حلّ حزب العمال الكردستاني يختبر نوايا أنقرة

على الحكومة التركية أن تختار بين استثمار هذه اللحظة لصالح الاستقرار الوطني، أو العودة إلى سياسة "الأمن أولًا" التي أثبتت محدوديتها في العقود الماضية.
الأربعاء 2025/05/14
تريث تركي تجاه إعلان نهاية التمرد المسلح

ديار بكر (تركيا) - فتح إعلان حزب العمال الكردستاني حلّ بنيته المسلحة بعد أكثر من أربعة عقود من الصراع مع الدولة التركية، بابا غير مسبوق نحو تسوية سياسية محتملة للقضية الكردية في تركيا، وسط دعوات متزايدة من الأطراف الكردية للحكومة لاتخاذ “إجراءات بناء ثقة” عاجلة.

وفي اليوم التالي لإعلان الحزب المسلح قراره التاريخي، خرج حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، المعارض والمناصر لقضايا الأكراد الثلاثاء، مطالبًا الحكومة التركية بالاضطلاع بمسؤولياتها، ومؤكدًا أن لحظة التحول هذه يجب أن تُقابل بخطوات ملموسة، تبدأ قبل عطلة عيد الأضحى المقبل.

وشدد تونجر باكيرهان، الرئيس المشارك للحزب الذي كان له دور رئيسي في تسهيل قنوات الاتصال بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني، على ضرورة اتخاذ تدابير إنسانية فورية تشمل الإفراج عن السجناء السياسيين المرضى وتحسين ظروف اعتقال الزعيم الكردي عبدالله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني والمعتقل في الحبس الانفرادي منذ عام 1999.

وقال باكيرهان في كلمته أمام الكتلة البرلمانية للحزب إن هذه الخطوات يجب ألا تُؤجل إلى ما بعد العيد، مشيرًا إلى أن اتخاذ الحكومة لإجراءات ملموسة سيساهم في جعل فرحة العيد “مزدوجة”.

وأضاف أن المجتمع يعرف جيدًا ما ينتظره فعلًا، وأن المطالب الأكثر تكرارا في الشارع الكردي تتعلق بالسجناء المرضى ومئات الآلاف من المعتقلين.

وأوضح أن هناك إجراءات ممكنة قبل حتى اتخاذ أيّ تدابير قانونية، مثل تحسين ظروف احتجاز أوجلان، مشيرًا إلى أن الحكومة تستطيع اتخاذ بعض الترتيبات الكفيلة بطمأنة مجتمع لا يزال يحمل الكثير من الشكوك والمخاوف.

بينما تلقى المبادرة ترحيبا حذرا من بعض الأوساط، فإن تجاوب الحكومة التركية لا يزال محدودا، وسط خشية من دفع أثمان سياسية داخلية

ويأتي هذا في أعقاب إعلان حزب العمال الكردستاني الاثنين حلّ بنيته التنظيمية وإلقاء السلاح، في خطوة مفاجئة أنهت نزاعًا مسلحًا مع الدولة التركية استمر لأكثر من أربعين عامًا وأسفر عن مقتل أكثر من 40 ألف شخص.

واعتبر الحزب في بيانه أن حلّ نفسه “يوفر أساسًا قويًا للسلام الدائم والحل الديمقراطي،” داعيًا البرلمان التركي إلى “لعب دوره بمسؤولية تاريخية.”

ويرى الباحث في الشؤون التركية، محمد صلاح، أن هذه الخطوة تمثل فرصة تاريخية لتحقيق السلام الدائم بين الأكراد والدولة التركية.

ويضيف صلاح أن نجاح هذه المبادرة يتطلب إرادة سياسية حقيقية من الحكومة التركية، تشمل تنفيذ إصلاحات ديمقراطية حقيقية، والاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية للأكراد، وإطلاق سراح السجناء السياسيين.

ويشير إلى أن فشل هذه المبادرة قد يؤدي إلى تصعيد النزاع مجددًا، ويزيد من تعقيد الوضع في المنطقة.

وطوال السنوات الماضية، لم يتوقف حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، إلى جانب حزب العمال الكردستاني، عن مطالبة الحكومة باتخاذ تدابير قانونية وسياسية تضمن نجاح أيّ عملية تسوية محتملة، وهو ما عاد ليؤكد عليه باكيرهان.

خطوة حلّ حزب العمال الكردستاني تشكل منعطفًا نادرا نحو تسوية تاريخية، لكنها تبقى ناقصة دون تجاوب فعلي من الحكومة التركية

ويرى مراقبون أنه رغم أهمية هذه الخطوة من الناحية الرمزية والسياسية، إلا أن الطريق نحو تسوية حقيقية لا يزال محفوفا بالعقبات.

ويأتي التحول المفاجئ في موقف حزب العمال الكردستاني في سياق إقليمي معقّد، حيث تواجه أنقرة تحديات أمنية واقتصادية داخلية، إلى جانب ضغوط دولية متزايدة بشأن ملف حقوق الإنسان، خاصة في ما يتعلق بالمناطق الكردية جنوب شرق البلاد.

وبينما تلقى هذه المبادرة ترحيبًا حذرًا من بعض الأوساط، فإن تجاوب الحكومة التركية لا يزال محدودًا، وسط خشية من دفع أثمان سياسية داخلية، خصوصًا في ظل صعود الخطاب القومي ضمن صفوف التحالف الحاكم.

ويمثل عبدالله أوجلان، رغم عزله التام منذ أكثر من عشرين عامًا، عنصرًا رمزيًا ومحوريًا في أيّ تسوية محتملة. فالمطالب بتحسين ظروف احتجازه لا تقتصر على جانبه الإنساني فحسب، بل تشير إلى ضرورة إشراكه أو على الأقل الاعتراف بدوره في الدفع نحو مسار سياسي بديل للعنف.

ويرى باكيرهان أن هذه الخطوات الرمزية لا تعني بالضرورة تبرئة أوجلان أو تمجيده، لكنها تعكس نضجًا في إدارة الملفات الشائكة، وتوجهًا نحو طمأنة مجتمع كردي يبحث عن إشارات حقيقية على تحول سياسي فعلي.

وبينما تنظر القوى الغربية إلى ما يجري بوصفه بداية محتملة لمرحلة نضج سياسي، فإن على الحكومة التركية أن تختار بين استثمار هذه اللحظة لصالح الاستقرار الوطني، أو العودة إلى سياسة “الأمن أولًا” التي أثبتت محدوديتها في العقود الماضية.

ومن شأن أيّ مبادرة رسمية باتجاه المصالحة أن تعزز من صورة تركيا على الساحة الدولية كدولة منفتحة على الحلول السياسية، في وقت تسعى فيه إلى إعادة تموضعها إقليميًا وسط توترات مستمرة من سوريا إلى القوقاز.

ويرى الباحث في الشؤون السياسية غاليب دالي أن الحكومة التركية يجب أن تتعامل مع القضية الكردية كقضية سياسية وثقافية، وليس فقط كقضية أمنية.

ويشدد دالي على ضرورة إشراك جميع الأطراف الكردية، بما في ذلك الأحزاب غير المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، في عملية السلام، لضمان شمولية الحل واستدامته.

وتبدو الكرة الآن في ملعب أنقرة، ففي ظل إعلان غير مسبوق من قبل خصم تاريخي، لا يبدو الاكتفاء بالصمت أو الإشادة الرمزية كافيًا. فالرهان بات واضحًا: إما أن تتحول اللحظة إلى نقطة انطلاق لحقبة سياسية جديدة، أو تتحول إلى فرصة ضائعة تعيد البلاد إلى مربع العنف والشكوك.

وتشكل خطوة حلّ حزب العمال الكردستاني منعطفًا نادرا نحو تسوية تاريخية، لكنها تبقى ناقصة دون تجاوب فعلي من الحكومة التركية. فالفرصة قائمة لبناء سلام مستدام، لكن نجاحها يتوقف على إرادة سياسية تعترف بأن معالجة القضية الكردية تبدأ بالحقوق وليس بالأمن وحده.

6