الإمارات والسعودية ترسمان مستقبل الطاقة العالمي

في ظل التحولات الجذرية في سوق الطاقة العالمية، تبرز الإمارات والسعودية كنموذجين خليجيين يجمعان بين تراث الوقود الأحفوري وطموحات الطاقة النظيفة. فمع استثمارات ضخمة في الطاقة المتجددة والنووية والهيدروجين الأخضر، تعيد الدولتان رسم دورهما في مجال الطاقة، ما يحمل تداعيات جيوسياسية عميقة على النظام العالمي للطاقة.
أبوظبي/ الرياض – تجري صياغة فصل جديد في مجال الطاقة في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية اللتين زارهما الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مايو. و لا يزال النفط والغاز العنصرين الرئيسيين في هاتين الدولتين الخليجيتين، لكنهما لم يعودا الموضوع المهيمن الوحيد في مشهد الطاقة.
ومع إعطاء الإدارة الأميركية الجديدة الأولوية للوقود الأحفوري وإلغاء المنح والإعفاءات الضريبية للطاقة منخفضة الكربون، وجدت الإمارات والسعودية طريقة للجمع بين الاثنين.
ومن خلال الاستفادة من الفرص الاقتصادية والسوقية لمصادر الطاقة المتجددة وتقنيات خفض الكربون، أصبحتا الآن جزءًا من نظام طاقة جديد يتشكل بتداعيات جيوسياسية كبيرة.
ويقول الباحث نعوم رايدان في تقرير نشره معهد واشنطن إن تجاهل هذا النموذج الجديد يعني التخلف عن الركب. فخصوم الولايات المتحدة، مثل الصين، ليسوا جزءا من هذا النظام الجديد فحسب، بل يتمتعون بمكانة مهيمنٍ عليه.
الكلفة المنخفضة للكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة يمكن أن تضع المملكة في وضع قوي لتصدير الهيدروجين الأخضر في المستقبل
ولا تزال الهيدروكربونات المصدر الرئيسي لإيرادات دول الخليج العربي. ولا يزال إجمالي إمدادات المنطقة من النفط (الخام ومنتجات النفط) والغاز الطبيعي المسال إلى الأسواق العالمية بالغ الأهمية، إذ يُصدَّر حوالي 30 في المئة من صادرات النفط العالمية المنقولة بحرا وحوالي 20 في المئة من الغاز الطبيعي المسال من الخليج.
وفي الوقت نفسه تخضع قرارات إنتاج النفط، التي تتخذها منظمة أوبك بقيادة السعودية وحلفائها، في السوق لمراقبة دقيقة نظرا لتأثيرها على أسعار النفط العالمية والاستثمار.
ومع ذلك استثمرت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بكثافة في مصادر الطاقة المتجددة، وأنظمة تخزين طاقة البطاريات، واحتجاز الكربون وتخزينه، بالإضافة إلى الطاقة النووية والهيدروجين الأخضر (المنتج من خلال التحليل الكهربائي باستخدام مصادر الطاقة المتجددة، من بين تقنيات أخرى).
وستواصل هذه التقنيات لعب دور رئيسي في جهود تنويع مصادر الطاقة العالمية، وفي ظل النمو المتوقع في الطلب العالمي على الكهرباء، “الذي سينمو بنسبة تقارب 4 في المئة سنويًا حتى عام 2027،” مدفوعًا أساسا بمراكز البيانات والكهرباء وعوامل أخرى، وفقًا لوكالة الطاقة الدولية.
وتواصل الدولتان الترويج للوقود الأحفوري مع اغتنام الفرص الاقتصادية المتاحة في التقنيات منخفضة الكربون.
شراكات الاستثمار
تستثمر دول الخليج أيضا في الأسواق العالمية وتُقيم شراكات استثمارية مع شركات رائدة، بما في ذلك في الولايات المتحدة.
وعلى سبيل المثال في سبتمبر 2024 أبرمت شركة ADQ، وهي صندوق ثروة سيادي مقره أبوظبي يُركز على البنية التحتية الحيوية وسلاسل التوريد العالمية، اتفاقية مع شركة Energy Capital Partners الأميركية، وهي مستثمر في مجال تحول الطاقة، لإقامة شراكة مناصفة (50/50) في مشاريع توليد الطاقة الجديدة والبنية التحتية للطاقة، وذلك جزئيًا لتلبية الطلب المستقبلي على الكهرباء من مراكز البيانات والصناعات كثيفة استهلاك الطاقة.
وعلاوة على ذلك تستثمر الإمارات والسعودية أيضًا في المعادن الحيوية التي تُعدّ أساسية لتقنيات الطاقة النظيفة، بما في ذلك المركبات الكهربائية، في عالم تُسيطر فيه الصين على سلسلة التوريد. لكن لمنطقة الخليج تعريفها الخاص لتحول الطاقة.
وبالنسبة إلى المملكة العربية السعودية بدأ تحولها في مجال الطاقة خلال سبعينات القرن الماضي مع تطوير نظام الغاز الرئيسي.
وقال وزير النفط السعودي الأسبق علي النعيمي، في مذكراته الصادرة عام 2016 بعنوان “خارج الصحراء”، إن “حجر الزاوية” في الخطة الخمسية الثانية للمملكة العربية السعودية، التي أُعلن عنها عام 1975، كان خطة الغاز الرئيسية الضخمة.
وكان الهدف الرئيسي من هذا المشروع تنويع اقتصاد يعتمد على النفط من خلال تجميع الغاز القيّم المصاحب لإنتاج النفط، والذي كان يُحرق في حقول النفط، واستخدامه لتغذية التصنيع في البلاد. وتواصل المملكة تطوير شبكة الغاز الرئيسية هذه، مع إعادة ابتكار قطاع الطاقة لديها.
وفي العام الماضي شدد وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان على هذا التحول، الذي يرتكز اليوم على ما أسماه في عرضه التقديمي “ركائز أساسية”: تحسين كفاءة الطاقة، وتحويل مزيج الطاقة، وإدارة الانبعاثات.
وتسعى هذه العملية إلى تحقيق التوازن بين أمن الطاقة، والحصول على الطاقة وتوافرها، والاستدامة والعمل المناخي. ولذلك بدلاً من الاكتفاء بتصدير النفط تسعى السعودية إلى أن تصبح مصدرًا لـ”جميع أشكال الطاقة”، بما في ذلك المنتجات منخفضة الكربون.
ووفقًا للبيانات التي نشرتها نشرة “مسح الشرق الأوسط الاقتصادي” في فبراير، من المتوقع أن تقفز قدرة المملكة على توليد الطاقة المتجددة إلى 12.7 جيغاواط بحلول نهاية هذا العام من حوالي 6.5 جيغاواط حاليًا.
وتشمل مشاريع الطاقة المتجددة محطة ليلى للطاقة الشمسية الكهروضوئية (91 ميغاواط)، والتي تُطورها شركات سعودية وصينية، إذ سيصاحب هذا النمو في مصادر الطاقة المتجددة أيضًا نشر تخزين البطاريات لمعالجة مشكلة انقطاع التيار الكهربائي المرتبط بمتغيرات مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
وتتميز السعودية بأسعار منخفضة في كل من طاقة الرياح والطاقة الشمسية، حيث يبلغ سعر أحد مشاريع الطاقة الشمسية 0.0129 دولارًا /كيلوواط ساعة.
ويمكن أن تضع الكلفة المنخفضة للكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة المملكة في وضع قوي لتصدير الهيدروجين الأخضر في المستقبل، على الرغم من الشكوك المحيطة بإمكانيات هذه التقنية بشكل عام بسبب عوامل تتعلق بطلب السوق والتكاليف والبنية التحتية.
وتعمل السعودية بالفعل على بناء مشروع ضخم للهيدروجين الأخضر في نيوم، في الشمال الغربي على البحر الأحمر -وهي المنطقة التي يشن فيها الحوثيون في اليمن حملة بحرية ضد الشحن العالمي ويطلقون صواريخ بعيدة المدى ضد إسرائيل.
قصة نووية
في الإمارات العربية المتحدة تستحق قصة الطاقة النووية الاهتمام، لاسيما مع عودتها بقوة، بما في ذلك في الولايات المتحدة. فالإمارات هي الدولة العربية الوحيدة التي تمتلك منشأة طاقة نووية مدنية عاملة، تلعب دورًا رئيسيًا في توليد الطاقة، حيث توفر حوالي 25 في المئة من حاجة البلاد إلى الكهرباء.
وفي حين شوّهت إيران سمعة الطاقة النووية بسبب المخاوف الجدية بشأن نواياها النووية وانعدام الشفافية، قدمت الإمارات نموذجًا ناجحًا من خلال محطة براكة التي تبلغ قدرتها 5.6 جيغاواط.
ومن المتوقع أن يرتفع الطلب على الطاقة المدعومة بالذكاء الاصطناعي بشكل كبير، بما في ذلك في السوق الأميركية، وستكون هناك حاجة إلى المزيد من الطاقة، وهو ما ستكون الطاقة النووية الموثوقة والمرنة قادرة على توفيره.
وتطمح الإمارات لأن تصبح لاعبا مؤثرا في مجال الذكاء الاصطناعي، ولتحقيق هذه الغاية وقّعت اتفاقيةً مع الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي خلال زيارة ترامب الأخيرة، وتتطلع أيضا إلى التعاون مع شركات أميركية في مجال التكنولوجيا النووية المتقدمة، مثل تقنية “ناتريوم” من شركة تيرا باور. ووصلت الإمارات العربية المتحدة إلى مرحلة لم تعد فيها مهتمة ببناء محطات نووية محليا فحسب، بل تسعى أيضاً إلى أن تصبح لاعبا في السوق العالمية.
وفي مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز” في وقت سابق من هذا العام قال محمد الحمادي، رئيس شركة الإمارات للطاقة النووية، “نريد الاستفادة من نجاحنا، وننظر إلى ما يمكننا القيام به: البناء في الإمارات، وخارجها، وفي السوق بأكملها.”
وتعتمد تطورات الطاقة في الدولتين الخليجيتين على الدعم والتمويل الحكوميين الكبيرين، والاستثمارات الخاصة، والابتكار المستدام الذي يحفزه البحث والتطوير. ومن المتوقع أن تُعيد هذه التحولات في قطاع الطاقة تشكيل الخارطة الجيوسياسية، وفقاً للوكالة الدولية للطاقة المتجددة -كما فعل الوقود الأحفوري في الماضي- ولا يُمكن تجاهلها.