مؤتمر حزب العدالة والتنمية المغربي: أزمة تجديد أم مقدمات انقسام

ما بين الرغبة في الحفاظ على الاستمرارية والحاجة المتزايدة إلى التغيير، يدخل حزب العدالة والتنمية المغربي مؤتمره التاسع وسط حالة من التوتر التنظيمي والانقسام.
الرباط - في أجواء سياسية مشحونة ومليئة بالتساؤلات حول المستقبل، يقترب حزب العدالة والتنمية المغربي من عقد مؤتمره الوطني التاسع، يومي 26 و27 أبريل الجاري، وسط تصاعد نقاش داخلي يضع الحزب أمام مفترق طرق حقيقي: هل هو مقبل على تجديد فعلي لقيادته ورؤيته، أم أن المؤتمر سيكون بداية تصدع أعمق داخل هياكله التنظيمية؟
ومنذ انتخابات 8 سبتمبر 2021، التي شكلت ضربة موجعة للحزب بخسارته موقعه القيادي وتراجعه إلى المرتبة الثامنة، يعيش العدالة والتنمية حالة من القلق الداخلي والبحث المضني عن توازن جديد. وجاء استدعاء عبدالإله بنكيران لقيادة الحزب في مؤتمر استثنائي بعد الانتخابات، كرد فعل من القواعد التنظيمية التي رأت في زعيم المرحلة السابقة ملاذًا رمزيًا لإعادة بناء الثقة. غير أن هذه العودة، رغم ما حملته من استقرار ظرفي، بدأت تكشف عن خطوط صدع داخلية تعمّقت مع اقتراب المؤتمر المقبل.
ولا يدور النقاش داخل الحزب فقط حول من يقود، بل حول أي مشروع سياسي ينبغي أن يسود. فهناك تيار، لا يخفي دعمه لبنكيران، يعتقد أن المرحلة الحالية تتطلب “عودة الزعيم” من أجل ضمان استمرارية الهوية الحزبية وتجاوز تداعيات النكسة الانتخابية. ويعتبر هذا التيار أن بنكيران ليس مجرد قائد سياسي، بل مكوّن أساسي في الذاكرة الجماعية للحزب، وضامن رمزي لوحدته.
لكن في الجهة المقابلة تظهر أصوات متزايدة تُنادي بالتجديد، وترى في استمرار الزعامة نفسها عائقًا أمام تحول الحزب إلى مؤسسة سياسية حديثة، قادرة على استيعاب التغيرات الجيلية والفكرية والتنظيمية.
ولا يعارض هذا التيار بنكيران كشخص، بل كرمز لاستمرار نمط من القيادة يُنظر إليه على أنه استهلك لحظته التاريخية، وباتت استمراريته تهدد بتجميد ديناميكية الحزب. ويقول القيادي في الحزب عبدالعزيز أفتاتي إن “النقاش الدائر حول بقاء بنكيران هو نقاش خاطئ من الأساس، لأن جوهر المسألة يرتبط بمسار الإصلاح الديمقراطي في البلاد، وليس بالأشخاص.”
ويؤكد أفتاتي أن “مستقبل الحزب لا يمكن ربطه برجل واحد، مهما كانت رمزيته، وأن الرهان يجب أن يكون على جيل جديد من القيادات، قادر على حمل المشروع السياسي للحزب إلى آفاق جديدة.” ويرى محللون أن المؤتمر المقبل لا يبدو مجرد لحظة انتخابية، بل ساحة اختبار حقيقية لتماسك الحزب وقدرته على إدارة التعدد الداخلي دون أن ينزلق نحو الانشقاق.
وتمر آلية اختيار الأمين العام عبر مرحلتين: ترشيح من المجلس الوطني ثم تصويت المؤتمر العام، قد تكون ديمقراطية من حيث الشكل، لكنها تحمل في طياتها رهانات سياسية وتنظيمية عميقة، لاسيما إذا فُهمت كمعركة صامتة بين تيارين مختلفين في الرؤية والطموح. وما يثير القلق داخل بعض أوساط الحزب هو أن هذه التباينات لم تعد تدار بمنطق التنوع، بل بدأت تتحول إلى اصطفافات واضحة: تيار يلتف حول فكرة الزعامة التاريخية كصمام أمان، وآخر يدعو صراحة إلى القطع مع منطق الزعامة الفردية.
وتعمقت هذه الفجوة مع غياب عدد من القيادات التقليدية عن الواجهة، مثل مصطفى الرميد وسعدالدين العثماني، في ما يعتبره البعض ابتعادا عن توازنات لم تعد تعكس روح التعدد والتداول داخل الحزب. وفي ظل هذا الواقع يبرز دور الشباب داخل العدالة والتنمية كعنصر حاسم في تحديد ملامح المرحلة المقبلة.
وبدأت شريحة واسعة من المناضلين الشباب تعبر عن نفاد صبرها تجاه القيادات التاريخية، وتطالب بالمزيد من الانفتاح والجرأة في منح الفرص لجيل جديد، أكثر قدرة على التفاعل مع المتغيرات المجتمعية والسياسية. غير أن هذا الطموح يصطدم بثقافة تنظيمية ما زالت مترددة في منح الثقة الكاملة لوجوه جديدة وتفضل التريث خلف الزعامات التي صنعت تجربة الحزب الأولى.
ووسط هذا الجدل الداخلي لا يغيب العامل السياسي الخارجي. فالحزب، رغم موقعه في المعارضة، لا يزال يراهن على لعب دور فاعل في الحياة السياسية، وقد أظهر منذ خروجه من الحكومة حرصًا على تقديم معارضة نقدية مسؤولة، تتفاعل مع قضايا المواطنين وتنتقد السياسات العمومية بجرأة. غير أن فاعلية هذا الدور تظل مشروطة بوحدة الصف الداخلي.ويجعل ذلك من المؤتمر المقبل لحظة حاسمة لتحديد ما إذا كان الحزب قادرا على تحويل أزمته إلى فرصة تجديد، أم أنه يسير نحو انقسام بطيء قد يفقده موقعه في الخارطة السياسية المغربية.
ولا يكشف الجدل الدائر داخل العدالة والتنمية فقط عن تباين في وجهات النظر حول من يقود الحزب، بل يعكس عمق أزمة بنيوية تتعلق بطريقة فهم السلطة وتعاقب الأجيال ومستقبل المشروع السياسي ذاته. وبين من يتمسكون بعبدالإله بنكيران كزعيم ورافعة رمزية في مرحلة دقيقة، وبين من يرون في استمراره عائقا أمام الانتقال الديمقراطي الداخلي وتجديد الدماء، يتشكل صراع غير معلن، لكنه مرشح لأن يطفو على السطح عند التصويت.
وفي 8 سبتمبر 2021 تلقى الحزب واحدة من أقسى الهزائم في تاريخه السياسي، حين انهار تمثيله البرلماني من 125 مقعدا إلى 13 فقط، ليتراجع من المرتبة الأولى إلى الثامنة، في مفاجأة صادمة هزّت قواعد الحزب وخلقت حالة من الذهول داخل المشهد السياسي المغربي. ولم تكن هذه الخسارة فقط رقمية، بل رمزية أيضا، إذ أنهت عقدًا من تصدر الحزب للمشهد، سواء من خلال قيادته للحكومة بين 2011 و2021، أو من خلال موقعه كأكبر قوة تنظيمية ذات مرجعية إسلامية في البلاد.
وتعددت القراءات حول أسباب هذه الهزيمة، لكن أبرز العوامل التي يجمع عليها المحللون تتعلق بالتراكمات السياسية خلال فترة التسيير الحكومي، إذ تعرض الحزب لانتقادات واسعة بسبب قرارات اعتُبرت غير شعبية، مثل تمرير قانون “فرنسة التعليم”، وتدبيره لملفات اجتماعية حساسة كإصلاح صندوق المقاصة والتوظيف بالتعاقد. كما ساهمت الأزمة الداخلية التي شهدها الحزب، بعد إعفاء بنكيران من تشكيل الحكومة في 2017 وتعيين سعدالدين العثماني بدلاً منه، في خلق تصدعات داخلية وإحباط واسع في القواعد التنظيمية.
ويرى البعض أن الخسارة جاءت أيضًا بفعل “تصويت عقابي” من الناخبين، الذين حملوا الحزب مسؤولية مباشرة عن تداعيات عشر سنوات من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي لم تفِ بوعودها، في ظل تراجع مستويات الثقة العامة بالمؤسسات.
ومثلت هذه النكسة الانتخابية نقطة تحول عميقة داخل العدالة والتنمية، دفعت قيادته إلى تقديم استقالة جماعية، وخلقت ديناميكية غير مسبوقة من المراجعة الذاتية، لكنها في الآن ذاته فجّرت أسئلة مؤجلة عن الزعامة والهوية وجدوى الاستمرار بنفس الأدوات والرؤى التي حكمت المرحلة السابقة.