انتخابات عراقية جديدة وهويات قديمة تعيد رسم المشهد السياسي

منطق الطائفة يسبق منطق الدولة: الناخب العراقي أمام مفترق الانتماء.
الاثنين 2025/05/12
استقطاب حاد ينتظر الناخبين

رغم تحسّن مؤشرات الثقة في الحكومة العراقية قبيل انتخابات 2025، يكشف تراجع الانتماء إلى الهوية الوطنية لصالح الهويات الفرعية عن مفارقة مقلقة تهدّد استقرار العملية الديمقراطية. فبينما يتقدم الأداء الحكومي، يعود الانقسام الهوياتي ليضع البلاد أمام استحقاق انتخابي قد يعيد إنتاج المحاصصة والانغلاق الطائفي.

بغداد - مع بروز مؤشرات على تراجع عدد العراقيين الذين يضعون هويتهم الوطنية في مقدمة أولوياتهم، يُرجح أن تشهد البلاد مجددا انتخابات برلمانية تتشكل وفق الهويات دون الوطنية.

ومنذ سقوط نظام صدام حسين، ظلّت العلاقة بين الحكومة العراقية وشرائح واسعة من مواطنيها متوترة، إذ أدت حالة انعدام الثقة بأداء الحكومة وبالمؤسسة الحاكمة نفسها إلى اندلاع احتجاجات وأعمال عنف.

ومع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة، تتكشف توجهات متباينة في الرأي العام العراقي؛ ففي الوقت الذي يُظهر فيه العراقيون، عموما، ميلا متزايدا نحو نظرة أكثر إيجابية تجاه الحكومة المركزية، وارتفاعا في مستوى رضاهم عن أدائها، فإن ذات الاستطلاعات تُظهر مؤشرا مقلقا يتمثل في أن نحو نصف العراقيين يُعرّفون أنفسهم بناءً على هوياتهم الفرعية، لاسيما العرقية أو المذهبية، أكثر من هويتهم العراقية الجامعة.

وفي التجارب السابقة، ارتبط التحول نحو التماهي مع الهويات الطائفية والفرعية بحدوث موجات من الاضطرابات أو الصراعات في العراق.

ويقول الدكتور منقذ داغر وكارل كالتنثالر في تقرير نشره معهد واشنطن إنه لذلك، فمن الضروري مراقبة أي مؤشرات على الاستياء عن كثب مع اقتراب موعد الانتخابات.

لطالما ارتبط سؤال "كيف تفضل أن تُعرّف نفسك؟" الذي يقيس توجهات العراقيين نحو الهوية الوطنية، بحالة الوضع السياسي والاجتماعي في العراق منذ أن بدأ طرحه في الاستطلاعات الوطنية

وترصد نتائج استطلاع الرأي العام لقياس مؤشر “محرار الرأي العراقي” المواقف العامة للعراقيين والتي تُعد حجر الأساس لاستقرار الديمقراطية في العراق. وقد طور المؤلفان هذا المشروع في أوائل عام 2021 بهدف تتبع الأسس الاجتماعية اللازمة لتمكين العراق من العمل كنظام ديمقراطي ليبرالي.

ويُنفِذ هذا المشروع استطلاعا دوريا كل ستة أشهر لقياس آراء العراقيين بشأن خمسة مؤشرات رئيسية تعكس مجتمعةً الوضع السياسي في البلاد، معتمدا في ذلك على عينة عشوائية احتمالية تمثل كافة شرائح المجتمع.

ويتم إجراء هذه الاستطلاعات من خلال مقابلات وجها لوجه، باستخدام تقنية الكمبيوتر (CAPI)، على يد فرق بحثية تابعة لـ”المجموعة المستقلة للأبحاث”، تقوم بزيارة المشاركين في منازلهم في جميع أنحاء المحافظات العراقية، بما في ذلك سكان الريف والمدن على حد سواء.

ويقيس مشروع “محرار الرأي العراقي” المواقف التي يعتبرها المؤلفان أساسية للحفاظ على استقرار الديمقراطية في العراق.

ومن بين هذه المؤشرات المهمة “الرضا عن الحياة”، فكلما زاد رضا المواطن عن حياته، زادت احتمالية دعمه للوضع السياسي القائم.

وتشمل التقييمات مقاييس مهمة أخرى مثل أداء النظام الديمقراطي وفعالية نظام الحكم في البلاد. أما المؤشران الأخيران في هذا المقياس فيمثلان مستوى التفكير الطائفي في المجتمع، وكيفية تعريف العراقيين لهويتهم العراقية الجامعة مقارنة بالهويات الفرعية أو العابرة للحدود الوطنية.

وعلاوة على ذلك، يعتمد مشروع “محرار الرأي العراقي” على سلسلة من أسئلة الاستطلاع لإنشاء مؤشر من أربع درجات يمثل متوسط المقاييس الفرعية الخمسة المرتبطة بالمواقف تجاه استقرار الديمقراطية في العراق.

وكلما اقترب المؤشر العام من 4، فإن ذلك يدل على ارتفاع مستوى التأييد الشعبي للنظام الديمقراطي العام في البلد.

وعند مقارنة النتائج التي خرج بها “محرار الرأي العراقي” في أول موجة في مارس 2021 بآخر موجة في يناير 2025، سنلاحظ حدوث تحسن طفيف في البنية الأساسية للمواقف العامة المؤيدة للديمقراطية، حيث ارتفع المعدل من 2.3 إلى 2.5 من أصل 4.

ويُعزى هذا الارتفاع النسبي إلى تحسن النظرة العامة تجاه مؤشرات “طريقة الحكم” منذ منتصف عام 2023، أي خلال فترة رئاسة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.

وأظهر العراقيون مواقف إيجابية ملحوظة، سواء في ما يتعلق بالثقة في الحكومة أو تقييمهم لأداء رئيس الوزراء وطريقة إدارته.

قائمة طويلة والاختيارات قليلة
قائمة طويلة والاختيارات قليلة

وعلى سبيل المثال، ارتفعت نسبة من يثقون بالحكومة المركزية من 26 في المئة في بداية عام 2022 (قبل انتخاب السوداني) إلى 54 في المئة في الوقت الراهن. كما ارتفعت نسبة من يرون أن الوضع الأمني جيد أو جيد نوعا ما من 22 في المئة إلى 70 في المئة، وقفزت نسبة من يرون أن العراق يسير في الاتجاه الصحيح من 18 في المئة إلى 53 في المئة خلال الفترة ذاتها. ومع ذلك، هناك مؤشّر مقلق يتعلق بتغير المواقف تجاه الهوية الوطنية، حيث يضع 53 في المئة من العراقيين هوياتهم الفرعية (الدينية، العرقية، الطائفية، إلخ) فوق هويتهم الوطنية العراقية.

ولطالما ارتبط سؤال “كيف تفضل أن تُعرّف نفسك؟” الذي يقيس توجهات العراقيين نحو الهوية الوطنية، بحالة الوضع السياسي والاجتماعي في العراق منذ أن بدأ طرحه في الاستطلاعات الوطنية التي أجرتها المجموعة المستقلة للأبحاث منذ اكثر من عشرين سنة.

وفي بداية عام 2004، حين بدأت نذر الحرب الطائفية تلوح، وصف أقل من ربع العراقيين أنفسهم بأنهم “عراقيون أولا وقبل كل شيء”. وبعد هزيمة القاعدة، ارتفعت هذه النسبة إلى الثلثين، لكنها عادت وانخفضت في عام 2012 بعد سيطرة تنظيم داعش على أجزاء واسعة من العراق.

وبعد تحرير العراق من تنظيم داعش، عادت الهوية الوطنية للتصاعد، حيث قال 58 في المئة من العراقيين في منتصف عام 2022 إنهم يشعرون بأنهم عراقيون قبل أي شيء آخر.

ومع ذلك، شهد مؤشر الهوية الوطنية تراجعا ملحوظا في بداية هذا العام. ويُعزى هذا الانخفاض في الشعور بالانتماء الوطني، بشكل رئيسي، إلى تصاعد الخطاب الطائفي في وسائل الإعلام العراقية، التي لا تزال تعمل في معظمها على أسس طائفية وعرقية وصارت تستخدم لغة طائفية بشكل متزايد خلال العام الماضي. فالمنافسة على جذب المشاهدات تدفع العديد من المنصات الإعلامية إلى إثارة قضايا تُلهب المشاعر الطائفية. وقد استمر الخطاب الطائفي في العراق كأداة تقليدية لحشد المجموعات المختلفة وتعميق الانقسامات الداخلية.

وتنبغي الإشارة هنا إلى أن تلك المواقف تختلف أيضا بحسب الفئات، إذ يقول 60 في المئة من العرب السنة إن هويتهم العراقية تأتي أولا وقبل كل شيء، مقابل 52 في المئة من العرب الشيعة.

ولا تتجاوز نسبة السنة الذين اختاروا الهوية الوطنية العراقية في عام 2007 40 في المئة، مقارنة بأكثر من 60 في المئة من الشيعة. أما غالبية الأكراد فلا تزال تفضل الهوية الكردية، وهو ما أدى إلى مطالبات بالاستقلال أو بالحكم الذاتي الموسع، يقابلها في الوقت نفسه استياء متزايد من أداء حكومة إقليم كردستان محليا، كما أظهرته الانتخابات الكردية الأخيرة.

وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تُعزى حالة الانقسام في الآراء العراقية، سواء تجاه الحكومة أو غيرها، إلى الانتماءات الطائفية والعرقية. لقد طرأ تحول كبير في آراء المكونات العراقية منذ عام 2017. فقد أظهر العرب السنة، الذين كانوا متشائمين في السابق، أكثر تقبلا للوضع السياسي القائم، في حين ازدادت خيبة أمل العرب الشيعة – الذين يُفترض أنهم يمثلون الأغلبية السياسية والديموغرافية – إلى جانب الأكراد فأظهروا اتجاهات سلبية أكبر تجاه الوضع السياسي.

مع تراجع الهوية الوطنية، يرجح أن تشهد البلاد مجددا انتخابات برلمانية تتشكل وفق الهويات دون الوطنية
مع تراجع الهوية الوطنية، يرجح أن تشهد البلاد مجددا انتخابات برلمانية تتشكل وفق الهويات دون الوطنية

وتميزت الفترة التي تلت سقوط نظام صدام وإلى غاية تحرير الموصل من داعش في 2017، بمعارضة شديدة للسنة العرب للنظام السياسي بعكس التوجه الإيجابي السائد آنذاك لدى الشيعة والأكراد، غير أن بعد تحرير الموصل من سيطرة تنظيم داعش، تبدلت المعادلة تماما، فأصبح السنة أكثر تفاؤلا مقارنة بالشيعة والأكراد، الذين تراجع رضاهم عن الوضع السياسي.

وسلطت المواجهة بين إقليم كردستان والحكومة العراقية في سبتمبر 2017 بعد الاستفتاء على الاستقلال، ثم انتفاضة أكتوبر 2019 في بغداد وجنوب العراق، الضوء على مدى تأثير هذه التحولات في الرأي العام على النظام السياسي العراقي.

وفي الوقت الذي شهدت فيه المناطق السنية هدوء نسبيا شهدت المناطق الكردية حالة عدم رضا واضحة قادت إلى استفتاء الاستقلال، ثم شهدت المناطق ذات الغالبية الشيعية بعد ذلك احتجاجات واسعة نجم عنها مقتل أكثر من 700 شاب عراقي، معظمهم شيعة، وجرح آلاف آخرين.

إن أحد التفسيرات لهذا التغير في موقف الرأي العام للجمهور السني مفاده أن العرب السنة قد بدأوا يتقبلون موقعهم الجديد في عراق ما بعد صدام، لاسيما بعد الأهوال التي شهدوها على يد تنظيم “داعش” وهي فترة مظلمة لا يريدونها في مناطقهم ثانية. كما أن إدخال بعض التعديلات على النظام السياسي في بغداد جعلته أكثر مقبولية لهم.
وعلى النقيض، أصيب الشيعة والأكراد، الذين كانت توقعاتهم من النظام الجديد مرتفعة، بخيبة أمل إزاء التطورات السياسية والاقتصادية التي شهدها العراق والتي زادت أوضاعهم سوءً.

وتبدو المخاوف بشأن مستقبل البلاد أكثر وضوحا لدى الأكراد، ففي حين يرى 62 في المئة من العرب السنة و56 في المئة من الشيعة العرب أن العراق يسير في الاتجاه الصحيح، تنخفض هذه النسبة إلى 11 في المئة فقط بين الأكراد. وعند سؤالهم عن مدى ثقتهم في الحكومة، قال 62 في المئة من السنة إنهم يثقون بها، مقابل 57 في المئة من الشيعة، و33 في المئة فقط من الأكراد.

وكانت الطائفية ولا تزال تشكّل آفة كبرى في العراق. ورغم أن صعود تنظيم داعش كان المثال الأشد تطرفا لعواقب الطائفية، فإن هناك عواقب أخرى ناجمة عن غياب هوية وطنية جامعة بين العراقيين. فقد أدى تفضيل الهويات الفرعية على الهوية الوطنية إلى انقسام الساحة السياسية، وأصبحت الأحزاب السياسية غالبا ما تُبنى على أسس طائفية وعرقية، لا على رؤى سياسية متنافسة لبناء الدولة.

العراق أمام اختبار جديد

وقد جعل ذلك من تشكيل التحالفات السياسية أمرا بالغ الصعوبة بعد كل دورة انتخابية، وهو ما يُتوقع أن يتكرر في الانتخابات المقبلة المقررة في نوفمبر 2025. ونتيجة لضعف الهوية الوطنية الجامعة، أصبح النظام السياسي قائما على مبدأ إرضاء المكونات الفرعية لضمان تعاونها في سن السياسات وتنفيذها. ونتج عن ذلك نظام “المحاصصة”، الذي يقسم الوظائف والسلطة بين نخب الطوائف والمكونات المختلفة، مما أدى إلى تفشي الفساد والجمود السياسي في العديد من القضايا الأساسية.

ورفضت النخب السياسية استبدال نظام “المحاصصة” بنظام برلماني قائم على قاعدة “الفوز للأغلبية”، لأنه يُهدّد مصالح مجموعاتها الفرعية الطائفية. وهذا يعني أن الولاءات الفئوية قد أسهمت في تقويض فرص العراق في التحول إلى نظام ديمقراطي فعال.

ونظرا لطبيعة المشهد السياسي العراقي الذي يتسم بالتشرذم القائم على الهويات دون الوطنية، وعلى أحزاب تشكلت حول شخصيات قيادية بعينها بدلا من برنامج أيديولوجي واضح، فإنه من المستبعد أن يتمكن أي حزب من حصد أغلبية الأصوات في الانتخابات الوطنية لعام 2025.

ويتوقع أن تشهد هذه الانتخابات كسابقاتها تصاعدا محموما في نبرة الخطاب الطائفي. هذا يعني أن في عام 2025، كما كان الحال منذ أن نظّم العراق أول انتخابات وطنية، ستشهد البلاد مجددا فترة مطوّلة من المفاوضات (ضمن الطوائف وبينها) بشأن الأحزاب والشخصيات التي ستتولى تشكيل الحكومة الجديدة.

وتشير هذه المفاوضات إلى أن القرارات المتعلقة بمن سيتولى السلطة في العراق ستُتخذ في الغالب خلف الأبواب المغلقة.

وجعلت هذه المفاوضات والصفقات العديد من العراقيين يشعرون بأنهم لا يملكون فعليا رأيا في من يقودهم. وبناءً على ذلك، لا يوجد ما يبرر الاعتقاد بأن العراقيين سيصبحون أكثر إيجابية تجاه نظامهم السياسي بعد الانتخابات المقبلة في عام 2025.

 

اقرأ أيضا:

      • عقدة المركز والهامش.. بين ذاكرة الأنفال وصدى الحصار

      • هل ينحني ساسة العراق للعاصفة؟

7