ماذا بعد رفع العقوبات الأميركية عن سوريا

رفع العقوبات بداية سياسة جديدة لا نهاية أزمة.
الثلاثاء 2025/05/20
فرصة نادرة

يشير إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات عن الحكومة السورية الجديدة إلى تحوّل إستراتيجي لافت في نهج واشنطن بالمنطقة. وفي قلب هذا التحول تقف أسئلة معقدة حول جدوى هذا الانفتاح ومخاطره وفرصه في صياغة النظام السوري ما بعد بشار الأسد الذي يتوافق مع مصالح الغرب ويضمن استقرارا طال انتظاره.

واشنطن - في قرار مفاجئ أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات المفروضة على الحكومة السورية الجديدة، بعد مرور خمسة أشهر فقط على سقوط نظام بشار الأسد في هجوم عسكري شنته قوى معارضة تقودها جماعة مسلحة يتزعمها الرئيس الجديد أحمد الشرع.

ويمثل هذا التحول تغييرا جذريا في سياسة واشنطن تجاه دمشق، بعد أكثر من عقد من العقوبات والعزلة الدبلوماسية المفروضة على النظام السوري السابق، وقد أثار الإعلان موجة من التحليلات والجدل داخل الأوساط السياسية والدبلوماسية، لما يحمله من أبعاد داخلية وخارجية.

وخلف هذا القرار يقف واقع إقليمي ودولي معقد، تراكمت فيه عوامل متعددة دفعت واشنطن إلى إعادة النظر في أدواتها السياسية تجاه سوريا.

رغم الخطاب المتفائل من واشنطن ودمشق، لا تزال التحديات هائلة. فهناك مقاومة داخل الكونغرس، وخشية من تكرار سيناريوهات سابقة حيث تم منح أنظمة جديدة فرصًا لم تستثمرها في الإصلاح

ومنذ بداية الصراع السوري عام 2011، تبنّت الولايات المتحدة نهجا يقوم على العقوبات والعزلة والدعم المحدود للمعارضة المعتدلة، لكن هذا النهج فشل في تحقيق انتقال سياسي حقيقي، وسمح لقوى إقليمية مثل إيران وروسيا بملء الفراغ الإستراتيجي في سوريا.

وعقب سقوط الأسد وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام فرصة نادرة لإعادة تشكيل السياسة السورية من خلال أدوات جديدة، أبرزها تخفيف العقوبات مقابل التزامات سياسية من القيادة الجديدة.

ويُفهم قرار ترامب أيضا ضمن نمط أوسع في سياسته الخارجية، يعتمد على إعادة تقييم التحالفات التقليدية والانخراط البراغماتي مع القوى غير التقليدية.

وسبق أن انتهج ترامب مقاربات مشابهة في ملفات مثل كوريا الشمالية وأفغانستان، حيث لم يتردد في التحاور مع جهات مثيرة للجدل إذا رأى في ذلك مصلحة أميركية مباشرة.

وفي الحالة السورية يرى ترامب أن هناك نافذة لتحقيق اختراق دبلوماسي وأمني واقتصادي يمكن أن يُحسب له تاريخيا، خصوصا إذا نتج عنه إضعاف النفوذ الإيراني، وإعادة تأهيل سوريا كدولة محايدة آمنة على حدود إسرائيل، مع توفير فرص اقتصادية أمام الشركات الأميركية والخليجية في مشاريع الإعمار الضخمة.

ولا تنفصل الخلفيات التاريخية لهذا التحول عن المسار الذي سلكته جماعة الشرع. فمنظمة هيئة تحرير الشام التي تمثل العمود الفقري للحكومة الجديدة، خرجت من رحم جبهة النصرة، التي كانت بدورها الفرع السوري لتنظيم القاعدة.

ورغم الانشقاقات والتبرؤات اللاحقة، بقيت هذه الجماعة موضع ريبة دولية، خصوصًا مع تصنيفها كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة وعدة دول أخرى. إلا أن الشهور الأخيرة شهدت إعادة تموضع سياسي وعقائدي تدريجي من قبل هذه الجماعة، مدفوعة بضرورات الحكم والاعتراف الإقليمي والدولي.

إعجاب مثير للاهتمام
إعجاب مثير للاهتمام

وعلى المستوى الإقليمي لا يمكن تجاهل التغير الكبير في مواقف قوى كبرى مثل السعودية وتركيا تجاه الملف السوري. إذ بدا واضحًا أن الرياض، التي عادت إلى لعب دور قيادي في ترتيبات الشرق الأوسط ما بعد الفوضى، دفعت بقوة نحو إعادة تأهيل النظام الجديد، بشرط النأي عن إيران والمشروع الشيعي العابر للحدود، وتطبيع العلاقات مع الدول العربية.

ويُرجح أن تكون المملكة قد قدمت ضمانات صلبة لواشنطن بخصوص احتواء التيارات المتطرفة داخل الحكومة الجديدة وضمان مسار إصلاحي حقيقي.

أما تركيا فقد سعت للاستفادة من موقعها كصاحبة نفوذ ميداني، لتحصيل مكاسب سياسية، وتقليص نفوذ خصومها في الشمال السوري.

وكذلك لا يمكن فصل قرار رفع العقوبات عن التوتر المتزايد بين واشنطن وكل من موسكو وبكين. فسوريا، بما تمتلكه من موقع جغرافي حيوي، تُشكل نقطة تماس بين مصالح متضاربة.

وكانت روسيا قد استثمرت سياسيا وعسكريا في بقاء نظام الأسد، ما منحها قاعدة دائمة في البحر المتوسط، في حين دخلت الصين على خط الإعمار المتوقع عبر طرح نفسها كمستثمر طويل الأمد في البنية التحتية.

وفي هذا السياق يسعى القرار الأميركي لخلق موطئ قدم جديد يمكن من خلاله تقويض هذا النفوذ، وتحويل سوريا إلى ساحة تنافس اقتصادي بدلاً من كونها نقطة صراع جيوسياسي مسلح.

ورغم الخطاب المتفائل من واشنطن ودمشق، لا تزال التحديات هائلة. فهناك مقاومة داخل الكونغرس، وخشية من تكرار سيناريوهات سابقة حيث تم منح أنظمة جديدة فرصًا لم تستثمرها في الإصلاح.

وهناك شكوك مشروعة حول مدى قدرة حكومة الشرع على التحكم في الفصائل المسلحة التابعة لها، وضمان عدم ارتكاب انتهاكات جديدة. كما أن النسيج الطائفي السوري لا يزال هشًا، ويحتاج إلى ضمانات حقيقية، قانونية وسياسية، لحماية الأقليات وضمان عدم انزلاق البلاد نحو مرحلة جديدة من التوترات الدموية.

واقع إقليمي ودولي معقد، تراكمت فيه عوامل متعددة دفعت واشنطن إلى إعادة  النظر في أدواتها السياسية تجاه سوريا
واقع إقليمي ودولي معقد، تراكمت فيه عوامل متعددة دفعت واشنطن إلى إعادة النظر في أدواتها السياسية تجاه سوريا

ورغم تعهدات الحكومة الجديدة بإعادة دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ومكافحة التهريب، وتبني خطاب مدني، إلا أن التقارير الحقوقية تذكر حالات قمع ضد بعض الأقليات، وتزايد نفوذ عناصر ذات خلفيات متطرفة داخل الحكومة.

وتضع هذه الوقائع الولايات المتحدة في موقف حساس، يتطلب مراقبة دقيقة وربط أي دعم لاحق بتحقيق تقدم ملموس في حقوق الإنسان، وإصلاح مؤسسات الدولة، وإعادة بناء الحياة السياسية من الأساس، بما في ذلك صياغة دستور جديد يضمن التعددية.

ولا يعكس قرار ترامب فقط رغبة في طي صفحة الأسد، بل يطرح مقاربة مختلفة جذريا في التعامل مع دول ما بعد النزاع: دعم مشروط، وانفتاح انتقائي، وحسابات إستراتيجية أوسع من الاعتبارات الأخلاقية التقليدية. فترامب، الذي بنى جزءًا كبيرًا من شعبيته على قدرته على “عقد صفقات كبرى”، يرى في سوريا فرصة لإثبات أن السياسة الأميركية يمكن أن تحقق نتائج بكلفة أقل، إذا ما استُخدمت الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية بذكاء، بدلًا من الانخراط العسكري المباشر.

وفي ظل هذا الواقع ستكون المرحلة المقبلة اختبارا مزدوجا: للشرع وحكومته التي تواجه عبء إثبات الجدارة بالثقة الدولية، وللولايات المتحدة التي راهنت على تغيير جذري في بنية الحكم السوري دون إسقاط الدولة نفسها.

وسيكون على الجميع مراقبة تحركات الفاعلين الآخرين، من روسيا إلى إيران، ومن إسرائيل إلى تركيا، إذ أن الجميع يدرك أن رفع العقوبات ليس مجرد تغيير تقني في ملف العقوبات، بل هو إعلان ضمني عن دخول سوريا مرحلة جديدة بكل ما تحمله من احتمالات.

7