صندوق دفاعي أوروبي: خطوة نحو استقلال أمني عن الناتو لكن الطريق لا يزال طويلا

بروكسل - وافق الاتحاد الأوروبي، أمس الثلاثاء، على إنشاء صندوق دفاعي مشترك بقيمة تصل إلى 170 مليار دولار، في خطوة وُصفت بأنها محاولة جادة لتعزيز الاستقلالية الأمنية لأوروبا عن المظلة التقليدية لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكنها، في نظر كثير من المراقبين، لا تزال بداية طريق طويل ومعقد نحو بناء قدرة دفاعية أوروبية ذاتية.
ويهدف هذا الصندوق، الذي ستموّل قروضه من موازنة الاتحاد الأوروبي، إلى تمكين الدول الأعضاء من شراء منظومات دفاعية متطورة، تشمل أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي، والطائرات المسيّرة، والأسلحة المضادة للطائرات الدرون، والذخيرة والمعدات العسكرية الأخرى، في إطار تنسيق جماعي غير مسبوق في تاريخ الاتحاد الحديث.
وجاءت هذه الخطوة في سياق أمني دولي شديد الاضطراب، تصاعد فيه التهديد الروسي منذ غزو أوكرانيا في 2022، وتحذيرات استخباراتية متزايدة من إمكانية أن تكون موسكو جاهزة عسكريا لشن حرب جديدة ضد دولة أوروبية بحلول 2030.
وعلى ضوء هذه المعطيات، باتت فكرة “إعادة التسلح الأوروبي” تحظى بإجماع سياسي نادر داخل مؤسسات الاتحاد، كممر إلزامي نحو ضمان الاستقرار الإقليمي. واعتبرت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أن “الأوقات الاستثنائية تتطلب إجراءات استثنائية”، في إشارة واضحة إلى تغير المزاج السياسي في بروكسل، والذي بات أقرب إلى منطق الردع العسكري مما كان عليه في العقود السابقة، حين فضّلت أوروبا مقاربة دبلوماسية واقتصادية للأمن الجماعي.
ورغم الترحيب الواسع بهذه الخطوة، إلا أن كثيرا من المحللين يعتبرونها متأخرة، ويؤكدون أن الاستقلال الأمني الحقيقي لأوروبا عن الناتو يحتاج إلى ما هو أكثر من التمويل، خاصة أن البنية الدفاعية الأوروبية لا تزال غير موحدة، وتفتقر إلى قيادة عسكرية موحدة أو عقيدة استراتيجية مشتركة.
ويقول الخبير العسكري الفرنسي بيير ألبيرتي إن إنشاء الصندوق “إشارة سياسية قوية”، لكنه لا يعني بأي حال أن أوروبا أصبحت قادرة على حماية نفسها دون الدعم الأميركي، مضيفا أن الاتحاد الأوروبي ما زال بعيدا عن امتلاك البنية التحتية الدفاعية الذاتية اللازمة للاستقلال الفعلي.
◙ إنشاء الصندوق إشارة سياسية قوية لكنه لا يعني بأي حال أن أوروبا أصبحت قادرة على حماية نفسها دون الدعم الأميركي
ويرى محللون أن مشروع الصندوق الدفاعي يكشف عن قناعة أوروبية متزايدة بأن الاعتماد الدائم على واشنطن لم يعد مضمونا، لاسيما في ظل التغيرات السياسية في الولايات المتحدة، والتصريحات المتكررة للرئيس الأميركي دونالد ترامب المشككة في التزامات بلادهم الدفاعية تجاه الحلفاء الأوروبيين.
ولم تكن فكرة تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية جديدة، إذ طُرحت منذ أوائل العقد الأول من الألفية، لكنها بقيت محاصرة بالخلافات بين الدول الأعضاء حول تقاسم الأعباء، وتحديد الأولويات، وغياب الإرادة السياسية الكافية، إلى أن جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليضع الأمن الأوروبي في صدارة الأجندة السياسية.
ومع ذلك، فإن الطريق أمام استقلال أوروبي حقيقي في مجال الدفاع ما زال مليئا بالعقبات، سواء من حيث التفاوت في القدرات الصناعية والعسكرية بين الدول الأعضاء، أو في ما يتعلق بصعوبة التنسيق بين جيوش وطنية ذات عقائد مختلفة وتاريخ طويل من الاعتماد على الناتو.
ويشير الخبير الألماني ماركوس هيرتسوغ إلى أن الصندوق يمكن أن يكون نواة لمجمّع صناعي دفاعي أوروبي، إذا ما أحسن استخدامه في تمويل المشاريع المشتركة، وتوحيد أنظمة التسلح، وتقوية الصناعة الدفاعية الأوروبية، بما يقلل التبعية الخارجية للولايات المتحدة أو غيرها من القوى العالمية.
غير أن الانقسامات السياسية داخل الاتحاد لا تزال تلقي بظلالها، فبعض الدول الأعضاء مثل المجر والنمسا تتحفظ على أي خطوة قد تُفهم على أنها تشكل جيشا أوروبيا موازيا للناتو، في حين ترى دول أخرى كفرنسا أن الوقت حان للانتقال من “الاتحاد الاقتصادي” إلى “الاتحاد الأمني.”
وفي المقابل، فإن هناك إدراكا متزايدا لدى النخب السياسية الأوروبية أن التهديدات المعاصرة – سواء أكانت هجومية كالهجمات الصاروخية، أم هجينة كالهجمات السيبرانية والطائرات المسيرة – تتطلب استجابة جماعية واستباقية، ما يجعل الصندوق خطوة ضرورية على الأقل لتوفير البنية التحتية للردع المشترك.
وفي الوقت الذي يترقب فيه العالم نتائج المبادرة الأميركية للسلام في أوكرانيا، تبدو أوروبا وكأنها تتحسب لأسوأ السيناريوهات، وتسعى لتقليل هامش اعتمادها على شريكها التقليدي، ولو من خلال خطوات تدريجية. وبينما قد لا يُحدث الصندوق الدفاعي تحولا فوريا في موازين القوى، إلا أنه يشكل سابقة من حيث الحجم والإجماع، ويؤشر على بداية تحول أعمق في المفهوم الأوروبي للأمن والسيادة.
ومع أن المشروع يفتقر بعدُ إلى رؤية واضحة حول آليات توزيع التمويل وتحديد الأولويات العملياتية، إلا أن إنشاءه في هذا التوقيت بالذات، يؤكد أن الاتحاد الأوروبي بات يرى في الدفاع المشترك عن أراضيه أكثر من مجرد خيار، بل ضرورة وجودية في ظل عالم يزداد اضطرابا وتعددا في مراكز القوى.