هل يمكن أن تؤدي الهجمات الإسرائيلية إلى إسقاط النظام في إيران

في ظل التصعيد العسكري الإسرائيلي وتضييق الخناق الاقتصادي على إيران، تبقى احتمالات تغيير النظام مرتبطة بعوامل داخلية معقدة يصعب التحكم بها من الخارج. وبينما تراهن إسرائيل والولايات المتحدة على إنهاك النظام، تشير المعطيات إلى أن مثل هذا التغيير -إن حدث- سيكون نتاج تفاعل داخلي طويل الأمد، لا نتيجة مباشرة لضربات جوية أو تدخل خارجي.
واشنطن - في عام 2002، وخلال إدلائه بشهادته أمام لجنة بالكونغرس الأميركي، اقترح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مازحا أن تَبُثّ الولايات المتحدة برامج تلفزيونية تخريبية مثل “ملروس بليس” و”بيفرلي هيلز 90210″ إلى إيران لإثارة احتجاجات قد تُسقط النظام.
وبعد ثلاث وعشرين سنة، يبدو أن إسرائيل تسعى إلى تحقيق نفس الهدف من خلال حملة الغارات الجوية التي تشنها على إيران، وأُطلقت عليها اسم “عملية الأسد الصاعد”.
وحث نتنياهو الإيرانيين على الثورة ضد الجمهورية الإسلامية، وأعرب العديد من أعضاء الحكومة الإسرائيلية، إلى جانب صقور إيران في الولايات المتحدة، عن تفاؤلهم بأن تغيير النظام قد يكون وشيكا.
ويرى ماثيو باي، كبير محللي الشؤون الدولية بشركة استشارات معلومات المخاطر “رين نتوورك” أن الهجمات الإسرائيلية تتجاوز بشكل ما إلحاق ضرر بالغ بالبرنامج النووي الإيراني (وهو المبرر الأصلي لشن الغارات الجوية في 13 يونيو) وتستهدف أيضا خلق اضطرابات سياسية واقتصادية داخل إيران.
ومن الأدلة على ذلك استهداف إسرائيل لمؤسسات سياسية، مثل مقر هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، ومستشارين مقربين من المرشد الأعلى علي خامنئي، وبنى تحتية اقتصادية كمنشآت الطاقة، في محاولة لتعميق الأزمة الاقتصادية بين الإيرانيين.
في الوقت الحالي، من غير المرجح أن تتزامن الحملة الجوية الإسرائيلية مع بداية انتفاضة داخلية قوية في إيران، على غرار تلك التي شهدتها يوغوسلافيا أو ليبيا
ورغم أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بحسب التقارير، منع محاولة إسرائيلية سابقة لاغتيال خامنئي، إلا أن مثل هذه الضربة لا تزال واردة.
وقد تُفضي عملية “الأسد الصاعد” في نهاية المطاف إلى سقوط الجمهورية الإسلامية أو تحوّلها. إلا أنه لم يثبت تاريخيا أن الحملات الجوية المُستمرة (مثل عمليات الحصار التي تهدف إلى إضعاف العدو والسيطرة عليه) قد أفضت، إلا فيما ندر، إلى تغيير النظام بمفردها.
ومن أحدث الأمثلة التي ساهمت فيها الحملات الجوية في انهيار الحكومات قصف حلف شمال الأطلسي (الناتو) ليوغوسلافيا سنة 1999 خلال حرب كوسوفو، ومنطقة حظر الطيران التي فرضها الناتو في 2011 فوق ليبيا خلال حربها الأهلية.
وحتى في هاتين الحالتين، مرّ وقت طويل بين الضربات الجوية والإطاحة بالحكومتين في النهاية على يد المتظاهرين أو جهات فاعلة داخلية أخرى.
وفي المقابل، غالبا ما تفشل الحملات الجوية في إحداث انتفاضات محلية أو انهيار هيكلي، كما يتضح من القصف خلال حرب الخليج في 1991 بعد غزو العراق للكويت.
وقد يكون استسلام اليابان سنة 1945 بعد القصف الذري الأميركي لهيروشيما وناغازاكي أقرب مثال على أن الغارات الجوية يمكن أن تُفضي إلى تغيير النظام. ولكن هذه المقارنة خاطئة، لأنها حدثت في سياق حرب شاملة بين دولتين.
معوقات تغيير النظام
في الوقت الحالي، من غير المرجح أن تتزامن الحملة الجوية الإسرائيلية مع بداية انتفاضة داخلية قوية في إيران، على غرار تلك التي شهدتها يوغوسلافيا أو ليبيا، حيث اندلعت الاحتجاجات بالفعل أو سرعان ما أعقبت غارات جوية.
وبينما يعارض العديد من الإيرانيين حكومتهم، فإن نسبة كبيرة منهم تكنّ كرها عميقا لإسرائيل، وهو شعور شائع في العالم الإسلامي.
ونتيجة لذلك، من المرجح أن تُثير الحملة الإسرائيلية الجديدة مشاعر الفخر القومي في إيران، مما يُثير ظاهرة “الالتفاف حول العلم” بين الجماعات العلمانية والإسلامية على حد سواء، في البداية على الأقل.
وفي الواقع، يصبح من الأسهل على القيادة الإيرانية استحضار المشاعر القومية للحفاظ على السيطرة كلما زاد استهداف إسرائيل للبنية التحتية المدنية.
ورغم أن الغارات الجوية ستُفاقم بالتأكيد مصاعب اقتصاد إيران المُنهك أصلا (الذي أضعفته العقوبات الأميركية لعقود) إلا أنه لا يوجد دليل يُذكر على أنها ستُشعل بسرعة احتجاجات لن تستطيع قوات الأمن الإيرانية قمعها.
وشهدت إيران خلال العقود الثلاثة الماضية موجات احتجاجية عديدة: احتجاجات الطلاب في 1999، والحركة الخضراء عام 2009، واضطرابات 2017-2018، واحتجاجات الوقود خلال 2019-2020، ومظاهرات مهسا أميني 2022-2023.
وبعد الضربات الإسرائيلية الأخيرة، لا توجد مؤشرات تُذكر على وجود انقسامات داخل الحرس الثوري الإسلامي أو غيره من الأجهزة الأمنية. بل على العكس، قد تُوحد هذه الهجمات مؤقتا المتشددين والمنظرين الأيديولوجيين في إيران، وينتمي الكثير منهم إلى الحرس الثوري الإسلامي.
وبالإضافة إلى ذلك، افتقرت حركات الاحتجاج الأخيرة في إيران إلى قائد موحد وقوي. ويُعد رضا بهلوي، وريث الشاه محمد رضا بهلوي البالغ من العمر 64 عاما، الشخصية الأبرز خارج النظام الحالي. ولكنه يعيش خارج إيران منذ الإطاحة بوالده في الثورة الإسلامية سنة 1979. وعلى النقيض من روح الله الخميني قبل عودته، فإنه لا يحظى بدعم داخلي يذكر.
سيناريوهات محتملة
يبقى تغيير النظام في إيران أمرا مستبعدا، إلا أنه ليس مستحيلا. وتتعدّد احتمالات حدوثه في المستقبل القريب أو البعيد.
ويتضمن السيناريو الأكثر ترجيحا استمرار الهجمات الإسرائيلية، بما يدفع الفصائل المتشددة داخل إيران إلى تنفيذ انقلاب عسكري يستبدل الحكومة الحالية بدكتاتورية عسكرية بحكم الأمر الواقع.
ولتحقيق ذلك، سيتعين على إسرائيل على الأرجح مواصلة الضربات المكثفة التي تستهدف القيادة الإيرانية، وربما اغتيال خامنئي.
وقد يشجع هذا المتشددين داخل النظام (وخاصة من الحرس الثوري الإيراني وليس الجيش النظامي) على عزل رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان وتشكيل مجلس عسكري أو هيئة بقيادة عسكرية.
والمبرر هنا هو ضرورة العسكرة الكاملة لحماية النظام والرد بشكل أكثر فعالية على التهديد الإسرائيلي المتصاعد.
وستظل القيادة الدينية تدعم هذه الحكومة العسكرية الجديدة، لكنها قد تُعيّن شخصية دينية أو مجلسا دينيا أضعف بدلا من مرشد أعلى يتمتع بسلطة خامنئي.
وفي النهاية، لن تكون هذه النتيجة في صالح إسرائيل أو الولايات المتحدة، لأنها ستخلق نظاما أكثر تطرفا قد يصبح أكثر التزاما بتطوير الأسلحة النووية.
والنتيجة الأقل احتمالا هي أن تقود عناصر معتدلة من النظام أو شخصيات سياسية انقلابا ملكيا للحفاظ على جوانب من الجمهورية الإسلامية.
وسيتطلب هذا على الأرجح حملة قصف إسرائيلية طويلة ومدمرة. وإذا عجزت إيران عن مواصلة برنامجها النووي وواجهت خطر المزيد من الهجمات، فقد يُطيح أعضاء براغماتيون في الحكومة أو الجيش بالمتشددين، وخاصة في حال وفاة خامنئي أو مقتله، ويستبدلونه بزعيم أكثر اعتدالا.
وقد تكون هذه الحكومة الجديدة أكثر استعدادا للتفاوض مع إسرائيل والغرب وتقديم تنازلات بشأن القضايا النووية. ومع ذلك، تتعدّد العقبات الرئيسية التي تجعل هذا السيناريو مستبعدا.
ويوجد مسار محتمل آخر، وإن كان أقل احتمالا، لتغيير النظام، قد يأتي من انتفاضة شعبية واسعة النطاق، خاصة إذا أفضت الهجمات الأميركية والإسرائيلية إلى تدهور حاد في الظروف المعيشية.
وفي هذا السيناريو، تُلحق الضربات الإسرائيلية، وربما الأميركية، ضررا أكبر بالاقتصاد الإيراني من خلال استهداف البنية التحتية المدنية، بما في ذلك أنظمة الطاقة.
ونتيجة لذلك، تُكافح إيران لتوفير ما يكفي من البنزين والوقود للطبقتين الدنيا والمتوسطة. ويدفع ارتفاع تكاليف المعيشة الإيرانيين المتضررين اقتصاديا إلى الاحتجاج الجماعي، مُحاكيا بذلك المظاهرات التي أدت إلى ثورة 1979 بعد تدهور اقتصادي واجتماعي طويل. ورغم أن إيران واجهت سابقا العديد من الاحتجاجات الاقتصادية المناهضة للحكومة، إلا أن الوضع يتدهور إلى مستوى يتزايد فيه نطاق الاحتجاجات و/أو تواترها، والأهم من ذلك، أن عناصر من الفصائل المعتدلة والإصلاحية داخل المؤسسة السياسية الإيرانية تبدأ بدعمها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
ورغم أن سيناريو انقلاب مدعوم من الغرب أو إسرائيل يُطيح بالحكومة القائمة احتمال مستبعد للغاية، إلا أنه من الممكن أن تستغل إسرائيل والولايات المتحدة تغلغلهما في الحكومة والمجتمع الإيرانيين لتنفيذ انقلاب بقيادة أجنبية أو فرض تغيير. ولكي ينجح هذا الانقلاب، يتعين على إسرائيل والولايات المتحدة التعاون الوثيق وإقناع الشخصيات الإيرانية النافذة، أو المتعاطفة معها بالفعل. وفي المقابل، سيعرضان تطبيعا سريعا للعلاقات مع النظام الجديد.
ويتطلب سيناريو رضوخ إيران بالكامل للمطالب الأميركية والتزامها بالإصلاح السياسي غارات جوية إسرائيلية أو أميركية متواصلة لعدة أشهر، ستضطر خلالها القيادة الإيرانية إلى استنفاد قدراتها العسكرية، كالطائرات المسيرة والصواريخ. وفي سيناريو متطرف وقليل الاحتمال، قد تُفجّر إسرائيل رأسا نوويا للإشارة إلى تصميمها، على أمل إجبار إيران على الاستسلام.
وفي نهاية المطاف، من الممكن استسلام الجمهورية الإسلامية التام للإصلاحات السياسية الكبرى والتغيير الهيكلي، مع أنه يبقى السيناريو الأقل احتمالا لتغيير النظام.
وإذا صعّدت إسرائيل والولايات المتحدة غاراتهما الجوية لاستهداف القيادة السياسية الإيرانية بشكل منهجي، بما في ذلك أعضاء البرلمان والمسؤولون القضائيون ومجلس صيانة الدستور ومؤسسات أخرى غير عسكرية، فقد يقرر القادة الإيرانيون أن الاستسلام للولايات المتحدة هو السبيل الوحيد لبقاء الجمهورية الإسلامية بأي شكل من الأشكال.
وفي الواقع، من المرجح أن تدخل الجمهورية الإسلامية في وضع الحفاظ على الذات، مقدمة تنازلات كبيرة تشمل برنامجها النووي، لتجنب وضع يهدد بقاء النظام. ولطالما كان الحفاظ على الذات محورا أساسيا في إستراتيجية الجمهورية الإسلامية. ومن المرجح لذلك أن تختار إيران التفاوض مع الولايات المتحدة والتنازل عن مواقف راسخة، مثل تخصيب اليورانيوم، لتجنب سيناريوهات قد تؤدي إلى انهيارها.
ومن الأمثلة التاريخية البارزة على ذلك قرار روح الله الخميني عام 1988 قبول وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب الإيرانية العراقية، رغم سنوات من الرفض. وقد تجلى ألمه العميق في رسالة عبر فيها عما يشعر به من مرارة لبقائه حيا إلى يوم اضطرّ فيه إلى اتخاذ مثل هذا الخيار، واصفا وقف إطلاق النار بأنه “أشد فتكا من تناول السم. لقد استسلمتُ لإرادة الله وشربتُ هذا الشراب إرضاء له.”
وإذا أجبرت الضغوط الإسرائيلية و/أو الأميركية المتزايدة المرشد الأعلى الحالي علي خامنئي على اتخاذ موقف مماثل، فمن المرجح أن يختار الاقتداء بسلفه الخميني وليتجرع الكأس المسمومة بدلا من السماح بسقوط الجمهورية الإسلامية.