المساعدات الإنسانية تعيد رسم خارطة النفوذ في غزة

آليات التوزيع تحيد حماس وتعكس المصالح الإسرائيلية - الأميركية على الأرض.
الأربعاء 2025/06/11
قواعد جديدة للتحكم في غزة

إسرائيل والولايات المتحدة تستخدمان المساعدات الإنسانية ليس فقط كوسيلة للإغاثة، بل أيضا كأداة إستراتيجية لإعادة تشكيل النظام السياسي في غزة، من خلال فرض آليات توزيع جديدة تفرض سيطرة مشددة، تحد من نفوذ حماس وتكبل حركة السكان.

غزة - في نهاية مايو 2025، أُطلقت مؤسسة غزة الإنسانية، بدعم مباشر من إسرائيل والولايات المتحدة، لتوزيع المساعدات الغذائية في قطاع غزة، في خطوة يرى مراقبون أنها تتجاوز كونها مجرد عمل إغاثي، لتتحول إلى أداة سياسية إستراتيجية تهدف إلى إعادة تشكيل السياسات والسيطرة على قطاع غزة. ويأتي هذا التطور في ظل حصار إسرائيلي صارم استمر لما يقرب من ثلاثة أشهر، أدى إلى أزمة إنسانية حادة، حيث بات نحو 2.3 مليون فلسطيني على حافة المجاعة وفق تقديرات الأمم المتحدة.

ويشير محللون إلى أن من خلال إطلاق هذه المؤسسة، تسعى إسرائيل والولايات المتحدة إلى فرض نموذج جديد لإدارة المساعدات، يهدف بشكل أساسي إلى الحد من تأثير حركة حماس، التي تتهمها إسرائيل باستغلال النظام القديم لتوزيع المساعدات لصالح تقوية جناحها العسكري. ويوضح المحللون أن وفق هذا النموذج، تحاول الدولتان إعادة بناء آليات توزيع المساعدات تحت إشراف أمني وسياسي مشدد، مما يمنحهما أدوات ضغط وتحكم غير مسبوقة في غزة.

ويرى الباحث السياسي سامر الرفاعي أن هذه المبادرة تمثل جزءا من “لعبة نفوذ إستراتيجية تهدف إلى إضعاف حركة حماس عبر السيطرة الحصرية على الموارد الحيوية للسكان، وإعادة رسم خارطة السلطة داخل غزة.” ويضيف الرفاعي “الآليات الجديدة التي تفرض توزيعا مركزيا للمساعدات وتخضعها لرقابة أمنية مشددة تمثل أسلوبا حديثا للهيمنة السياسية يعكس المصالح الإسرائيلية والأميركية على الأرض.”

ويؤكد تمويل المؤسسة وتدعيمها من قبل حكومتي الولايات المتحدة وإسرائيل، بالإضافة إلى تعيين قيادة تنفيذية من خلفيات أمنية وسياسية أميركية لإدارتها، أن الهدف يتجاوز الإغاثة الإنسانية إلى محاولة فرض قواعد جديدة للتحكم في قطاع غزة.

ويعتمد هذا النموذج على تقليل عدد مواقع التوزيع بشكل كبير، ما يحد من وصول المساعدات إلى فئات واسعة من السكان، خصوصا الضعفاء منهم، ويضعهم تحت ضغوط متزايدة للقبول بهذا النظام الجديد أو مواجهة الحرمان. ويظهر ذلك جليا من خلال العمليات العسكرية التي رافقت توزيع المساعدات، حيث شهدت مواقع التوزيع إطلاق نار أسفر

عن مقتل العشرات من الفلسطينيين، في إشارة واضحة إلى استخدام القوة لمنع أي تحد لهذا النظام الجديد، سواء من قبل حماس أو حتى المدنيين، ما يعني أن المساعدات الإنسانية تُستخدم هنا كوسيلة لإعادة فرض السيطرة العسكرية والسياسية، بدلا من أن تكون جسرا لتخفيف المعاناة. وعبّرت الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية عن مخاوف جدية من أن هذا النموذج لا يلتزم بمبادئ الحياد والاستقلالية، بل يعكس سياسات إقليمية تحاول عزل غزة وإضعاف حماس عبر تقييد وصول المساعدات.

المساعدات الإنسانية تستخدم كوسيلة لإعادة فرض السيطرة العسكرية والسياسية، بدلا من أن تكون جسرا لتخفيف المعاناة
◙ المساعدات الإنسانية تستخدم كوسيلة لإعادة فرض السيطرة العسكرية والسياسية، بدلا من أن تكون جسرا لتخفيف المعاناة

وتبرز هذه المخاوف في انتقادات محتوى الطرود الغذائية، وقلة المواقع، وصعوبة وصول الأكثر حاجة إلى المساعدات، ما يؤدي إلى تعميق الأزمة الإنسانية بدلا من حلها. ويضاف إلى ذلك، أن هذه المبادرة جاءت في ظل رفض الأمم المتحدة للآليات الإسرائيلية المقترحة لمراقبة دخول المساعدات، ورفضها استسلام غزة لهذا النظام، ما يظهر الصراع المستمر حول من يملك زمام المبادرة في إدارة الأزمة الإنسانية والسياسية في القطاع.

وتسعى إسرائيل والولايات المتحدة عبر مؤسسة غزة الإنسانية إلى إعادة تشكيل النظام السياسي في قطاع غزة من خلال التحكم الحصري في توزيع المساعدات، وهي الوسيلة الحيوية التي يعتمد عليها السكان في ظل الأزمة الإنسانية. وبهذا الشكل، تتحول المساعدات إلى أداة ضغط سياسي لإضعاف حركة حماس، التي تسيطر فعليا على القطاع، من خلال تجفيف مواردها، ومراقبة شبكات الدعم التي تعتمد عليها.

ويضع فرض نموذج توزيع يقتصر على عدد محدود من المواقع وبإشراف جهات خارجية ذات توجهات سياسية وأمنية حماس في موقف ضعف ويحد من قدرتها على التأثير في الحياة اليومية للسكان، وهو ما يعيد رسم خارطة النفوذ داخل القطاع. كما أن الإصرار على ربط المساعدات بآليات مراقبة مشددة يعزز من بُعد الرقابة والسيطرة، ما يحول المساعدات إلى سلاح بيد القوى الخارجية لتشكيل بيئة خاضعة لشروط سياسية جديدة.

وفي الجانب الاجتماعي، يساهم هذا النموذج في تعميق الانقسام والتوتر داخل المجتمع الفلسطيني في غزة. ويتسبب تقليص عدد مراكز التوزيع وحصر المساعدات في مناطق محددة في خلق شرخ بين السكان، إذ تُستبعد الفئات الأضعف مثل كبار السن والمرضى والأطفال، الذين يواجهون صعوبات بالغة في الوصول إلى المساعدات. ولا يفاقم هذا الإقصاء فقط معاناة هذه الفئات، بل يؤجج الإحساس بالظلم وعدم المساواة داخل المجتمع، ما يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية.

كما أن وقوع عمليات إطلاق النار بالقرب من مراكز التوزيع يعكس حالة من التوتر والتهديد الدائمين، ما يخلق أجواء من الخوف وعدم الأمان، ويحول فعليا عملية الحصول على المساعدات إلى اختبار محفوف بالمخاطر. وهذا يضر بالمجتمع المدني ويضعف الروابط بين السكان والمؤسسات، ويزيد من العزلة التي يعاني منها القطاع. ومن المرجح أن يؤدي استمرار هذا النموذج في توظيف المساعدات الإنسانية كأداة سياسية إلى تعميق الأزمة الإنسانية والسياسية على حد سواء.

كما سيؤدي إضعاف حماس إلى تفكيك شبكة دعمها، لكن ذلك قد يدفع إلى ردود فعل متزايدة من الفصائل الأخرى والمجتمع المدني، مما يفتح الباب أمام المزيد من التوترات والصراعات داخل القطاع. وعلاوة على ذلك، يمكن أن يُسهم هذا التوجه في تعزيز السيطرة الإسرائيلية والأميركية على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في غزة، وهو ما قد يشكل عقبة أمام جهود إعادة الإعمار والتنمية المستقبلية، ويحول الأزمة إلى مأزق طويل الأمد يعاني منه السكان بلا حلول جذرية.

6