انكفاء أميركي وتوجس من دمشق.. أكراد سوريا يعيدون تموضعهم الأمني

مدنيون في القامشلي يتدربون على استخدام السلاح تحسبا لهجمات محتملة.
الجمعة 2025/04/25
تحصين الذات من غموض المستقبل

مع انسحاب محتمل أو تقليص للتواجد الأميركي تزداد أهمية تدريبات الدفاع الذاتي كمؤشر على محاولة المجتمعات المحلية في القامشلي سد الفراغ الأمني. غير أن هذه الخطوة تكشف في الوقت نفسه عن غياب الثقة بالسلطة المركزية في دمشق.

القامشلي (سوريا) - تتنامى مخاوف سكان القامشلي في شمال شرق سوريا من أن تتحول مناطقهم إلى ساحة جديدة لانتكاسات أمنية تشبه ما جرى مؤخرًا في الساحل السوري، حيث أدت هجمات طائفية دامية إلى مقتل المئات من العلويين.

ومع اقتراب موعد انسحاب جزئي للقوات الأميركية من المنطقة، تتكثف تدريبات الدفاع الذاتي التي تُشرف عليها الإدارة الكردية، في محاولة لتحصين المجتمعات المحلية في مواجهة مستقبل يتسم بالغموض والتقلب.

ويرى محللون أن هذه المبادرة لا تنبع من مجرد حرص محلي على الأمن، بل من شعور عميق بأن الدولة السورية الجديدة، بعد رحيل نظام بشار الأسد، لا تزال عاجزة عن السيطرة الفعلية على القوى المسلحة التي تنتشر على الأرض.

وعلى الرغم من توقيع اتفاقيات تعاون بين قوات سوريا الديمقراطية ( قسد) وحكومة دمشق، إلا أن الثقة الشعبية بهذه الاتفاقيات تبدو محدودة، في ظل استمرار وجود عناصر أجنبية ومقاتلين متشددين داخل المناطق السورية، لا يخضعون فعليًا لأيّ سلطة مركزية.

ويعكس المشهد الحالي تصدع البنية الأمنية والسياسية في مرحلة ما بعد الأسد، حيث تحاول السلطات الكردية تحقيق توازن دقيق بين التعاون مع الدولة السورية الناشئة من جهة، والاعتماد على القدرات المحلية الذاتية من جهة أخرى.

◙ المجتمعات المحلية تبدو مضطرة إلى أن تتحمّل عبء أمنها بنفسها، في غياب مؤسسات موثوقة تُوحد السلاح وتفرض القانون

وتأتي هذه الاستعدادات في وقت يتخوف فيه الأهالي من انتقال عدوى العنف من الساحل إلى الشمال الشرقي. فالتوترات الطائفية، التي كانت سمة مدمرة للحرب السورية على مدى عقد، تعود لتتفاقم في ظل هشاشة الهياكل العسكرية الجديدة، واعتماد القيادة السورية الحالية على تحالفات غير متجانسة مع فصائل، بعضها متطرف، بات يطلب منها الآن الحفاظ على الأمن ومحاربة نظرائها في المعارضة السابقة.

وذكر نبيل إسماعيل، الذي كلفته الإدارة الكردية بتدريب مدنيين على الدفاع واستخدام السلاح، أن هذه المبادرة جاءت بعد أعمال العنف الأخيرة في الساحل السوري حيث قُتل المئات من العلويين في أوائل مارس انتقاما فيما يبدو لمقتل أفراد من قوات الأمن السورية الجديدة في كمين نصبه مسلحون موالون للرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، وهو علوي.

وقال نبيل “عم نتدرب داخل التدريب، تجديد التدريب، لحتى هالمجتمع بكل مكوناته يقدر يحمي حاله بعد أيام اللي بده يصير، نأخذ التدابير مشان اللي بيصير بالساحل ما يصير عندنا بشمال شرق سوريا.” وأضاف أن الاتفاقات التي وقّعتها السلطات الكردية والحكومة السورية لا تعني أن الناس يثقون بالمقاتلين الأجانب المتهمين بالمشاركة في أعمال العنف.

ويراقب الغرب قادة سوريا عن كثب للتأكد من أنهم سيكبحون جماح المقاتلين الإسلاميين، الذين قتلوا المئات من العلويين، وسيشكلون حكومة شاملة ذات مؤسسات فعالة وسيحافظون على النظام في بلد مزقته الحرب الأهلية على مدى سنوات وسيمنعون عودة ظهور تنظيمي الدولة الإسلامية و القاعدة.

وانضم آلاف الأجانب من المسلمين السنة من دول، مثل الصين وألبانيا وروسيا وباكستان، إلى المعارضة السورية في بداية الحرب الأهلية لقتال القوات المناصرة للأسد والفصائل الشيعية المدعومة من إيران والتي كانت تسانده مما أضفى على الصراع طابعا طائفيا.

ويشير تقييمان من دول غربية إلى أن الرئيس السوري أحمد الشرع يعتمد بعد حل الجيش السوري على قوة صغيرة نسبيا من نحو 20 ألف مقاتل من عدة فصائل متباينة ومن بينهم أجانب.

وقال دبلوماسيون ومحللون إن هذا يجعله يعتمد على عشرات الآلاف من المقاتلين من فصائل أخرى، بعضها متشدد للغاية، مطلوب منه محاربتها. وفي المقابل يلوح في الأفق خطر جديد يتمثل في خفض عدد القوات الأميركية المنتشرة في شمال شرق سوريا، من نحو ألفي جندي إلى نصف هذا العدد.

ومع أن مهمة هذه القوات تركز على منع عودة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ، إلا أن انسحابها الجزئي قد يترك فراغا أمنيا تسعى جهات متعددة إلى استغلاله، سواء كانت تنظيمات متشددة أو أطراف إقليمية لها مصالح متقاطعة في الملف السوري.

ومن خلف كل هذه الوقائع، يبرز عامل غياب الثقة حيث لا يثق السكان المحليون بقدرة الدولة الجديدة على ضبط الأمن، ولا في نوايا المقاتلين الأجانب، ولا في التزامات التحالفات الدولية. كما أن دولًا غربية، تراقب الوضع عن كثب، ترى أن بقاء الحكومة الجديدة هش وغير شامل، ما قد يؤدي إلى دوامة من الفوضى والانقسام.

ويشير مراقبون إلى أن تدريبات السلاح في القامشلي ليست فقط مسألة أمن محلي، بل مؤشر على تحول تدريجي نحو لامركزية فرضها الواقع الأمني، وليست نتيجة لرؤية سياسية ناضجة.

◙ تدريبات السلاح في القامشلي ليست فقط مسألة أمن محلي، بل مؤشر على تحول تدريجي نحو لامركزية فرضها الواقع الأمني

ويقف شمال شرق سوريا على مفترق طرق: إما أن يتحول إلى نموذج للحوكمة المحلية والاستقرار في مرحلة ما بعد الحرب، أو أن يعود إلى واجهة الصراع الطائفي والمناطقي، مدفوعًا بتشابك التحالفات الهشة، وتنافس الفصائل، وتردد القوى الدولية.

وفي ظل هذا المشهد المتوتر، تبدو المجتمعات المحلية مضطرة إلى أن تتحمّل عبء أمنها بنفسها، في غياب مؤسسات موثوقة تُوحّد السلاح وتفرض القانون.

وتُلقي هذه الحقيقة بظلال ثقيلة على مستقبل سوريا ككل، وتفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول ما إذا كانت البلاد قادرة على النهوض من ركام الحرب، أم أنها تدخل ببساطة فصلًا جديدا من الفوضى المُنظمة.

وتقع مدينة القامشلي في شمال شرق سوريا، وهي إحدى أبرز المدن ذات الأغلبية الكردية، وتشكّل مركزًا مهمًا للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي أعلنتها قوات سوريا الديمقراطية بعد سنوات من الحرب.

ولطالما كانت القامشلي بؤرة للتوترات بين المكونات الكردية والعربية والسريانية، كما شهدت تداخلاً معقدًا بين نفوذ الإدارة الذاتية والنظام السوري الذي لا يزال يحتفظ بمواقع أمنية ومراكز حكومية داخل المدينة.

ورغم توقيع قوات سوريا الديمقراطية اتفاقا يقضي بـ“دمج” كافة المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية الكردية في إطار الدولة السورية، إلا أن ذلك لم يحجب المخاوف. ولا يزال تنزيل الاتفاق على الأٍرض غامضا.

6