المرشد على المحك: كيف غيّرت الضربات الإسرائيلية - الأميركية توازنات السلطة في إيران

طهران - بالرغم من أن الأزمة لم تستوفِ بعد كل المعايير التي تدل على هشاشة النظام الإيراني بشكل حاسم، إلا أن موازين الأمور قد تنقلب بسرعة، سواء بفعل المتغيرات في ساحة المعركة، أو تصاعد الغضب الشعبي في الشوارع، أو بسبب ما يدور خلف الكواليس في أروقة الحكم في طهران.
وقبل وقت طويل من منشور الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتاريخ 22 يونيو على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي دعا فيه إلى تغيير النظام في إيران، كانت إسرائيل قد بدأت بالفعل التفكير في هذا السيناريو.
وفي مقطع فيديو نشر على الإنترنت بعد وقت قصير من بدء عملية “الأسد الناهض”، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “لقد حان الوقت للشعب الإيراني للتوحد حول علمه وإرثه التاريخي، من خلال النهوض من أجل تحرركم من النظام الشرير والقمعي.”
ورغم أن نتنياهو وقادة إسرائيليين آخرين يركزون في الظاهر على إضعاف القدرات العسكرية والبرنامج النووي للجمهورية الإسلامية، فإنهم يبدون في الوقت ذاته تفاؤلاً بأن هذه الخطوات قد تؤدي إلى انتفاضة شعبية، تؤسس في نهاية المطاف لانهيار النظام.
رغم أن الأزمة لم تستوفِ بعد كل المعايير التي تدل على هشاشة النظام بشكل حاسم، إلا أن موازين الأمور قد تنقلب بسرعة
ويتجلى هذا المعنى الضمني في اختيار اسم العملية: “الأسد الناهض”. فعلاوةً على كونه موصوفا رسميا كمرجع ذي بعد توراتي قد يلقى صدى لدى الإسرائيليين، فإن العبارة تحمل أيضاً رسالة مبطنة ومفهومة لدى الإيرانيين أنفسهم. إذ عرض الحساب باللغة الفارسية لقوات الدفاع الإسرائيلية صورا لشعار “الأسد والشمس” -وهو رمز وطني إيراني شهير طالما تصدر الأعلام الرسمية قبل ثورة 1979.
كما تكررت إشارات مشابهة في منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، أبرزها من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت ووزيرة الاستخبارات السابقة جيلا جامليئيل، التي كتبت “العام القادم في إيران حرّة!” وفي تعليق على فيديو يظهر ولي العهد الإيراني السابق رضا بهلوي، بعد عامين من زيارته إلى إسرائيل في أبريل 2023.
وتشير هذه التصريحات والرموز إلى إستراتيجية تواصل تستهدف مباشرة نحو 80 في المئة من الإيرانيين الذين تشير استطلاعات الرأي إلى أنهم يعارضون النظام الحاكم (رغم أنه يمكن الجدال بأن هذه الرسائل ستكون أكثر تأثيراً إذا صيغت بالفارسية بدلاً من الإنجليزية).
ويبدو أن الرسالة السياسية قد تعززت أيضاً عبر الضربات الإسرائيلية التي استهدفت باحات وسائل الإعلام الرسمية في إيران، ومقر الباسيج، ومدخل سجن إيفين سيئ الصيت في طهران -وهي رموز بارزة لآلة القمع والدعاية في الجمهورية الإسلامية.
ويبقى السؤال الجوهري: هل سينتفض الإيرانيون مجدداً كما فعلوا في محطات تاريخية سابقة، مثل انتفاضة الطلبة عام 1999، والحركة الخضراء عام 2009، والاحتجاجات الجماهيرية في ديسمبر 2017 – يناير 2018، واحتجاجات نوفمبر الدامي عام 2019، وانتفاضة “المرأة، الحياة، الحرية” عام 2022؟ والأهم: إذا اندلعت انتفاضة جديدة، فهل باتت الجمهورية الإسلامية هشة إلى درجة قد تنهار أمامها، رغم أن الانتفاضة الأخيرة لم تُحدث تغييراً جذرياً في بنية السلطة؟
وعقب اندلاع المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، وثقت مقاطع الفيديو طوابير طويلة من المركبات التي فرت من طهران شمالاً نحو منطقة بحر قزوين، فيما يشبه الهجرة الجماعية.
وتخلى البعض عن الرحلة بعد نفاد الوقود، فعاد إلى أحياءٍ تفتقر إلى صافرات إنذار أو ملاجئ مناسبة في وقت كانت فيه السلطات تحوّل المساجد والمدارس ومحطات المترو إلى ملاجئ مؤقتة وغير كافية. أما من لم يغادروا، فإما لأنهم طاعنون في السن، أو غير قادرين على تحمّل تكاليف المغادرة، أو لأنهم يرفضون الهروب مبدئياً.
وقد أضافت رسالة ترامب في 16 يونيو، والتي دعا فيها إلى “إخلاء طهران”، مزيداً من القلق لدى الإيرانيين داخل البلاد وفي الشتات.
ورغم أجواء الخوف السائدة، من الصعب تخّيل أن الملايين من الإيرانيين -لاسيما في العاصمة- سينزلون إلى الشوارع احتجاجاً في الوقت الراهن، بينما يركّز معظمهم على تأمين ضروريات البقاء.
ودخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، غير أن كلا الطرفين يبدو أنه قد خرقه بالفعل في اليوم الأول. لكن ماذا سيحدث عندما يشعر الإيرانيون أن التهديد المباشر من الضربات العسكرية قد زال؟
وتاريخياً، عندما تصل الاحتجاجات الجماهيرية إلى حجم معين، يكون تأثيرها شبه حتمي على استقرار الأنظمة.
وعلى سبيل المثال تشير أبحاث عالمة السياسة إريكا تشينوويث إلى أن الحركات السلمية التي يشارك فيها ما لا يقل عن 3.5 في المئة من السكان -أي أكثر من ثلاثة ملايين شخص في حالة إيران، التي يبلغ عدد سكانها نحو 90 مليوناً- تؤدي في معظم الأحيان إلى إسقاط النظام. كما أظهرت دراساتها أن هذا التأثير يمكن أن يتحقق أحياناً حتى بمشاركة أقل، وذلك حسب السياق المحلي.
والفكرة الأساسية هي أن مثل هذا الزخم الشعبي يخلق درجة من التعاطف داخل بنية النظام، ما يدفع بعض أركانه للانحياز إلى الشارع.
وفي الواقع، هناك سابقة لاندلاع احتجاجات خلال فترات الحرب، كما حدث خلال الحرب الإيرانية – العراقية (1980 – 1988). إلا أن تلك التحركات كانت تركز أساساً على المطالبة بإنهاء الحرب، وليس بإسقاط النظام.
وكذلك، هناك نماذج لانتفاضات اندلعت في أعقاب الحروب، كما حصل بعد هزيمة نظام صدام حسين في حرب الخليج عام 1991، حينما انتفضت الجماهير الكردية والشيعية في العراق خلال مارس، لكنها قُمعت بوحشية.
ويرى البعض أن تطوراً أكثر جذرية -كاغتيال المرشد الأعلى علي خامنئي- قد يُحدث تحولاً حاسماً يمهّد لسقوط النظام. وقد لمح مسؤول إسرائيلي مجهول مؤخراً إلى أن مثل هذا الخيار “ليس مستبعدا،” في حين قال الرئيس ترامب إن” قتل خامنئي لم يكن جزءاً من خطته، على الأقل ليس الآن.”
وحتى لو حصل هذا السيناريو، فإن مبدأ “ولاية الفقيه”، الذي يمنح المرشد الأعلى سلطته المطلقة، يتضمن آليات لحفظ الاستمرارية. فعلى الورق تُناط بمجلس خبراء القيادة -المؤلف من 88 عضوا- مهمة تعيين مرشد جديد حين يحين الوقت، لكن هناك اعتقادا شائعا بأن خطة خلافة أُعدت سلفاً، قد تشمل ابنه مجتبى خامنئي أو مرشحين آخرين.
ومع ذلك، فإن موت المرشد بشكل مفاجئ قد يُحدث تغييرات جذرية في تلك الخطة، من خلال إشعال احتجاجات شعبية واسعة ضد النظام. كما أن استمرار تفاقم الأزمة قد يدفع بعض أعضاء مجلس الخبراء إلى تفعيل صلاحياتهم رسمياً لعزل خامنئي -وهي خطوة تقول تقارير إن بعض النخب الإيرانية تناقشها بالفعل. وهناك دائماً احتمال أن يُجبر خامنئي على التنحي، سواء عبر الضغط أو الإقناع، للحفاظ على بقاء الجمهورية الإسلامية.
وعند تأسيس الجمهورية بعد ثورة 1979 حرص آية الله روح الله الخميني على حماية النظام الجديد من أي انقلاب محتمل من بقايا النظام الملكي. ولذلك منح الحرس الثوري دوراً محورياً في حماية الثورة من التهديدات الداخلية والخارجية، وصمم العلاقة بينه وبين الجيش النظامي بطريقة تُصعّب تنفيذ أي انقلاب عسكري. لكن اليوم فقدت المؤسسة الأمنية للحرس الثوري عدداً كبيراً من قياداتها العليا بسبب الضربات الإسرائيلية، وفي بعض الحالات قُتل حتى بدائلهم المحتملون.
وتشير تقارير غير مؤكدة إلى أن خامنئي نقل جزءاً من سلطاته إلى مجلس مصغّر من قيادات الحرس الثوري.
وفي الوقت نفسه تعمل الطبقة الأدنى في الجهاز الأمني -بما يشمل الباسيج والمتطوعين الجدد خلال الحرب- على إقامة نقاط تفتيش في مناطق مختلفة من البلاد، وتفتيش الشاحنات التي قد تنقل طائرات مسيّرة أو متفجرات أو ذخائر.
وتشير المعطيات الحالية إلى أن الجمهورية الإسلامية، رغم تفشي الفساد البنيوي والتغلغل الإسرائيلي العميق داخل أجهزتها، لا تزال قادرة على البقاء في الوقت الراهن. لكنها تصبح أكثر هشاشة مع توافر ظروف معينة قد تؤدي إلى اهتزاز بنيتها الداخلية.
وترى الباحثة هولي داغريس في تقرير نشره معهد واشنطن أنه يمكن رصد مؤشرات ضعف النظام الإيراني من خلال جملة من التطورات التي يندرج معظمها في خانة الانشقاقات الداخلية.
ومن أبرز هذه المؤشرات ما يتعلق بتراجع فاعلية قوات الأمن وعجزها عن التعبئة المنظمة، بل إن الأخطر من ذلك احتمال شروع بعض عناصرها في هجر الثكنات والقواعد العسكرية.
ويرافق ذلك تصاعد الانقسامات العلنية بين النخب السياسية، وظهور بوادر انشقاق بين مسؤولين بارزين، خاصة في ظل تقارير -كالتقرير الذي نشرته صحيفة واشنطن بوست- تشير إلى أن إسرائيل تمارس ضغوطاً مباشرة على بعضهم لدفعهم نحو الانفصال عن النظام.
وتتزامن هذه الانقسامات مع عودة موجات من الاحتجاجات الشعبية، وسط امتناع بعض قوات الأمن عن إطلاق النار على المتظاهرين، إما نتيجة شعورهم بأن النظام ينهار، أو لأن المحتجين هم من دوائرهم الاجتماعية والعائلية.
وفي حال تصاعد الغضب الشعبي، قد تصل الأمور إلى حد اقتحام المقار العسكرية والحكومية، أو تنفيذ عمليات انتقامية ضد رموز النظام. كما أن دخول العمال، خاصة في القطاعات الحيوية مثل النفط، في إضرابات واسعة يهدد بشلّ مفاصل الدولة الاقتصادية.
وتزداد خطورة المشهد مع تفاقم أزمة نقص المواد الأساسية كالغذاء والوقود، ما يضيف مزيداً من الضغط على الشارع.
وفي هذا السياق يبرز احتمال فرار كبار المسؤولين وعائلاتهم إلى دول حليفة مثل روسيا، رغم أن مغادرة المرشد الأعلى علي خامنئي نفسه تبقى مستبعدة، إذ من المرجح أن يختار البقاء والموت “شهيداً” على أن يفرّ، خاصة في ظل غياب ممرات آمنة للهروب نحو الغرب، وعدم توفر ملاذات معروفة للمسؤولين الراغبين في الانشقاق.
وكل هذه المؤشرات، إذا تراكمت، قد ترسم ملامح تصدّع داخلي خطير يُنذر باضطراب كبير في بنية النظام.
وحتى اللحظة لم يتحقق أي من هذه المؤشرات بشكل واضح. والمواطنون يترقبون بحذر، في انتظار ما إذا كان وقف إطلاق النار سيصمد، أو إن كانت الضربات الإيرانية ضد أهداف أميركية في قطر ستقود إلى تصعيد جديد.
وكلما طال أمد الحرب، وازدادت القدرة على التنبؤ بمسارها، تعززت فرص النظام في التأقلم والصمود.
وفي المقابل، على صناع القرار في الولايات المتحدة أن يتعاملوا مع الوضع الإيراني بوصفه مشهداً سريع التحول، ويستخلصوا الدروس من التجارب الحديثة في الشرق الأوسط -من هجوم حماس في 7 أكتوبر، إلى انهيار نظام بشار الأسد في سوريا وما تلاه- والتي أكدت مراراً أن الافتراضات التقليدية لا تصلح دائماً كأساس للتقدير أو التخطيط.
ولذلك يجب أن يكون هناك استعداد ليس فقط للتعامل مع حرب طويلة الأمد دون إستراتيجية واضحة، بل أيضاً لاحتمال انهيار نظام سلطوي تسبب في فوضى إقليمية وارتكب فظائع بحق شعبه على مدى أكثر من أربعة عقود.