الشرق الأوسط ملاذ أخير لإعادة إحياء نفوذ فرنسا على الساحة العالمية

باريس - مع اقتراب عام 2027، تزداد الضغوط على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يجد نفسه في مفترق طرق سياسي داخلي، إذ يسعى جاهدا لتحقيق مكانة تاريخية قبل مغادرته السلطة بشكل نهائي.
وفي الوقت الذي تُمنع فيه غريمته التقليدية اليمينية المتطرفة مارين لوبان من الترشح لخلافته في الانتخابات الرئاسية المقبلة، يواجه ماكرون تحديات محلية جسيمة جعلت هامش مناورته في الساحة الداخلية ضيقا للغاية.
ودفعت هذه الظروف ماكرون إلى نقل معركته من الساحة المحلية إلى الساحة الدولية، وبالتحديد إلى منطقة الشرق الأوسط، التي أصبحت الملاذ الأخير له في محاولة لاستعادة البعض من نفوذ فرنسا في عالم يعاني من تحولات غير متوقعة.
وتأتي سياسة ماكرون الخارجية في وقت تشهد فيه فرنسا تحولا لافتا على الصعيد الداخلي، حيث بدأنا نرى تراجعا في نفوذها في العديد من المناطق، خصوصا في أفريقيا.
وفي بداية عام 2025، استمرت فرنسا في سحب قواتها من منطقة الساحل الأفريقي، ما أثار تساؤلات حول مستقبل تأثيرها في مستعمراتها السابقة في المنطقة.
ماكرون يتوجه إلى الشرق الأوسط في محاولة لاستعادة البعض من نفوذ فرنسا في عالم يعاني من تحولات غير متوقعة
وترك هذا التراجع ماكرون أمام خيار واحد تقريبا لتعزيز مكانة فرنسا على الساحة الدولية: الشرق الأوسط.
وفي ظل هذا الواقع، تحوّلت الأنظار إلى الشرق الأوسط كمنطقة حيوية لإعادة إحياء نفوذ فرنسا على الساحة العالمية، خاصة أن باريس كانت قد اعتمدت سياسة تاريخية تجاه المنطقة بدأت مع الرئيس الراحل شارل ديغول بعد حرب الأيام الستة عام 1967، عندما قرر ديغول تبني سياسة مؤيدة للعرب بشكل قاطع، وهي السياسة التي لا تزال تحكم توجيه العلاقات الفرنسية تجاه المنطقة حتى اليوم.
وبينما يسعى ماكرون للاستمرار في هذه السياسة التقليدية، يجد نفسه محاطا بتحديات معقدة. ففي لبنان، على سبيل المثال، الذي تربطه بفرنسا علاقة تاريخية عميقة تعود إلى القرن السابع عشر، اتبعت باريس سياسة متناقضة في التعامل مع حزب الله.
وعلى الرغم من تاريخ الحزب المليء بالهجمات الإرهابية ضد فرنسا، لم تتوقف باريس عن التواصل مع الحزب بل سعت إلى التفاوض معه باعتباره جزءًا من المشهد السياسي اللبناني.
وعلى الرغم من أن هذه السياسة كانت متوافقة مع توجهات السياسة الخارجية الفرنسية، فإن موقف ماكرون بات أكثر تعقيدا مع تفاقم الأوضاع في المنطقة.
وفي إطار سعيه للعب دور الوسيط النزيه، ضغط ماكرون على إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن لضمان تعاون فرنسا مع الولايات المتحدة من أجل تنفيذ وقف إطلاق النار في لبنان، وهو ما أظهره أيضا من خلال تصريحات مبهمة تتعلق بالقبض على شخصيات إسرائيلية بارزة مثل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بناءً على اتهامات محكمة الجنايات الدولية.
ماكرون يواجه تحديا داخليا غير مسبوق نتيجة لتزايد عدد المسلمين في فرنسا، الذي أصبح يشكل 10 في المئة من إجمالي السكان
ورغم التراجع عن هذه التصريحات، فإن هذه المناورات كانت تهدف إلى دفع إسرائيل إلى قبول دور فرنسا كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار.
وفي الوقت نفسه، يواجه ماكرون تحديا داخليا غير مسبوق نتيجة لتزايد عدد المسلمين في فرنسا، الذي أصبح يشكل 10 في المئة من إجمالي السكان.
وتلعب هذه القاعدة الانتخابية ذات الوزن الكبير دورا مهما في تشكيل السياسة الفرنسية تجاه الشرق الأوسط، حيث يسعى ماكرون إلى الحفاظ على توازن دقيق بين المصالح المحلية والخارجية.
وفي ظل هذا الواقع، تتزايد الضغوط على ماكرون لتجنب دعم إسرائيل بأي شكل من الأشكال، وذلك تجنبا لانفجار اجتماعي قد يتسبب في تقويض استقرار الحكومة الفرنسية.
وهذا ما يفسر تصريحاته الأخيرة التي أشار فيها إلى إمكانية اعتراف فرنسا بدولة فلسطينية بحلول يونيو المقبل، وهو ما لقي دعما من حركات فلسطينية مثل حماس، التي سارعت إلى تأييد هذه المبادرة.
وبناءً على هذه المعطيات، يبدو أن ماكرون قد وجد نفسه في وضع صعب، بين محاولاته للتمسك بنهج سياسة فرنسا التقليدية تجاه الشرق الأوسط وبين الحاجة إلى التكيف مع الواقع الداخلي في فرنسا.
وأصبح الشرق الأوسط بمثابة الملاذ الأخير له، كمحاولة لتعويض تراجع نفوذ بلاده على الساحة العالمية. لكن هذا التوجه قد لا يكون كافيا لإعادة فرنسا إلى مكانتها السابقة، حيث يواجه ماكرون تحديات حقيقية في الداخل والخارج.
وتظل السياسة الفرنسية في المنطقة محكومة بتوازن دقيق بين المصالح الإستراتيجية والمتغيرات الدولية، ولكن في ظل هذا الوضع المتأزم، تبقى الخيارات محدودة.
وربما تكون هذه نهاية مرحلة لفرنسا، التي كانت يوما ما من القوى الكبرى في العالم، ولكنها اليوم تكافح لاستعادة ما فقدته في ظل التغيرات السياسية العالمية المتسارعة.