"بيبيوني".. مذاق البيتزا وعطر البحر والجمال الإنساني

مدينة إيطالية قديمة تسحر زوارها بممراتها المائية وأزقتها وشواطئها.
الأحد 2025/05/25
الجمال الحقيقي لا يحتاج إلى ضجيج

العطلات الصيفية ينتظرها الجميع لتقضية أوقات ممتعة، وغالبا ما تقترن بالبحر ورماله وشواطئه وجو الاستجمام، وهناك العديد من المدن حول العالم التي توفر للسياح شواطئ ساحرة، لكن القليل من بينها من يمزج المتعة والاستجمام بتجربة ثقافية متكاملة في المكان وثقافته وتاريخه، وهذا ما توفره مدينة "بيبيوني" الإيطالية الساحرة.

كان في داخلي حنين لا أملك تفسيره، يدفعني بإلحاح لزيارة مدينة صغيرة على خريطة إيطاليا تدعى “بيبيوني”. لم تكن شهرتها تضاهي المدن الكبرى، لكنها كانت تسكنني كما تسكننا الأحلام الغامضة التي نؤمن بها دون أسباب منطقية.

الذين زاروها قبلي تحدثوا عنها بالكثير من الدفء، وكأنها لا تشبه سوى نفسها. وكلما التقيت أحدهم، شعرت أن تلك المدينة تدعوني بلطف، تربت على قلبي وتهمس لي “تعال”.

بداية لحوار داخلي

في نهاية صيف العام الماضي، كان لا بد للحنين أن يجد مخرجا. فقرّرت السفر إليها برفقة أسرتي. كان إلى جانبي صديق قديم، جمعتنا لحظات كثيرة في بلدان ومسافات شتى، لكنه هذه المرة جاء برفقة زوجته، مدفوعا بكلماتي التي حملت من الصدق والاشتياق ما جعله يؤمن أن “بيبيوني” ليست مجرد مدينة، بل تجربة تستحق أن تعاش.

بدأنا التحضيرات كمن يتهيأ لا لرحلة، بل للعبور إلى لحظة صفاء نادرة. جلساتنا العائلية قبل السفر، وابتسامات الأطفال وهم يرتبون حقائبهم، وحتى ضحكاتنا على تفاصيل الطريق كلها بدت لي جزءا من طقس داخلي للانتقال من رتابة الحياة اليومية إلى فضاء أكثر إنسانية وهدوءا.

مع انبلاج الصباح، انطلقت قافلتنا الصغيرة ـ سيارتان من قلب فيينا ـ تشقان المسافة باتجاه الجنوب الإيطالي. ستمئة كيلومتر تقريبا قطعناها، وكانت الطريق نفسها تحمل شيئا من الترقب، كأنها تمهد للدهشة القادمة.

"بيبيوني" ليست وجهة سياحية فحسب بل تجربة شعورية متكاملة حيث يلتقي الإنسان بجوهره، وتكف الحياة عن سباقها

دخلنا “بيبيوني” مع مغيب الشمس. لم يكن الغروب عاديا، بدا وكأنه يحتفي بقدومنا. كانت المدينة، بكل بساطتها، مدهشة. شوارعها ضيقة لكن منظمة، كأنها تفتح ذراعيها للقادمين دون تكلّف. الأشجار على جانبي الطرق مصفوفة وكأنها تحرس الجمال، مقصوصة بدقة، تهدي المارين ظلالا تشبه الأجنحة. الإنارة خافتة ولكن محسوبة، تضفي على الجسور والطرق لمسة فنية، كما لو أن المدينة تهمس لي “هنا ستجد ما تبحث عنه.”

وصلنا إلى مكان الإقامة، شاليه صغير من طابقين وكان في انتظاره هدوء حميمي يشبه حضن الأم بعد تعب. لا رفاهية صارخة، لكن دفء الخدمة الذاتية، والخصوصية التي تمنح الزائر شعور الانتماء. ثلاث مسابح تتلألأ أمام البناء، ومرافق مرتبة بعناية تجعل المكان وكأنه خلق ليكون بيتا مؤقتا للروح.

لم تكن تلك الشقة مجرد مكان للنوم، بل كانت بداية لحوار داخلي عميق. هناك، في بساطة التصميم، وفي بعدها عن صخب الفنادق الفاخرة، شعرت أنني بدأت أقترب من شيء يشبه السلام. تلك الأيام الأولى في “بيبيوني” لم تكن استراحة من العمل فقط، بل كانت استراحة من الضجيج الداخلي، من الركض المستمر، من الازدحام العاطفي والذهني الذي نحمله معنا أينما ذهبنا.

لقد سافرت إلى مدينة… لكنني في الحقيقة، كنت أبحث عن نفسي.

سحر البحر والراحة

المنارة من أشهر معالم المدينة
المنارة من أشهر معالم المدينة

في اليوم التالي من الزيارة، وبعد قضاء ساعات من الراحة والاستجمام والسباحة في المسابح المواجهة لمكان الإقامة في ساحة الشاليهات الموزعة على مساحات كبيرة نسبيا للسياح الذين يرغبون في الإقامة فيها بعيدا عن الفنادق، لاسيما أن أسعارها رخيصة وتناسب جميع أذواق السياح القادمين لزيارتها. وبعد الانتهاء من تناول الإفطار، توجهنا كل برفقة أسرته إلى البحر الذي لا يبعد عن مكان الإقامة أكثر من ربع ساعة مشيا على الأقدام.

المكان ليس بعيدا، وفي طريقنا إلى البحر يبهجك الكثير من المناظر الجميلة التي تواجهك، إضافة إلى التنظيم المميز للمحال التجارية في المدينة، والمطاعم والمقاهي، والشوارع والمنصفات الطرقية، ونظافتها، وفوق ذلك لطف أهل المدينة وتعاملهم الراقي. وقبل وصولنا إلى شاطئ البحر، يلفتك توزع العديد من الفنادق الراقية الملاصقة له، والنجوم التي تزينها.

 فنادق جد راقية تبهج القلب والروح معا، وكما هو واضح من خلال الخدمة التي تظهر عليها وتبديها لزبائنها، وكذلك الحال بالنسبة إلى المسابح الخاصة والمطاعم والمقاهي التي تزين واجهتها، وفوق ذلك الحضور اللافت والكثيف من الزوار الذين تراهم يمشون أمامك وخلفك وعن يمينك ويسارك باتجاه الوصول إلى شاطئ البحر، والاستمتاع بمياهه، واستنشاق مائه المالح، والركون إلى هيجانه الذي لم يتوقف طوال فترة الساعات التي قضيناها هناك. ومعه كان يضطر كبار السن من الزوار إلى التراجع وأخذ فترة استراحة علّ وعسى أن يهدأ البحر من أمواجه التي تتحدى الزوار، بينما أخذ بعض الشباب الصغار في السن في اللعب في الرمال البحرية، وشغل ما يحلو لهم من أشكال وألوان من المجسمات. وبعد أن ينتهوا منها، لم يدركوا أن هيجان البحر الذي لم يتوقف بـ”لطماته” القوية قد يضيع تعبهم ويخرّب ما قاموا به من تشكيل لمجسّمات ارتطمت بها مياهه التي لم تتوقف عن امتدادها.

واحدة من أفضل الأماكن في الساحل الشرقي لإيطاليا
واحدة من أفضل الأماكن في الساحل الشرقي لإيطاليا

الكثير من الناس جاءوا لزيارة هذا المكان والاستمتاع فيه، وقضاء ساعات من المتعة والراحة والاستجمام في مياه البحر، في هذه المدينة الساحرة التي قضينا فيها مع زوارها أياما ما بين البحر والإقامة، وزيارة المحال والمطاعم الشعبية التي أكثر ما تهتم بصناعة البيتزا الإيطالية الشهيرة. أكلة شعبية لذيذة يتسابق إليها أغلب السياح، وطهيها سريع لا يأخذ وقتا طويلا لنضجها وتقديمها للزبائن الذين حضروا للاستجمام في هذه المدينة التي أكثر ما أبهجني ولفتني فيها بساطة أهلها، وطبيعتها الخلابة، والأسواق الحديثة التي ساهمت الحكومة في تحديثها، وهذا ما يعني أنها ترحّب بالضيوف القادمين الجدد في كل حين، ويسعد السكان المحليون بالضيوف الذين يرحبون بهم بكل حب وصدق وحميمية.

هذا حال الأهالي المقيمين في مدينة “بيبيوني”، الذين ترى الفرحة مرسومة على وجوههم، ويتعاملون مع الجميع بسوية واحدة، ليس من باب ما يدفعونه لهم من مال لجهة زيارة المدينة، والاستمتاع فيها، والتسوق في أسواقها المتواضعة، أو الجلوس إلى مقاهيها، وقضاء ما طاب للسياح من وقت فيها، ولا من أجل ما دفعوه لقاء ما سبق أن تناولوه من أطعمة شهية تسر الخاطر من الأكلات الشعبية، وأهمها البيتزا الإيطالية المعروفة، وكذلك من هذا التنوع في الطعام في فترة الظهيرة والعشاء، فضلا عن الإفطار الصباحي الذي تظل له بهجته لكل من زار المدينة.

و”بيبيوني” لا تبعد عن مدينة البندقية الإيطالية أكثر من ساعة ونصف الساعة بالسيارة، وعلى الرغم من عدم شعبيتها بين السائحين، إلا أنها تتميز بجمالها، وتعد واحدة من أفضل الأماكن التي يمكن زيارتها على الساحل الشرقي لإيطاليا. وهي مدينة قديمة، وفيها ممرات مائية مذهلة، وشريط بحري جميل.

في مدينة "بيبيوني" لا يؤكل الطعام لمجرد الشبع بل يحتفى به كطقس ثقافي يربط الإنسان بجذوره البحرية

وإذا ما حاولت الخروج من مدينة البندقية والابتعاد عن الازدحام واستكشاف المزيد من الركن الشمالي الشرقي لإيطاليا، يمكنك اكتشاف “بيبيوني”، لاسيما أنها مدينة ما زالت بكرا، وغير مكتشفة أو معروفة للكثير من عشاق السياحة والاستكشاف. فهي وجهة بحرية وسياحية وبيئية بامتياز، كما تصنف من أفضل وجهات الهواء النقي والمياه النمير.

فـ”بيبيوني بيتش” يعد المكان المثالي لقضاء عطلة مريحة على شاطئ البحر الأدرياتيكي. ولا ننسى “منارة بيبيوني القديمة”، والتي تعد من أشهر معالم المدينة، ويمكن الوصول إليها بسهولة سيرا على الأقدام أو بركوب الدراجة، إذ تقع في أقصى شرق الشاطئ.

وفي زيارتك لـ”بيبيوني”، يمكنك زيارة مدينة “لونا بارك أدرياتيكو” الترفيهية، الممتعة التي تقع وسط المدينة، مع الكثير من الألعاب الرائعة، وفي الليل يضاء المتنزه بألوان نيون، بينما يرى الزائرون البلدة من أعلى عجلة فيريس. ويمكن للزائر ركوب الدراجة العادية والسير في المدينة بهدف استكشافها، فمسارات الدراجات موزعة في جميع أنحاء المدينة، ولا يمكن تفويت هذه المتعة بركوب الدراجة الذي يتبع البحر الأدرياتيكي.

رمال "بيبيوني" الذهبية

المدينة بكل بساطتها مدهشة
المدينة بكل بساطتها مدهشة

على امتداد الأفق، حيث تعانق الأرض زرقة البحر، تنبسط رمال “بيبيوني” الذهبية كوشاح من الحنين، تتلألأ تحت شمس المتوسط كأنها شذرات حلم سقط من سماء قديمة. هنا، في هذه المدينة الساحلية الهادئة، لا تكتفي الطبيعة بجمالها الظاهر، بل تسبر أعماق النفس، فتوقظ فيها إحساسا عتيقا بالسكينة والانتماء.

ما من شيء في “بيبيوني” يقدم مجردا من الروح. فالموج، بتجدده الصبور، لا يبعث على المتعة فحسب، بل يذكر بتلك الحركة الهادئة للحياة، بتعاقب الأيام، بنبض الزمن، وكأن البحر ذاته يمارس طقسا من طقوس التأمل. وما دروس ركوب الأمواج، أو ألواح التجديف، أو قوارب الكاياك، إلا دعوات صامتة لاختبار الذات في حضرة العناصر، لا لمجرد الترفيه، بل لاكتشاف الجزء الغافي منا، ذاك الذي لا يظهر إلا حين نلامس الماء.

وفي “بيبيوني”، لا يؤكل الطعام لمجرد الشبع، بل يحتفى به كطقس ثقافي يربط الإنسان بجذوره البحرية. فتأتي أطباق المعكرونة بالبطلينوس، والمأكولات البحرية الممزوجة بنبض البحر، والـ”كامبي” من لانجوستيني، كدعوة لتذوق قصة البحر على طرف اللسان، قصة الصيادين، والموانئ، والأمواج التي تحمل كل ما تصطاده بنكهة الحياة.

مدينة ما زالت بكرا وهي وجهة بحرية وسياحية وبيئية غير مكتشفة أو معروفة للكثير من عشاق السياحة والاستكشاف

أما في “حي سياجيا”، فالسوق ليس فقط ملتقى لشراء الحاجيات، بل هو نبض المدينة، حيث تتقاطع دروب السياح مع خطى أهل المدينة، فتتشكل علاقة غير مرئية من التبادل الإنساني، لا تكتبها الأرقام ولا ترصدها العدسات، لكنها تعاش وتشعر بها الأرواح. والسوق الحديث الممتد لمسافة كيلومتر ليس فقط معلما تجاريا، بل فسحة اجتماعية تعكس نبضا حضاريا متجددا.

ومن بين معالم “بيبيوني” المتفردة، يبرز منتجع “ديلي فات” Lino delle Fate كمكان اختير بعناية ليعيدنا إلى أصل العلاقة بين الإنسان والطبيعة. صمم المنتجع لا ليفرض حضوره، بل ليتماهى مع المحيط، وكأنه نبت من الأرض ذاتها. وفي محمية تمتد على 16 هكتارا، لا يسمح للسيارات أن تعكر صفو الحياة، فتسير بخطاك وحيدا، كأنك تهمس للأشجار، وتتعلم من الصمت. هنا، تعود إلى فطرتك، وتدرك كيف يمكن للتنوع البيولوجي أن يكون مرآة لتنوع دواخلنا، وكيف أن الجمال الحقيقي لا يحتاج إلى ضجيج.

في أحد المقاهي، التقيت بعائلة عربية. الأب كان شابا يفيض وجهه برضى نادر، قال لي “هنا كل شيء بسيط… لكنه صادق. الخدمة، الطعام، حتى نظرات الناس… تشعرك أنك لست غريبا، بل ضيف مرحب به في قلب مفتوح.” أما الألماني الذي زار المدينة ثلاث مرات، فقد لخص رأيه بكلمات بسيطة، لكنها عميقة “في ‘بيبيوني‘، الطابع الإيطالي ليس مجرد طابع، بل هو روح تحس، تعاش، وتحتضن.”

“بيبيوني”، ليست وجهة سياحية فحسب، بل هي تجربة شعورية متكاملة، حيث يلتقي الإنسان بجوهره، وتكف الحياة عن سباقها لتمنحك فرصة التأمل. ليست دعاية، ولا مجاملة، بل حقيقة تختبرها كلما خطوت على رمالها، وكلما استنشقت نسماتها، وكلما شعرت بأنك ـ ولو لبرهة ـ عدت إلى ذاتك.

10