النزوح الداخلي يعيد رسم الخارطة السكانية للعاصمة الليبية

طرابلس - في العاصمة الليبية طرابلس لم يعد مشهد النزوح مقتصرا على فترات الاشتباكات أو أوقات الأزمات العابرة، بل تحوّل إلى واقع دائم يعيد تشكيل المدينة قطعةً قطعة، وحيًّا حيًّا.
ومنذ سنوات يعيد السكان رسم خرائطهم السكانية، لا وفق فرص العمل أو المدارس أو المرافق، بل وفق مراكز الاشتباك والمقار العسكرية، ووفق من هو المسيطر الآن ومن قد يصبح مسيطرا غداً. وفي كل موجة تصعيد تتحرك آلاف الأسر من مواقعها، تاركة وراءها ذكريات وأثاثًا وشعورًا بالانتماء، بحثاً عن حي “أكثر أمانا”، ولو بشكل مؤقت.
وأعادت هذه التحولات السكانية الصامتة ترتيب ديمغرافيا المدينة دون قرار سياسي أو تخطيط عمراني، بل تحت ضغط الرصاص والخوف وعدم اليقين.
ويرى الناشط المدني حافظ كرير في تصريح لوكالة الأنباء الألمانية أن “خبرة الليبيين في التعايش مع التوترات كانت ضعيفة،” لكنهم باتوا اليوم يتأقلمون بشكل قاسٍ مع واقع لا يصنعونه. النزوح، في رأيه، ليس فقط هروبا من خطر، بل جزء من نمط حياة جديد قسري، يعيشه الناس تحت وطأة دولة ضعيفة وصراع لا ينتهي.
ومنذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي في 2011، دخلت ليبيا في دوامة من الانقسام السياسي وتفكك المؤسسات، وانهيار أمني شمل معظم المدن، لكن طرابلس بقيت القلب النابض، ما جعلها مركز الثقل، ومركز الصراع أيضاً. ومع كل موجة صراع تتغير الجبهات، وتتبدل خارطة النفوذ، ومعها تتحرك الأحياء. فمن يملك بيتًا قرب معسكر أو مقر ميليشيا، بات عليه أن يقرر: هل يبقى؟ أم يحمل أطفاله وبعض الأغراض ويغادر؟
وتقول منظمة “تشاتام هاوس” البريطانية في أحد تقاريرها الحديثة إن العاصمة الليبية أصبحت “ساحة صراع بين مجموعات مسلحة تتنافس على النفوذ تحت غطاء الشرعية الرسمية،” ما يفسر كثافة الاشتباكات في قلب المدينة، وتحديدًا حول المؤسسات الحيوية والبنوك والمقار السيادية.
ويرى كرير أن المدينة لم تعد مكانًا للعيش بقدر ما أصبحت مركزًا للصراع على السلطة والثروة. ويقول “الصراع على المناصب والمال يلازم محيط المؤسسات الكبرى،” ولهذا تحدث أغلب الاشتباكات في العاصمة، وهو ما دفع بعض الأصوات للمطالبة بنقل المقرات الإدارية إلى خارج المدينة، أو إنشاء عاصمة بديلة، تحفظ للمدنيين ما تبقى من حياة.
◙ العاصمة الليبية أصبحت ساحة صراع بين مجموعات مسلحة تتنافس على النفوذ تحت غطاء الشرعية الرسمية
ولا يعكس هذا النزوح الداخلي هشاشة الوضع الأمني فقط، بل يبرز أيضاً غياب الثقة بمؤسسات الدولة. فالسكان لم يعودوا ينتظرون تدخلًا حكوميًا لإجلائهم أو تأمينهم، بل باتت هناك “خطة طوارئ منزلية” في كل بيت طرابلسي: وثائق العائلة محفوظة في حقيبة، الأموال تُخزن في المنازل أو تُحوّل إلى ذهب، مولد كهرباء احتياطي، وربما بئر مياه محفورة في الفناء الخلفي. إنها ملامح ما يسميه كرير بـ”اقتصاد التأقلم”، حيث يُعاد تعريف البقاء كأولوية قبل أي شيء آخر. وقد شهدت طرابلس في مايو 2025 واحدة من أعنف جولات القتال منذ سنوات.
ووصلت الاشتباكات هذه المرة إلى قلب المدينة، واخترقت الأحياء المكتظة، وشوهدت الدبابات والمدافع الثقيلة وسط السكان، ما أدى إلى توقف الحياة تماماً لأيام: المدارس أُغلقت، الأسواق جُمدت، البنوك توقفت، وحتى دوري كرة القدم أُجّل إلى أجل غير مسمى.
وفي ذروة هذه الأحداث خرج الناس إلى الشوارع في مشاهد احتجاج نادرة. ولم تكن المظاهرات سياسية تقليدية، بل كانت صرخة تعب من العيش على هامش الحياة، ورفضا مستمرّا لأن يدفع المدنيون دائماً ثمن الحرب.
وفي شهادة مؤثرة قال أحد سكان حي النوفليين “لماذا لا تذهبون إلى القتال في الصحراء؟ لماذا تتوسطون المدنيين؟ هل علينا دائماً أن ندفع فاتورة الصراع على السلطة والنفط؟” وأمام هذه الصورة لم يعد النزوح مجرد خيار، بل تحوّل إلى بوصلة تحدد مصير الأحياء، وترسم حدود المدينة الجديدة.
ونزح من أحياء مثل أبوسليم وصلاح الدين وعين زارة الآلاف، بينما استقبلت مناطق مثل جنزور وسوق الجمعة وتاجوراء أعداداً متزايدة من النازحين، ما خلق ضغطًا كبيرًا على الخدمات، ورفع أسعار الإيجارات، وفتح فجوات جديدة في النسيج الاجتماعي.
ولم تقتصر موجات النزوح على سكان العاصمة الأصليين فقط، بل توافدت إليها أيضاً أسر من الجنوب والشرق، هربًا من الاشتباكات المتكررة أو تدهور الأوضاع المعيشية، ما جعل طرابلس -رغم هشاشتها- ملاذاً مؤقتًا لآلاف آخرين.
وفي ظل انعدام أفق سياسي واضح، وانقسام السلطة بين حكومتين متنازعتين، وصراع خارجي تغذيه مصالح إقليمية ودولية، لا يبدو أن النزوح سيتوقف قريباً. بل من المرجح أن يظل عنصرًا حاسمًا في تشكيل هوية طرابلس، وطبيعة الحياة فيها.
ويختصر كرير المشهد بكلمات ذات نبرة ساخرة “الليبيون لا يستحقون ما يحدث لهم. لقد اتبعوا ما يشبه سلسلة تطور داروينية ولكن بأثر سلبي، وبنسق أسرع، لا يحتاج انتظار تعديل الجينات الوراثية. مجرد تأقلم سريع وقاهر مع أحداث لا يصنعونها، لكنهم الخاسر الأكبر فيها.”
ورغم هذا الواقع القاسي تبقى طرابلس مدينة تنبض بالحياة، لا تستسلم بالكامل؛ فما إن يتوقف صوت الرصاص، حتى تمتلئ الأسواق، وتُفتح الأبواب، ويعود الناس إلى الشوارع. لكنهم يعودون بحذر، وعينٌ دائمة على المجهول القادم.