من كوة الشناشيل.. البصرة القديمة تتطلع إلى مستقبل سياحي واعد

من كوة الشناشيل في البصرة القديمة تتجلى صورة تراثية فريدة من نوعها تحمل في تفاصيلها عبق التاريخ وجمال المعمار العريق. واليوم، مع جهود الترميم والتحسين المستمرة تتطلع البصرة إلى مستقبل سياحي واعد يعيد إحياء هذا التراث الثقافي ويجذب الزوار من جميع أنحاء العالم.
البصرة (العراق)- تستعيد “شناشيل البصرة“، التي تقع في جنوب العراق، تدريجيًا رونقها وعبقها التاريخي، من خلال شرفاتها الخشبية وهندستها المعمارية البديعة التي تروي قصة الأجيال الماضية. وتمتاز هذه البيوت بجمالها الفريد ومتانتها، وتعتبر شاهدًا حيًا على تاريخ البصرة وثقافتها. وكانت مدينة البصرة تُلقب بـ”فينيسيا الشرق الأوسط” نظرًا إلى وجود مجار مائية تمر عبرها، ما جعلها تشبه مدينة البندقية الإيطالية. وقد اشتهرت هذه المدينة بمنازلها المميزة، التي تعرف بـ"الشناشيل"، التي تم بناؤها على جانبي الممرات المائية، ما جعلها جزءًا أساسيًا من هوية المدينة.
وتُعَدُّ شناشيل البصرة مرآة لتاريخ العراق وحكايات العوائل ميسورة الحال التي سكنت فيها، حيث تعكس تفاصيل تلك البيوت جانبًا من حياة الشخصيات التي أثّرت في المجتمع العراقي. وتتميز بيوت الشناشيل بتصميمها المميز، حيث تتكون من طابقين؛ الطابق الأول يُبنى من الطابوق، بينما يكون الطابق الثاني مُغطى بشرفات خشبية رائعة. على خلاف البيوت التقليدية، وتتيح هذه التصميمات لسكان البيوت الاستمتاع بالجو الخارجي دون المساس بالخصوصية.
ويتميز تصميم الشناشيل بقدرته على التحكم في كمية أشعة الشمس والهواء داخل الغرف، من خلال “القلاليب” (وهي هياكل خشبية تتيح توجيه حركة الهواء). كما أن الشرفات الخشبية تمنح الجالس فيها رؤية لما يحدث في الخارج دون أن يكون مرئيًا من الخارج، مما يعكس العلاقة بين الخصوصية والاتصال بالمجتمع المحيط.
ويعتقد العديد من المتخصصين في عمارة المدن أن الشناشيل تعد حلقة وصل مهمة بين فنون العمارة التقليدية والفن المعماري الحديث. وبرزت أهميتها في البصرة بداية من القرن السادس عشر، نظرًا لملاءمتها للظروف البيئية في المدينة التي تشتهر بتربة رخوة وارتفاع منسوب المياه الجوفية، كما أن الشناشيل خفيفة نسبيًا نظرًا إلى استخدام الخشب في بنائها، ما يسمح بتشييدها دون الحاجة إلى حفر أسس عميقة، وهو ما يميزها عن غيرها من الأبنية.
وفي إطار جهود الحفاظ على التراث الثقافي، تعاونت منظمة اليونسكو مع السلطات المحلية في البصرة لتحديث وترميم بيوت الشناشيل التاريخية. وقد تم تجديد العديد منها وتحويلها إلى مراكز ثقافية تسهم في تعزيز الوعي الثقافي والسياحي في المدينة. كما مول الاتحاد الأوروبي مبادرة تجديد هذه البيوت ضمن مشروع لتعزيز السياحة في العراق، وهو جزء من جهود أوسع لجذب المزيد من السياح لاستكشاف المعالم الثقافية والتاريخية الفريدة في البلاد.
◙ المتخصصون في عمارة المدن يرون أن الشناشيل تعد حلقة وصل مهمة بين فنون العمارة التقليدية والفن المعماري الحديث
وأشار مصطفى الحسيني، مدير دائرة الآثار والتراث في البصرة، إلى أن جهود تجديد البيوت التراثية وتحويلها إلى مراكز ثقافية مثل بيت الفنانين وقصر الثقافة ساهمت في جذب المزيد من السياح. وأكد أن دعم الحكومة المحلية والمركزية ضروري لإحياء هذه البيوت التراثية، حيث أشار إلى أن أكثر من 100 بيت في البصرة القديمة في حاجة إلى ترميم، بينما تم تجديد 10 في المئة فقط من هذه البيوت بفضل الدعم الذي تقدمه اليونسكو والاتحاد الأوروبي.
وأضاف الحسيني أن عملية الترميم لهذه البيوت أسهمت في زيادة الحركة السياحية في البصرة، حيث أصبحت المدينة وجهة مفضلة للزوار الراغبين في استكشاف التراث العراقي.
وقد أوضح المهندس قصي شمخاوي، منسق مشاريع اليونسكو في البصرة، أن الكثير من المنازل التراثية الخشبية في المدينة قد تعرضت للإهمال على مر السنين، مشيرًا إلى أن هذه البيوت التي يزيد عمرها عن 100 عام كانت متهالكة جدًا. وأشار إلى أن مشروع الترميم الجاري حاليًا يتضمن تجديد ثلاثة بيوت تراثية في منطقة “محلة الباشا” وإعادة إحياء نهر العشار المار في المنطقة القديمة للبصرة.
وإضافة إلى تجديد الأطر الخشبية للنوافذ، يقوم فريق العمل بإصلاح التالف من الخشب ومعالجته من حشرة الأرضة، ويستبدل الأجزاء التالفة بأخشاب مشابهة لما كان يُستخدم قديمًا، بالإضافة إلى استيراد الكاشي الهيدروليكي (الذي كان يُستخدم في العراق سابقًا) من الخارج لاستكمال عملية الترميم.
كما أشار شمخاوي إلى أهمية تدريب الحرفيين المحليين على المهارات المطلوبة لتنفيذ أعمال الترميم بدقة، من أجل الحفاظ على الطابع الأصيل لهذه المنازل التراثية وتفاصيلها المعمارية الدقيقة. وهذه الجهود تهدف إلى إعادة إحياء الهوية الثقافية للبصرة، والحفاظ على تراثها المعماري الذي يعد جزءًا لا يتجزأ من التاريخ العراقي.
ومع تواصل الجهود الرامية إلى الحفاظ على شناشيل البصرة، فإن هذه البيوت التراثية تمثل ليس فقط جزءًا من تاريخ المدينة، بل أيضًا نقطة انطلاق نحو مستقبل سياحي واعد. من خلال تجديد هذه البيوت وتحويلها إلى مراكز ثقافية وسياحية، تُعيد البصرة إلى الواجهة باعتبارها مدينة تجمع بين عبق الماضي وجمال الحاضر، وتستقطب الزوار من جميع أنحاء العالم لاستكشاف هذه التحفة المعمارية الفريدة.