"الأعمدة البازلتية" في عسير شيفرة بركانية توثق ماضي الجزيرة

في قلب جبال عسير تقف "الأعمدة البازلتية" شامخةً كأنها منحوتات فنية أو تكوينات هندسية مدهشة نشأت من حمم بركانية متجمدة، تُجسّد التقاء الجمال الطبيعي بالعمق العلمي، وتحمل في تفاصيلها حكاية الأرض والنار والزمن.
أبها (السعودية) – في أعماق جبال عسير وسهولها تخطّ الطبيعة أعظم لوحاتها الجيولوجية، وتقف “الأعمدة البازلتية” شامخة كشواهد زمنية تحكي فصولًا من التاريخ البركاني العريق للمنطقة، فهي ليست مجرد تكوينات صخرية جامدة، بل منحوتات طبيعية هندسية، تشكّلت عبر ملايين السنين لتجسّد التقاء الجمال الطبيعي بالعمق العلمي.
وتُعد تكوينات “الأعمدة البازلتية” في منطقة عسير من أبرز الظواهر الجيولوجية النادرة على مستوى المملكة، والتي تجذب أنظار الزوّار والمهتمين بالعلوم الأرضية، حيث تتكون من صخور البازلت، وهي صخور نارية بركانية نشأت بفعل تدفقات الحمم التي بردت ببطء على سطح الأرض، ما أدى إلى انكماشها وتشققها مكوّنة أعمدة هندسية ذات أضلاع غالبًا ما تكون سداسية أو خماسية أو رباعية، بدقة طبيعية مذهلة.
وعرفت هذه التشكيلات باسم “ممرات العمالقة” في الكثير من دول العالم بسبب شهرة ممر العمالقة على ساحل إيرلندا، وهي أشهر تكلسات بازلتية في العالم ومصنفة كإحدى المحميات الطبيعية النادرة في اليونسكو.
ويؤكد المشرف على مركز الدراسات الزلزالية بجامعة الملك سعود ورئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلوم الأرض الدكتور عبدالله محمد العمري، في حديثه لوكالة الأنباء السعودية (واس)، أن منطقة عسير غنيّة بتلك التكوينات، وتنتشر في عدة مواقع مثل محافظة محايل عسير ووادي يعوض بمحافظة الحرجة (جبل مشرف) وقرن مُجعل شرق مركز تندحة ووادي العسران والمنطقة الساحلية بين القحمة والبرك، والتي تقع ضمن سلسلة الجبل الأسود.
وأشار العمري إلى أن هذه التكوينات الجيولوجية كانت معروفة منذ القدم، إذ وصفها الهمداني في كتابه “صفة جزيرة العرب” بأنها جزء من سلسلة “سراة جَنْب”، الممتدة من شمال ظهران الجنوب إلى شمال سراة عبيدة التي تعرف اليوم باسم “حرة السراة”، وتغطي هذه الحرة مساحة تبلغ نحو 700 كم²، وتضم جبالًا شاهقة مثل جبل فِرْواع بارتفاع 3004 أمتار عن سطح البحر، وجبل ظلم بارتفاع 2575 مترًا عن سطح البحر.
وبين أن “الأعمدة البازلتية” تشكلت نتيجة برودة الحمم البركانية وانكماشها الطبيعي، وهو ما أدى إلى تكوين أشكال هندسية متنوعة تشمل الأضلاع السداسية والخماسية والسباعية، وتختلف ألوان الأعمدة تبعًا للمكونات المعدنية والكيميائية، حيث يغلب عليها اللون الأسود، وقد تميل إلى الرمادي أو البني المحمر نتيجة وجود معادن مثل الأوليفين والبيروكسين، مبيناً أن تلك التكوينات لا تقتصر على عسير فحسب، بل توجد أيضًا في مواقع عالمية مثل بوابة العمالقة في أيرلندا ومنتزه يلوستون الوطني في الولايات المتحدة وتركيا وأيسلندا.
من جانبه أوضح المتحدث الرسمي لهيئة المساحة الجيولوجية السعودية طارق أبا الخيل أن “الأعمدة البازلتية” تكونت نتيجة لانكماش حراري يحدث عندما تبرد الحمم البركانية وتتصلب، ما يؤدي إلى تكوين شقوق عمودية بزوايا قائمة على سطح التبريد، وغالبًا ما تظهر هذه التكوينات بشكل عمودي، لكنّها قد تنحني أو تميل بحسب ظروف التبريد.
وأشار أبا الخيل إلى أن تلك الأعمدة تشبه في تكوينها تشقق الطين عند الجفاف، لكنها تحدث في الصخور النارية، خاصة في البازلت، وقد تظهر أيضًا في صخور الأنديزيت والتراكيت والريوليت، مبينًا أن تلك التكوينات تعود إلى أعمار جيولوجية تصل إلى 30 مليون سنة، وقد وُجدت في الحرات البركانية الغربية مثل حرة البرك، وتُعد هذه الظاهرة ذات أهمية علمية كبيرة، إذ تتيح للباحثين دراسة النشاط البركاني القديم في شبه الجزيرة العربية.
وأكد المتحدث الرسمي لهيئة المساحة الجيولوجية أن “الأعمدة البازلتية” تُعتبر معلمًا جيولوجيًا فريدًا، يجذب محبي الطبيعة والمهتمين بالعلوم الجيولوجية، وتشكل عنصرًا واعدًا في السياحة البيئية، داعيًا إلى إدراجها ضمن مسارات السياحة الجيولوجية في منطقة عسير.
بدوره أكد الباحث والمهتم بالسياحة الجيولوجية في منطقة عسير الدكتور عبدالله بن علي آل موسى على الأهمية الجيولوجية والسياحية لتلك الظواهر، مبينًا أن تشكّل “الأعمدة البازلتية” يعد جزءًا مهمًا من التراث الجيولوجي لأي منطقة، ويقدّم دليلًا واضحًا على النشاط البركاني الذي شهدته الأرض في العصور السحيقة.
وأضاف أن تواجد تلك التكوينات في منطقة عسير يعكس البنية الجيولوجية النشطة للمنطقة، ويعزز تحويل تلك المواقع إلى معالم سياحية طبيعية، إضافة إلى بعدها العلمي، خاصة الأعمدة التي تحتوي على نقوش قديمة -كما في قمة قرن القاعة- تجسد أبعادًا تاريخية، وربما تشير إلى وجود حضارات أو تجمعات بشرية كانت ترتاد تلك المواقع، وتعتبر مجالًا خصبًا للباحثين والمهتمين بالطبيعة والتراث الجيولوجي.
