مكتبة "تاليا" في فيينا.. مرآة لا يرى فيها العرب أنفسهم

المكتبة مساحة مجانية للكرامة الفكرية ونموذج لمجتمع يقرأ وآخر يركض خلف الظل.
الأحد 2025/06/15
نداء مكتوب بحبر الأمل: اقرأ لتعد

تزخر المدن الأوروبية الكبرى بالعديد من المعالم الثقافية الهامة على غرار المكتبات التي تمثل رموزا للنهضة الأوروبية، وما يلفت الانتباه هو الحضور الكبير لكل الجنسيات لهذه المعالم والصروح الثقافية العريقة، وفي المقابل شبه غياب للعرب، رغم تواجدهم بنسب هامة في مختلف أنحاء أوروبا، وهذا هو الحال في مكتبة "تاليا" في فيينا.

في قلب شارع "ماريا هيلفر"، ذي الصدى الذي لا يخفت بين أروقة مدينة فيينا، تقف مكتبة “تاليا” كصرح ثقافي لا يشبه غيره. ليست مجرد متجر للكتب، بل هي أشبه بتحفة فنية تنبض بالحياة، تنادي عابري السبيل أن يتوقفوا قليلا.. أن يصغوا لهمس الصفحات، ويستنشقوا عطر الورق المحمل بتاريخ الأفكار، ودفء الحبر المتعانق مع الفكر الإنساني.

تجديد شامل طال أركان هذه المكتبة على مدى ستة أشهر، عانقت فيه الحداثة رقي التصميم، ليولد فضاء معرفي عصري، متعدد الطوابق، غني بتفاصيله التي تسر الناظر وتثري القارئ. عناوين متجددة، ودوريات متنوعة، وأدوات قرطاسية أنيقة، وقسم مخصص للرسم يشبه معارض الفن أكثر مما يشبه متجرا.. وحتى المقهى، في طابقها الأول، يتيح لحظات تأمل صامتة في حضرة الكلمات.

ورغم هذا الغنى البصري والمعرفي، يبقى ما يوجِع حقا هو الغياب.. غياب الوجه العربي. فمن النادر أن تلمح عربيا يتصفح كتابا أو يتأمل غلافا أو يتوقف عند رف المجلات.

هذا الغياب لا ينبع من ترف الوقت أو غياب اللغة فحسب، بل من ابتعاد مؤسف عن جوهر المعرفة، عن تلك الرحلة الإنسانية التي تجعل من القارئ أكثر فهما لذاته وللعالم من حوله. وكأن هاجس الرزق اليومي قد طغى على هاجس الوعي، وكأن السعي وراء المال بات يختزل طموح الإنسان، ويجعل من “الكتاب” مجرد أثاث فكري لا يليق بالمستعجل، أو رفاهية لا يملكها المهموم بلقمة العيش.

هوية في خطر

المكتبة التي تشغل مساحة واسعة تتوزع على أربعة طوابق، تدهشك بتنوعها وأناقتها، وتأسرك منذ الخطوة الأولى

“تاليا”، ليست مجرد مكتبة، بل محاولة صادقة لأنسنة المدينة، أن تذكّر الزائر أن الحياة ليست محصورة في الأسواق والماركات والمقاهي الصاخبة. إنها مساحة تدعونا ـ  نحن العرب خصوصا ـ أن نعيد النظر في أولوياتنا، أن نشعل في أبنائنا شغف المطالعة، أن نذيب الحواجز بيننا وبين اللغة والمعرفة، وأن نستعيد يقينا بدأ يخبو: أن الأمم لا تبنى بالحجارة فقط، بل بالكلمات أيضا.

فلعلها دعوة مفتوحة لكل شاب عربي يقطن هذه المدينة أو يمر بها.. أن يمنح لنفسه ساعة في حضرة الكتب، أن يدخل “تاليا” لا متسوقا بل قارئا، لا غريبا بل ابنا للمعرفة. فربما كانت الصفحات المصفوفة على رفوفها، هي الجسر الذي يقوده إلى فهم أعمق لذاته، وارتباط أصدق بجذوره، وانفتاح أكثر وعيا على العالم من حوله.

في الجهة الجنوبية الغربية من مدينة فيينا، تنبسط فسحة من الزمن والمعمار، اسمها شارع “ماريا هيلفر”، أحد أشهر شرايين الحياة في العاصمة النمساوية. شارع يعج بالحركة، تلتقي فيه وجوه السياح بأرواح السكان المحليين، حيث تتجاور المتاجر الراقية، والمقاهي النابضة، والفنادق التي تتعدى المئات، قديمها يروي عبق الماضي، وحديثها يعكس حداثة الحاضر.

وعلى امتداد هذا الشارع، الذي يعد من أبرز وجهات التسوق في المدينة، ينهض صرح ثقافي بكل ما للكلمة من امتداد: مكتبة “تاليا”، تلك التي لا تكتفي بأن تكون مكانا لبيع الكتب، بل تشبه معبدا صغيرا للمعرفة، مقاما في قلب عالم استهلاكي صاخب، كأنها تقول لنا: لا زال هناك متسع للتأمل، ولا زال للكلمة مكان تحت الشمس.

المكتبة التي تشغل مساحة واسعة، تتوزع على أربعة طوابق، تدهشك بتنوعها وأناقتها، وتأسرك منذ الخطوة الأولى برائحة الورق المصقول، وغزارة ما تحتويه من كتب ومجلات وصحف، تتجاوز عناوينها الخمسمئة، ما بين علم وفن، سياسة وأدب، موسيقى وطبخ، تصوير ورسم.. كل ما يمكن أن يحتاجه القارئ، وحتى المتأمل العابر.

في مكتبة "تاليا" لا تصافح عينك الكتب فحسب بل تلمس روحك عالما متسعا ومفتوحا من الألوان والأفكار والثقافات

وفي الطابق الأرضي، تجد كل ما يخطر في بال كل طالب علم: أدوات قرطاسية، أجندات فاخرة، حقائب أنيقة، وأشرطة موسيقية وسينمائية تتراوح بين الكلاسيكي والحديث. أما الطابق الأول، فهناك استراحة ومقهى، صمّما كأنهما دعوة للاستبطان، للقراءة الهادئة على مهل، في جو يشبه الخلوة الفكرية أكثر من كونه فضاء تجاريا.

غير أن ما يلفت، لا في زينة المكان ولا في ازدحامه، بل في صمت مؤلم ينسدل بين الرفوف، غياب العربي عن هذا المشهد. هو غياب لا تبرّره اللغة، ولا تعفيه المسافة. فالمكتبة تفتح أبوابها بالمجان، وتتيح للزائر أن يتصفح، يقرأ، يتأمل، بلا قيد أو تكلفة. ومع ذلك، قلما ترى عربيا بين روادها. حتى من أولئك الذين مضى على إقامتهم في النمسا أعوام، أو من أبناء الخليج الذين اعتادوا زيارة فيينا في عطلهم، وجوههم لا تعكس شغف القراءة، بل تمر كأن المعرفة سلعة لا تغري، أو ترف لا يرتجى.

وهنا تتبدى المعضلة بشكلها العميق: غياب العربي عن فضاءات الثقافة، لا يعبّر عن قلة وقت أو مال، بل عن اختلال في الأولويات، عن مجتمعات باتت تدرب أبناءها على اللهاث لا التأمل، وعلى الاستهلاك لا الإدراك.

أمام هذا المشهد، نوجه نداء حارا، لا لتجميل الواقع، بل لكسْر جدرانه: أيها الشباب العرب في فيينا، لا تهجروا المكتبة. اجعلوا لها مكانا في شهركم، كما تجعلون للمقهى والشارع والمول. وإن ضاقت عليكم اللغة، فلتكن الزيارة في ذاتها فعل اعتراف بالحاجة إلى المعرفة، ومحاولة لتعلم شيء جديد. ليس من الضروري أن تفهم كل سطر، ولكن أن تقترب من الفكرة، من الكتاب، من ذاتك. فالكتاب ليس مرآة للأحرف فقط، بل مرآة للهوية، ونافذة لفهم العالم، ومفتاح لتجاوز الاغتراب الحقيقي الذي لا تصنعه الجغرافيا، بل الجهل.

 لعل من يطالع هذه السطور يدرك أن زيارة مكتبة، مهما بدت بسيطة، قد تكون البداية لتغيير عميق. إذ لا نهضة بلا قراءة، ولا وعي بلا معرفة، ولا مستقبل لمن لا ينصت لما تقوله الكتب في صمتها العميق.

صرخة في "تاليا"

لماذا لا يدخل العرب هذا المكان
لماذا لا يدخل العرب هذا المكان

في مكتبة “تاليا”، لا تصافح عيناك الكتب فحسب، بل تلمس روحك عالما متسعا من الألوان والأفكار، كأنك تدخل حضرة فكرية، يطيب فيها للوجدان أن يستريح، وللعقل أن يرحل، لا إلى مكان، بل إلى معنى.

هناك، بين رفوف المجلات الحديثة، يتفتح أمامك مشهد ثقافي مدهش: رياضة، سياسة، فنون، ثقافة، وعلوم لا يحدها خيال، من آخر صرخات السيارات الذكية، إلى رحلات الفلك، وعجائب التصوير، وسحر الموسيقى.. ثم إلى الصحف اليومية، تلك التي لا تنقل أخبارا فحسب، بل تحمل وجع الناس، وأصواتهم، وأسئلتهم، وتوثق نبض هذا الكوكب القلق.

وفي هذه المكتبة ـ التي لا تفرّق بين زائر وزائر، ولا تسأل عن لغة أو لون أو وطن ـ يمكنك أن تختار ما تشاء، وتغتني بما تحب، دون أن تدفع فلسا. إنها مساحة مجانية للكرامة الفكرية، ومتنفس لروح ما عادت تعرف كيف تصغي في هذا العالم المتسارع.

ولكن كم هو مؤلم أن نلاحظ غياب العرب عن هذا الفضاء، عن هذا النبض، عن هذه الوليمة المعرفية التي وجدت لأجله أيضا، لا بوصفه لاجئا أو مهاجرا، بل إنسانا، له الحق الكامل في الوعي، والإدراك، والنهوض.

للأسف، وكما تشهد عيوننا قبل حروفنا، يندر أن نرى أبناء لغة الضاد بين تلك الرفوف، بين تلك الصفحات التي تنتظر من يقلّبها لا ليمضي الوقت، بل ليصنع المعنى.

أين أنتم يا من جئتم إلى هذه البلاد بحثا عن أمان وكرامة؟ أليس من الكرامة أن تطعموا عقولكم كما تسعون لإطعام أجسادكم؟ أليس من الوفاء أن تقابلوا من احتضنكم بالرغبة في النمو، لا بمجرد الركض وراء المال؟ إن العلم ليس ترفا، بل خلاص، ولا يوجد وقت أنسب للارتواء من هذه الفرصة الثمينة المتاحة أمامكم مجانا، بوفرة مذهلة، بلا شرط أو قيد.

المكتبة لا تفرق بين زائر وزائر، ولا تسأل عن لغة أو لون أو وطن فيها تختار ما تشاء وتغتني بما تحب

ابتعدوا عن فوضى التسلية الزائفة في زوايا مواقع التواصل، وتوقفوا عن صراخ الادعاء، ومهاترات “الإبداع المزيف”. تلك المنشورات التي تظنونها فكاهة أو تميزا، ما هي إلا صدى فراغ ينعكس عليكم قبل أن يصيب غيركم. النشر لا يصنع كاتبا، كما أن الصوت العالي لا ينتج فكرة. عودوا إلى حيث البداية، إلى الكتاب، إلى المجلة، إلى الصحيفة.

هناك فقط، تصاغ الهوية من جديد، وتصقل الروح، وتنقّى اللغة. هناك فقط، يبنى الإنسان الذي لا يحركه المال، بل يدفعه الحلم.

فيينا، التي أنجبت فرويد واحتضنت موزارت وفتحت ذراعيها لفلسفة فيتغنشتاين، لا تزال تحتفظ بهيبتها كمكان ينتصر للفكر. و”تاليا” هي أحد تجليات هذا الانتصار. لكنها في مرآة الغياب العربي، تكشف هشاشتنا. نحن، القادمون من مدن أنهكتها الحروب والانقلابات، نبدو كأننا لا نزال نحمل رفاة القراءة معنا بدل أن نحمل شغفها.

ربما لم يعلّمنا اللجوء سوى الحذر، وربما جعلنا التغرّب نعتقد أن المعرفة رفاهية. لكن الحقيقة أقسى: نحن ابتعدنا عن الكتاب حتى نسينا لغته، نسينا كيف نصغي لحكمته، وكيف ننصت لصوت الكاتب كما لو كان يكلمنا نحن وحدنا.

ليس في “تاليا” مناد باللغة العربية، ولا رفوف تهمس بأسماء نزار قباني أو جبرا إبراهيم جبرا أو محمود درويش. لكن الكتب هناك، صامتة، تنتظر. تنتظر من يجرؤ على كسر الغربة، من يقول “سأدخل، سأقرأ، ولو لم أفهم.” لأن البداية في الفهم لا تكون بالمعرفة الكاملة، بل بالرغبة فيها.

نداء إلى الذات

محاولة صادقة لأنسنة المدينة
محاولة صادقة لأنسنة المدينة

نداء إلى الشباب العربي في فيينا: لا تجعلوا من الغربة ذريعة للانغلاق. لا تستبدلوا الركض نحو المال بالهروب من الفكر. “تاليا” ليست فقط مكتبة، إنها فرصة. دخولها ليس نزهة في الطابق الأول، بل عودة إلى الذات. وإن كانت الكتب ألمانية، ففيها ما يضيء، وما يحفّز، وما يصالحك مع نفسك.

اقرأ، وإن لم تفهم. زرها، وإن لم تشتر. انظر في عيون الآخرين، كيف يقرؤون، وافهم لماذا صاروا هم متقدمين، ونحن بقينا عالقين في أرشيف الحنين.

إن كانت المكتبات مرايا الأمم، فإن “تاليا” تعكس وجهين: وجه أوروبا المتصالحة مع كتابها، ووجه عربي تائه، يبحث عن ذاته في الممرات الخلفية. لكن المكتبة لا تحكم على أحد، ولا تغلق أبوابها. هي هناك، تفتح ذراعيها كل يوم، من الصباح حتى المساء، بلا مقابل، بلا شروط. هي، ببساطة، نداء مكتوب بحبر الأمل: اقرأ… لتعد.

إلى الشباب العرب في فيينا، ممن ظنوا أن الثقافة خيار هامشي، وأن الوعي مؤجل: تعالوا إلى مكتبة “تاليا”، لا لتشتروا، بل لتقرأوا، لا لتلتقطوا الصور، بل لتلتقطوا أنفسكم في مرآة المعرفة. أدركوا أن بين دفتي كتاب، قد تختبئ إجابة عمر، وقد تنمو فكرة تبدل مصيرا.

إن هذه اللحظة، حيث يتاح لكم كل شيء، مجانا، بهدوء، بكرامة، هي لحظة تستحق أن تعاش، وأن تستثمر، قبل أن تفقد. فليس الجهل هو عدم المعرفة، بل الرغبة المستمرة في الهروب منها.

10