بين رواندا والكونغو

الوساطة الأميركية لم تقتصر على تقريب وجهات النظر الأمنية، بل صاغت مقاربة أوسع تربط بين السلام والاستثمار.
الجمعة 2025/06/27
أفريقيا في قلب السياسات الأميركية وليست على الهامش

كيغالي - في لحظة تتقاطع فيها الجغرافيا السياسية مع المصالح الاقتصادية العالمية، تتحرك الولايات المتحدة لإعادة تشكيل نفوذها في القارة الأفريقية من بوابة أزمة مزمنة بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. ونجحت واشنطن، من خلال وساطتها في إبرام اتفاق سلام مرتقب بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، في إعادة تثبيت موقعها كفاعل محوري في معادلة النفوذ الجيوسياسي في أفريقيا، رداً على تصاعد نفوذ قوى أخرى في القارة، وعلى رأسها الصين وروسيا.

وتأتي هذه الخطوة في لحظة حاسمة تشهد فيها القارة تنافساً متزايداً على الموارد الإستراتيجية، لاسيما في شرق الكونغو الغني بالمعادن النادرة مثل الكوبالت والليثيوم والتنتالوم، والتي تُعد ضرورية للثورات التكنولوجية العالمية. والاتفاق، الذي يُنتظر توقيعه في واشنطن اليوم الجمعة، تم التوصل إليه بعد تخلّي الجانب الكونغولي عن مطلبه بسحب فوري للقوات الرواندية من شرق البلاد، وهو الشرط الذي كان يقف حجر عثرة أمام التقدم في المفاوضات.

وتتهم كينشاسا كيغالي بدعم حركة “23 مارس” المتمردة، التي سيطرت في وقت سابق من هذا العام على مدن كبرى ومناطق تعدين حيوية، في حين تبرر رواندا وجودها العسكري عبر الحدود باعتباره دفاعاً عن النفس ضد الجماعات المسلحة، وعلى رأسها “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا”، التي تضم فلول النظام الرواندي السابق المتهم بارتكاب الإبادة الجماعية عام 1994. ولم تقتصر الوساطة الأميركية على تقريب وجهات النظر الأمنية، بل صاغت مقاربة أوسع تربط بين السلام والاستثمار، بما يعكس تحولاً في إستراتيجية واشنطن تجاه أفريقيا.

ولا ينص الاتفاق فقط على انسحاب تدريجي للقوات الرواندية مشروط بعمليات مشتركة ضد الجماعات المسلحة، بل يشمل أيضاً بنوداً لتحفيز الاستثمارات الغربية، وخاصة الأميركية، في قطاع التعدين، مقابل تحسين مناخ الاستقرار وفتح المجال أمام الشركات المتعددة الجنسيات للاستفادة من الموارد الطبيعية، ما يمنح الولايات المتحدة بوابة جديدة لتعزيز حضورها الاقتصادي في قلب القارة.

ويرى خبراء أن واشنطن تسعى من خلال هذا الاتفاق إلى تحقيق أهداف مزدوجة: تهدئة صراع دموي مستمر منذ سنوات يهدد استقرار منطقة البحيرات الكبرى، وفي الوقت ذاته تأمين مصالحها الإستراتيجية المرتبطة بالمعادن الحيوية اللازمة للصناعات المستقبلية.

ويقول تشريستوفر فاندوم من معهد تشاتهام هاوس البريطاني إن هذا النهج يعكس تحوّلاً من سياسة التدخل العسكري المباشر إلى مقاربة “الربح المتبادل”، حيث تربط واشنطن المساعدات والدعم السياسي بالنتائج الاقتصادية والأمنية.

◙ تحركات واشنطن في أفريقيا لم تعد تقتصر على مواجهة "الإرهاب" بل تحولت إلى معركة تنافس جيو-اقتصادية ترتبط بمستقبل الطاقة والتكنولوجيا

وبدورها تعتبر روز مومانيا، الباحثة في شؤون الأمن بشرق إفريقيا، أن “التحرك الأميركي يتجاوز هدف التهدئة الفورية، ويؤشر إلى رغبة حقيقية في استعادة الزخم السياسي في القارة، وإرسال رسالة ضمنية بأن أفريقيا ليست ساحة مهملة أو مفتوحة لخصوم واشنطن الجيوسياسيين.” غير أن بعض المحللين يحذرون من تضخيم الرهان على الاتفاق، معتبرين أن تحديات التنفيذ على الأرض تبقى كبيرة. فالوضع الأمني في شرق الكونغو معقد، وتشترك فيه عشرات الجماعات المسلحة، فضلاً عن ضعف مؤسسات الدولة وانعدام الثقة بين السكان المحليين والقوى الخارجية.

ويؤكد الباحث في معهد الدراسات الأمنية برام فيريلست أن “الاتفاق يجب أن يُتبع بخطط واضحة لإعادة دمج المقاتلين، وتحقيق تنمية عادلة، وتفكيك شبكات الاستغلال، وإلا فإن الاستثمار قد يتحول إلى وقود إضافي للنزاع بدل أن يكون جزءاً من الحل.”

ومع توقيع الاتفاق، تبدو واشنطن وكأنها تعيد تموضعها الذكي في أفريقيا، ليس عبر خطابات تقليدية، بل من خلال أداة فعالة تجمع بين الدبلوماسية القسرية والاقتصاد السياسي. إلا أن القيمة الحقيقية لهذه الصفقة ستُقاس بقدرة الطرفين على الالتزام ببنودها، وبتحوّلها إلى نموذج قابل للتكرار في صراعات أخرى تعاني منها القارة. وإذا نجحت، فإنها قد تشكّل سابقة جديدة لسياسات أميركية أكثر واقعية وانخراطاً في أفريقيا، قائمة على الشراكة لا على الوصاية، وعلى المصلحة المتبادلة لا على التدخل الفوقي.

وشهدت السنوات الأخيرة سباق نفوذ متسارعا في القارة الأفريقية بين القوى الكبرى، وعلى رأسها الصين وروسيا، وسط تراجع نسبي في الحضور الأميركي التقليدي. هذا التراجع فتح الباب أمام موسكو وبكين لتوسيع نفوذهما، سواء عبر الاستثمارات الاقتصادية والبنية التحتية كما تفعل الصين، أو عبر النفوذ العسكري والأمني كما تفعل روسيا من خلال مجموعات مثل “فاغنر” وعقود الأسلحة.

ونجحت الصين، على وجه الخصوص، في بناء شبكة عريضة من النفوذ في أفريقيا، من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، حيث موّلت وبنت موانئ وطرقاً وسدوداً في أكثر من 40 دولة أفريقية، ما منحها نفوذاً إستراتيجيا ً في قطاعات النقل والطاقة والتعدين. كما أصبحت الصين أكبر شريك تجاري للقارة، وهو ما دفع واشنطن لإعادة النظر في إستراتيجيتها الأفريقية.

واستثمرت روسيا، من جهتها، في حالات الضعف الأمني والسياسي، خاصة في دول الساحل وأفريقيا الوسطى، وعززت وجودها من خلال تقديم الدعم العسكري للحكومات مقابل الوصول إلى الموارد الطبيعية، مثل الذهب والماس. هذا التمدد الروسي بدأ يثير قلق واشنطن وحلفائها الأوروبيين، خصوصاً مع تراجع نفوذ فرنسا في مستعمراتها السابقة.

وفي هذا السياق، بدأت الولايات المتحدة، في استعادة حضورها عبر أدوات غير تقليدية، أبرزها الدبلوماسية النشطة والوساطات السياسية، كما هو الحال في اتفاق السلام بين رواندا والكونغو. ويشير خبراء إلى أن تحركات واشنطن في أفريقيا لم تعد تقتصر على مواجهة “الإرهاب” كما في العقود الماضية، بل تحولت إلى معركة تنافس جيو-اقتصادية ترتبط بمستقبل الطاقة والتكنولوجيا، مما يعيد أفريقيا إلى قلب الإستراتيجية العالمية للولايات المتحدة.

7