إيزيس تحرس النيل.. معبد فيلة المصري أبهر العالم

مصادر تاريخية تؤكد أن تقديس إيزيس انتشر من مصر إلى بلاد اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد، ثم انتشر بعدئذ في جميع أجزاء الإمبراطورية.
الأربعاء 2025/05/07
معبد نجا من الغرق

في قلب نهر النيل بجنوب مصر يقف معبد فيلة شامخا كتحفة معمارية تروي أساطير الحضارة الفرعونية، وتُجسد عبقرية الهندسة القديمة. بين نقوش الجدران وقصة إنقاذه من الغرق، تتعدد فصول الحكاية التي جعلت منه أحد أعظم المزارات التاريخية وأكثرها سحرا.

القاهرة - بين ضفتي النيل في جنوب مصر، يخطف معبد فيلة الفرعوني الشاهق أنظار السياح الذين يتوافدون سنويا لاكتشاف أسرار التاريخ المصري القديم المنحوتة على جدران المعبد.

العشرات من السياح استقلوا مركبا تقليديا من ضفاف محافظة أسوان، وصولا إلى معبد فيلة ويُعرف بأساطيره المرتبطة بالمعبودة إيزيس، وبدأ بناؤه في عهد الملك بطليموس الثاني (285 – 246 ق.م)، واستكمله عدد من ملوك البطالمة، وخصص لعبادة الإلهة إيزيس.

دقائق قليلة على متن المركب كفيلة بأن تشعل فضول الزائر، إذ يبدو معبد فيلة من الخارج كصرح شاهق يطل من قلب النيل، ويخفي بين جدرانه الكثير من الأسرار.

يقول مجدي شاكر، أحد أبرز خبراء الآثار في مصر، إن “معبد فيلة يُعد من أروع المعابد في تاريخ مصر القديم، إذ يقع في قلب نهر النيل وتتم زيارته عبر المراكب، ولا يختلف اثنان على الطاقة الإيجابية التي يشعر بها الزوار وهم يعبرون بين مياه النيل وآثاره الشاهقة والمبهرة”. ويضيف أن اسم “فيلة” يعني في اللغة الإغريقية القديمة “المحبوبة” أو “الحبيبة”، في إشارة إلى المعبودة الشهيرة إيزيس التي خُصّص لها المعبد.

حح

وأشار إلى أن المعبد الذي يعود إلى العصر اليوناني الروماني يحمل أساطير عديدة، منها أنه “مكان مبروك ومقدس تنال منه البركة، وأيضا أسطورة تعود إلى معبودته إيزيس التي قيل إن فيضان النيل ارتبط ببكائها على زوجها أوزيريس، باعتبار أنها كلما فاضت بدموعها الغزيرة عليها امتزجت بمياه النيل وحدث الفيضان، فضلا على أنها معبودة عالمية أيضا”.

وتقول مصادر تاريخية إن تقديس إيزيس انتشر من مصر إلى بلاد اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد، ثم انتشر إلى صقلية في القرن الثالث، وإلى إيطاليا في القرن الثاني، ثم انتشر بعدئذ في جميع أجزاء الإمبراطورية، وعثر على صورها المقدّسة على ضفاف نهرى الدانوب والسين، وكُشف عن آثار معبد لها في لندن.

وكانت إيزيس وزوجها أوزوريس وابنهما حورس أهم ثلاث شخصيات في الأساطير المصرية القديمة، تشابهت قصتهم مع واحدة من أكثر كتابات شكسبير مأساوية.

مثلت إيزيس إحدى أهم الشخصيات في العالم القديم، عُرفت كمعالجة، واهبة للحياة، وحامية للملوك، حيث لم تشتهر أسطورتها فقط في زمن المصريين القدماء، لكنها انتشرت في جميع أنحاء اليونان والإمبراطورية الرومانية.

وشُيد لها لاحقا معبد خاص في لندن، بحسب ما ذكر تقرير نقلته شركة “الضوء والصوت” المعنية بعروض ضوئية بمناطق الآثار المصرية ليلا عن المعبد عبر موقعها الإلكتروني.

ويشدد الخبير مجدي شاكر على الأهمية التاريخية الفريدة لمعبد فيلة، إذ يُعد آخر المعابد الوثنية في مصر، وآخر معبد شهد ممارسة الطقوس الدينية للمصريين القدماء.

ويضيف أن قصة نقل المعبد من جزيرته الأصلية إلى جزيرة أخرى مجاورة، رغم ضخامته وتعقيد بنائه، تُعد إنجازا هندسيا فريدا “يفوق الوصف”، وقد سُجّل ضمن أبرز المشاريع الأثرية في مصر، مؤكدا أن هذه القصة “تستحق أن تُوثق في فيلم سينمائي يكشف تفاصيلها المبهرة للسياح والعالم”.

كان معبد فيلة، شأنه شأن الأهرامات الثلاثة، واحدا من أبرز المقاصد السياحية في مصر خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث توافد عليه الزوار من مختلف أنحاء العالم. وقد حالف الحظ أولئك الذين زاروه آنذاك، إذ تمكّنوا من رؤية جدرانه وأعمدته المزينة بألوانها الزاهية كما كانت في هيئتها الأصلية.

حح

غير أن بناء السد العالي في ستينات القرن الماضي أدى إلى غمر جزيرة فيلة بالكامل بمياه النيل، ما تسبب في اختفاء تلك الألوان الزاهية إلى الأبد، وفق ما ذكره تقرير صادر عن شركة “الضوء والصوت”.

في فترته الأولى، قبل أن يُنقل من موقعه الأصلي، وثّقت كاتبة السفر البريطانية الشهيرة أميليا إدواردز زيارتها الأولى إلى معبد فيلة عام 1873، ووصفت المشهد بعبارات شاعرية تفيض بالانبهار.

تقول إدواردز “من مستوى قارب صغير، تبدو الجزيرة بأشجارها وأعمدتها وكأنها ترتفع من النهر كسراب. الصخور المكدسة كانت تحيط بها من كل جوانب الجبل الأرجواني الراقد في الجوار. ومع انزلاق القارب بجانب الصخور اللامعة، ارتفعت الأبراج المنحوتة في السماء. كانت تبدو صلبة، فخمة، وكاملة؛ إلى درجة تجعل المرء ينسى كل شيء في تلك اللحظة،” وفق ما نقلته شركة “الضوء والصوت”.

وبالفعل، جرى نقل 4 آلاف و200 كتلة أثرية إلى إجيليكا، وفي 1977 انتهت عملية نقل وترميم وإعادة تركيب أجزاء المعبد بدقة، وجرى افتتاحه أمام الزوار في 1980.

ووفقا لما ذكرته شركة “الصوت والضوء”، فقد أنقذ المشروع المشترك بين منظمة اليونسكو والحكومة المصرية معبد فيلة من الغرق في أعماق النيل، بعد أن غمرت المياه جزيرته الأصلية. ولا تزال الجزيرة القديمة ترقد اليوم في قاع بحيرة ناصر.

ورغم أن الزائرين لا يمكنهم مشاهدة المعبد بألوانه الأصلية كما كانت قبل الغمر، إلا أن هيكله لا يزال قائما في حالة مدهشة، حيث يكشف بوضوح لماذا كان هذا المعبد يحظى بمكانة خاصة لدى المصريين القدماء.

ووفق وزارة الآثار المصرية، تشمل آثار فيلة مباني عديدة يعود تاريخها إلى العصر البطلمي (332 – 30 ق.م)، أبرزها معبد فيلة.

فيما يُعتبر معبد إيزيس أسطوريا، لكونه أحد أكثر المعابد المصرية القديمة استمرارا، إذ ظل المعبد يؤدي دوره حتى عهد الملك البيزنطي جستنيان الأول (527 – 565 م)، الذي أمر بإغلاق المعابد الوثنية.

حخح

ومن أبزر مناظر هذا المعبد الرئيسي المنحوتة على جدرانه، المنظر المصور للمعبودة إيزيس على جدران الماميزي (حجرة الولادة) وهي تقوم بإرضاع طفلها المعبود حورس، وهي الحجرة التي كان يتم فيها الاحتفال بولادة هذا المعبود.

وبجوار معبد إيزيس يوجد آخر مكرس لحتحور، بناه بطلميوس السادس (180 – 145 ق.م)، وأغسطس أول إمبراطور لروما (30 ق.م. – 14م).

ولا تزال مقصورة تراجان (98 – 117 م)، المقامة أمام معبد فيلة قائمة، على الرغم من أن سقفها لم يعد موجودا. وعلى مر التاريخ جذب الترتيب المنتظم لأعمدتها أنظار الرحالة فقاموا بوصفها وتصويرها، حسب الوزارة.

وبخلاف تلك المناظر “يمكن ليلا أن تشاهد عروض الصوت والضوء وهي تجربة شيقة حيث يعكس ضوء المباني والصخور البركانية على المياه التي تحيط بالمعبد، بحسب ما تذكره محافظة أسوان التي تحتضن المبعد عبر موقعها الإلكتروني.

ويؤكد مجدي شاكر على أهمية الترويج لمعبد فيلة بشكل أوسع، ، مشيرا إلى أن موقعه الفريد في قلب النيل يمنحه سحرا خاصا ليلا ونهارا.

ويقترح إقامة حفلات موسيقية وعروض أوبرا تستلهم قصة حب إيزيس لزوجها أوزوريس ومصرعه، وما قامت به من أجل إعادته إلى الحياة، في أجواء درامية مشوقة من شأنها جذب أعداد كبيرة من السياح.

18