نجاح ترامب الدبلوماسي لا ينهي حالة عدم اليقين في الشرق الأوسط

وقف إطلاق النار خفف من التوتر، لكنه لم يعالج جذور الأزمة، ولم يبدّد الشكوك حول طبيعة السياسات الأميركية في المنطقة.
الخميس 2025/06/26
مكاسب نسبية

واشنطن - خلال أقل من 48 ساعة، انتقل الرئيس الأميركي دونالد ترامب من إصدار أمر عسكري بقصف منشآت نووية إيرانية إلى الإعلان المفاجئ عن اتفاق لوقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل.

ولم تكن هذه السرعة في التحوّل مجرد تبدل في المواقف، بل عكست ديناميكيات معقدة وتوازنات حساسة تحكم الشرق الأوسط، حيث لا تكفي الضربات العسكرية لتعديل موازين القوى، ولا تضمن الاتفاقات المؤقتة إنهاء حالة عدم اليقين العميقة التي تخيّم على المنطقة.

وبالنسبة لترامب، مثّلت الضربة الأميركية لحظة شديدة الخطورة سياسياً. إذ وجد نفسه، بعد توجيه ضربات لثلاث منشآت نووية إيرانية، في مواجهة انتقادات واسعة من داخل صفوفه السياسية، لاسيما أولئك الذين طالما رأوا في خطابه الانتخابي وعداً بعدم توريط الولايات المتحدة في حروب جديدة. لكنه سارع إلى تحويل المسار، فاستثمر في وقف إطلاق النار ليقدّم نفسه كصانع للسلام، موظفاً ذلك في إطار دعائي محلي يعزز من صورته القيادية قبيل الاستحقاقات السياسية المقبلة. ورغم أن كل طرف من أطراف النزاع – واشنطن، طهران، وتل أبيب – قدّم وقف إطلاق النار على أنه إنجاز لصالحه، فإن الحقيقة أكثر تعقيداً.

وخسرت إيران، التي خاضت أقسى مواجهة عسكرية منذ الحرب مع العراق في الثمانينيات، خلال أيام معدودة قادة عسكريين وعلماء نوويين، وتعرضت منشآتها النووية والدفاعية لضربات قد يستغرق تعويض آثارها شهوراً وربما سنوات. لكنها، في المقابل، تمكّنت من الرد عبر صواريخ ومسيّرات استهدفت إسرائيل، ما منحها فرصة للظهور بمظهر الدولة القادرة على الرد، وإن بشكل محسوب ومدروس.

ومن جهة أخرى، كانت إسرائيل تخوض حرب استنزاف على جبهات متعددة منذ حرب غزة في أكتوبر 2023، وتعرضت خلال المواجهة مع إيران لهجمات غير مسبوقة على جبهتها الداخلية. وبينما بدت القيادة الإسرائيلية راغبة في توسيع نطاق التصعيد، جاء الضغط الأميركي ليُقيّد قدرتها على اتخاذ قرارات ميدانية منفلتة، وهو ما كشف حدود الدعم الأميركي “غير المشروط”، الذي طالما افترضته تل أبيب.

والمثير في هذا المشهد كان توقيت الهجوم الإيراني على قاعدة العديد الأميركية في قطر، والذي جاء متزامناً تقريباً مع إعلان ترامب عن وقف إطلاق النار. وعلى الرغم من أن الهجوم لم يُلحق أضراراً تذكر، إلا أن الرسائل السياسية التي حملها كانت واضحة: إيران تملك القدرة على الرد، لكنها اختارت سقفاً منخفضاً للحفاظ على فرص التسوية.

◙ التباين بين التصريحات السياسية والتقييمات الاستخباراتية يعكس الفجوة المعتادة بين التوظيف الإعلامي للقرارات العسكرية وواقع تأثيرها الميداني

واللافت أيضاً كان تصريح ترامب بشكر طهران على “الإشعار المسبق”، وهي عبارة قلّما تُستخدم في سياق اشتباك مباشر، ما يشير إلى وجود قنوات اتصال خلفية، أو على الأقل فهم متبادل لحدود التصعيد. وعلى الجانب الأميركي، لم يكن الأثر العسكري لضرب المنشآت النووية حاسماً كما صوّره ترامب. وبينما وصف الضربة بأنها “أنهت” البرنامج النووي الإيراني، أشارت تقارير استخبارية أولية إلى أن الأضرار أعادت البرنامج أشهراً إلى الوراء، دون أن تلحق به دماراً إستراتيجياً.

ويعكس هذا التباين بين التصريحات السياسية والتقييمات الاستخباراتية الفجوة المعتادة بين التوظيف الإعلامي للقرارات العسكرية وواقع تأثيرها الميداني. وفي السياق الدبلوماسي، برز دور بعض الدول الخليجية، لاسيما قطر، التي لعبت دوراً محورياً في تهدئة التصعيد، بعيداً عن الأضواء. ووفقاً لمحللين، فإن ما بدا أنه “قرار أميركي منفرد” بوقف إطلاق النار، استند عملياً إلى جهود وساطة إقليمية كثيفة لم تُعلن تفاصيلها.

وهذا ما أكده الباحث براين كاتوليس، الذي شدد على أن الاتصالات الدبلوماسية غير المعلنة في الخليج كانت أكثر تأثيراً من تغريدات ترامب في توجيه سلوك الأطراف المتنازعة. وفيما بدا أن ترامب يحصد مكاسب داخلية سريعة من هذا المخرج السياسي ـ العسكري، فإن التقييم الأوسع يظل أكثر تعقيداً. فالمكاسب قصيرة المدى لا تعني بالضرورة استقراراً طويل الأمد.

وخفف وقف إطلاق النار من التوتر، لكنه لم يعالج جذور الأزمة، ولم يبدّد الشكوك المتراكمة حول طبيعة السياسات الأميركية في الشرق الأوسط. كما أن طريقة إدارة ترامب للأزمة — عبر المزيج من التحركات العسكرية المفاجئة والتصريحات السياسية المتناقضة — خلقت حالة من الإرباك في الأوساط الدولية، وحتى داخل المؤسسات الأميركية ذاتها.

ومحلياً، وفّر إنهاء التصعيد غطاءً سياسياً لترامب، مكّنه من الحفاظ على وحدة قاعدته الانتخابية. فبينما أبدى الجمهوريون المتشددون ترحيبهم بالضربة العسكرية، تجنب ترامب خوض مغامرة طويلة كانت لتثير معارضة أوسع في الداخل. لكن هذا التوازن الدقيق يظل هشاً، خصوصاً في ظل التحديات المستمرة في غزة ولبنان، حيث لا تزال إسرائيل تشن عمليات رغم اتفاقات وقف إطلاق النار، مدفوعة بثقة مفرطة بأن الدعم الأميركي باقٍ في كل الأحوال.

وتشير الباحثة أنيل شيلين إلى أن ترامب، وإن أظهر قدرة على كبح جماح تل أبيب حين يشاء، فإنه مطالب اليوم بإظهار الحزم نفسه في ملفات أخرى، خاصة إذا أراد أن يُقدّم نفسه فعلياً كضامن للاستقرار وليس فقط كصانع مؤقت للهدن.

ويعتبر مراقبون أن ما حدث لم يكن انتصاراً لأي من الأطراف الثلاثة بقدر ما كان هروباً من حرب لا يريدها أحد. الضربات وجهت، والخسائر وقعت، لكن النهايات ظلت مفتوحة، والخوف من الانفجار المقبل باقٍ في الأذهان. وبين خطاب الانتصارات، وصور الأقمار الصناعية للمنشآت المدمّرة، يظل الشرق الأوسط مساحة ملغومة، لا تكفي فيها الضربات الدقيقة ولا الاتفاقات المؤقتة لضمان استقرار دائم.

6