يوم عادي في بيروت وباص مار يتحولان إلى حرب أهلية قبل نصف قرن

لبنان لا يزال يعيش في ظلال الحرب: المصالحة لم تكن شاملة والذاكرة الجمعية لا تزال منقسمة.
الثلاثاء 2025/04/15
جراح لم تندمل بعد

لم تكن شرارة الحرب الأهلية عام 1975 في لبنان حادثا معزولا، بل تتويجا لانهيار بطيء واحتقان متراكم. ولم تكن مجرد نزاع مسلح بل لحظة سقوط جماعي في فراغ وطني لا يزال صداه يتردد حتى اليوم.

بيروت - في صباح بدا عاديا في بيروت، تزامنت مشاهد متناقضة ترسم ملامح بلد يقف على حافة التحوّل. ففي إحدى زوايا العاصمة، افتُتحت كنيسة جديدة بحضور زعيم حزب الكتائب، فيما كانت الفصائل الفلسطينية تنظم عرضا عسكريا في موقع آخر، غير أن التوترات السياسية والطائفية التي كانت تتراكم في الخلفية سرعان ما انفجرت على السطح.

وفي اليوم نفسه، اندلعت اشتباكات بين حزب الكتائب والفصائل الفلسطينية، ما شكل الشرارة الأولى لحرب أهلية دامت خمسة عشر عاما، غيّرت وجه لبنان إلى الأبد.

وأودت الحرب بحياة ما يقارب 150 ألف شخص، وخلّفت وراءها نحو 17 ألف مفقود، وسط فوضى القنص والخطف والسيارات المفخخة، واستدعاء مباشر لتدخلات إقليمية ودولية.

وتقول الكاتبة آبي سويل في تقرير على أسوشيتد برس إن بعد نصف قرن على ذلك اليوم المشؤوم، لا يزال لبنان يعيش في ظلال الحرب. فالمصالحة لم تكن شاملة، والذاكرة الجمعية لا تزال منقسمة، بينما تنوء الدولة تحت أعباء سياسية واقتصادية مزمنة.

وفي محاولة رمزية للاستذكار، أحيت الحكومة اللبنانية الذكرى السنوية للحرب بدقيقة صمت يوم الأحد، كأنها تهمس بما لم يُقل، في وطن لم تلتئم جراحه بعد.

المجزرة

بعد نصف قرن، يبقى الباص شهادة على كيف يمكن لحادث واحد، في بلد مفكك الهويات والانتماءات، أن يشعل سنوات من الدمار
بعد نصف قرن، يبقى الباص شهادة على كيف يمكن لحادث واحد، في بلد مفكك الهويات والانتماءات، أن يشعل سنوات من الدمار

في زمن كانت فيه التوترات السياسية والطائفية في لبنان تمضي نحو نقطة الغليان، شكّل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي عاملا مفجّرا جديدا داخل الساحة اللبنانية الهشة.

ومع تصاعد هجمات الفصائل الفلسطينية على إسرائيل انطلاقا من جنوب لبنان، انقسم الشارع اللبناني: بين داعم للقضية الفلسطينية من صفوف المسلمين والقوى اليسارية، وبين من رأى في المسلحين الفلسطينيين تهديدا مباشرا للسيادة والاستقرار، خصوصا في أوساط الأحزاب المسيحية كحزب الكتائب. وفي هذا المناخ المشحون، كان محمد عثمان، لاجئ فلسطيني يبلغ من العمر 16 عاما، يعيش في مخيم تل الزعتر شرق بيروت.

وصباح الثالث عشر من أبريل، استقل مع زملائه حافلة انطلقت من المخيم، ضمن ثلاث حافلات شاركت في عرض عسكري نظمه ائتلاف فصائل فلسطينية متشددة، من خارج منظمة التحرير الفلسطينية.

وعبر الموكب بهدوء حي عين الرمانة المسيحي، حيث كانت الأجواء متوترة بعد مناوشات وقعت في وقت سابق بين فلسطينيين وحراس كنيسة، أسفرت عن مقتل أحد الحراس الشخصيين لزعيم حزب الكتائب، بيار الجميل.

وفي طريق العودة، قرر بعض المشاركين الانسحاب مبكرا، فاستقلوا حافلة صغيرة. ثلاث وثلاثون راكبا، بينهم أطفال، كانوا على متنها. لكنهم لم يعلموا أن الطريق بات محكوما بمنطق الدم.

ويروي عثمان أن الحافلة أُوقفت فجأة، وبدأ إطلاق النار “من جميع الجهات”، كما قال. ولم يمهل الرصاص الركاب وقتا، رغم أن بعضهم كان يحمل سلاحا من العرض العسكري.

وقُتل الطفل ذو التسع سنوات، وابن الجيران الذي سقط فوق عثمان، الذي أصيب في كتفه. ويتذكر عثمان “لم يتوقف إطلاق النار لمدة 45 دقيقة تقريبا، حتى ظنوا أن الجميع قد ماتوا”، مشيرا إلى أن المسعفين الذين وصلوا لاحقا واجهوا إطلاق نار أيضا في محاولتهم إنقاذ من تبقى.

وكانت مذبحة عين الرمانة، التي أودت بحياة 22 شخصا نقطة اللاعودة. وفي أعقابها، اندلعت اشتباكات عنيفة عمّت أنحاء لبنان، إيذانا ببداية الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاما، وحوّلت بيروت من عاصمة للثقافة والانفتاح إلى ساحة للصراع الطائفي والعنف المسلح.

واليوم، وبعد مرور نصف قرن، تبقى تلك الحافلة رمزا لبداية الانهيار، وشهادة على كيف يمكن لحادث واحد، في بلد مفكك الهويات والانتماءات، أن يشعل سنوات من الدمار.

روايات متضاربة

حح

بعد خمسة عقود على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، لا يزال الجدل قائما حول ما حدث في حي عين الرمانة يوم الثالث عشر من أبريل 1975، وما إذا كانت تلك الشرارة نتيجة استفزاز مخطط أو انفجار تلقائي في زمن هش. وبينما تختلف الروايات، تبقى النتيجة واحدة: بداية حرب مدمرة ما زال لبنان يرزح تحت آثارها.

وفي سرديات اللبنانيين، تتنازع الحدث روايتان مركزيتان: الأولى تقول إن الهجوم على الحافلة الفلسطينية جاء ردا على محاولة اغتيال زعيم حزب الكتائب بيار الجميل، على يد مسلحين فلسطينيين. الثانية، تتبناها أطراف أخرى، تعتبر أن الكتائب خطّطت لكمين مسبق بهدف جرّ البلاد إلى صراع أوسع.

لكن الصحافي اللبناني – الفرنسي مروان شاهين، الذي خصّص سنوات للبحث في تفاصيل ذلك اليوم وألّف كتابا عنه، يرى أن كلا الروايتين تفتقران للدقة.

وبحسب شاهين، لا يوجد دليل على أن الجميل كان مستهدفا، فقد غادر الكنيسة قبل الحادث، بينما بدا إطلاق النار على الحافلة أقرب إلى ردّ فعل متهور من مجموعة شبان، لا جزءا من خطة محكمة. ويقول شاهين “ما جعل هذه الحادثة تأخذ هذا الحجم ليس الحدث نفسه فقط، بل تراكم التوترات السابقة وغياب الدولة.”

الحرب أودت بحياة ما يقارب 150 ألف شخص، وخلّفت وراءها نحو 17 ألف مفقود، وسط فوضى القنص والخطف والسيارات المفخخة

وفي ذلك الوقت، كانت سلطة الدولة قد انهارت فعليا، والجيش اللبناني قد تخلى عن دوره لصالح الميليشيات، في بلد تتصارع فيه قوى محلية وخارجية، ويسيطر عليه منطق السلاح.

ومنذ إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن عام 1970، ازداد تمركز الفصائل الفلسطينية في لبنان، وتحوّلت المخيمات إلى قواعد عسكرية بحكم الأمر الواقع.

وفي المقابل، تسارعت وتيرة تسليح الجماعات المسيحية، وعلى رأسها حزب الكتائب، الذي رأى في الوجود الفلسطيني تهديدا وجوديا. ويشير شاهين “كنا نعيش في ظل دولتين داخل دولة واحدة… وكل طرف يفرض قانونه بقوة السلاح، دون احترام لأي إطار شرعي مشترك.”

ويرى سليم الصايغ، النائب الحالي عن حزب الكتائب، وكان في الرابعة عشرة من عمره ويقيم في عين الرمانة آنذاك، أن الحرب كانت حتمية منذ أن فشل الجيش اللبناني قبل عامين في فرض سيطرته على المخيمات الفلسطينية. ويروي أن رجال الحاجز الذين أوقفوا الحافلة في يوم الحادث، اعتقدوا أنها “الموجة الثانية من العملية” بعد مقتل حارس الجميل.

ومنذ ذلك اليوم، تسارعت دوّامة الحرب: تحالفات انقلبت، فصائل جديدة تشكّلت، واحتلت إسرائيل وسوريا أجزاء من البلاد، فيما تدخلت الولايات المتحدة وانفجرت سيارات مفخخة أمام سفارتها وثكنات قواتها. وانقسمت بيروت إلى شطرين، مسيحي وإسلامي، وبرزت جماعة مسلحة جديدة في الجنوب، ستغير موازين القوى لاحقا: حزب الله.

وتأسّس حزب الله في أوائل الثمانينات بدعم إيراني كرد فعل على الاجتياح الإسرائيلي، وتحوّل خلال العقود التالية إلى أقوى فاعل غير حكومي في المنطقة، مع احتفاظه بسلاحه بعد اتفاق الطائف، بذريعة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. لكن، بعد الحرب المدمّرة مع إسرائيل العام الماضي، وارتفاع كلفة هذا السلاح على الداخل اللبناني، تصاعدت الدعوات إلى نزع سلاح الحزب، في بلد يعاني من أسوأ أزماته السياسية والاقتصادية.

وفيما لا تزال الأسئلة حول عين الرمانة دون أجوبة قاطعة، تبقى الحقيقة الأوضح أن لبنان، المنقسم على تاريخه، لم يخرج بعد من ظلال ماضيه، وأن “حرب الآخرين على أرضه” لا تزال مستمرة بأشكال جديدة.

الناجون

حح

حين استقل محمد عثمان الحافلة صباح الثالث عشر من أبريل 1975، لم يكن يعلم أن تلك الرحلة القصيرة ستُخلّد في ذاكرة وطن لعقود.

ونجا عثمان من المجزرة التي فتحت أبواب الجحيم في لبنان، لكنه لم ينجُ من الأسئلة التي ظلّت تلاحقه، ولا من الفراغ الذي قاده لاحقا إلى حمل السلاح ثم إلى تركه، بعدما اكتشف عبثية الحرب ومآلاتها. وفي شهادة مؤلمة، أوضح عثمان أن التحاقه بصفوف المقاتلين لم يكن خيارا بطوليا، بل نتيجة طبيعية لانعدام البدائل.

ولم تعد المدارس متاحة، ولم تعد الحياة اليومية في المخيم ممكنة. وعندما وضعت اتفاقية الطائف في 1989 حدا للحرب الأهلية، شعر بالارتباك أكثر من الارتياح.

ويضيف “كل هذه الحرب والقصف، وفي النهاية يعقدون بعض الصفقات وينتهي كل شيء؟”، قالها بصوت لا يزال يحمل ثقل خيبة عمره.

ومن بين أحد عشر ناجيا من هجوم الحافلة، وحده عثمان احتفظ بالذكرى كاملة. فقد قُتل ثلاثة من الناجين بعد عام في مجزرة تل الزعتر، ومات آخر في تفجير استهدف السفارة العراقية عام 1981.

وأما البقية فتفرّقوا بين الشتات والموت، باستثناء واحد يقيم حاليا في ألمانيا، ومصير البعض لا يزال مجهولا. لكن المفارقة أن الحافلة، التي كانت يوما ساحة لمذبحة، نجَت.

وظلت لعقود في مخزن بريف لبنان، قبل أن تُنقل هذا العام إلى متحف نابو الخاص في بلدة الهري شمال بيروت، حيث أصبحت قطعة تاريخية شاهدة على لحظة انفجار الكيان اللبناني من الداخل.

وتحوّلت الحافلة إلى رمز ثقيل المعنى، وآثار الرصاص لا تزال محفورة في هيكلها الصدئ، وأمام عدسات الزوّار، تُصبح الشاهد الصامت على ماض لم يطوَ تماما.

وتقول غيدا مرجي فقيه، المتحدثة باسم المتحف، إن الحافلة ستُعرض بشكل دائم “كجرس إنذار”، تذكيرا بأن طريق الحرب لا يقود سوى إلى الخراب، مهما كانت المبررات.

وتضيف “هذه الحافلة غيّرت مسار لبنان. لحظة واحدة، قرار واحد، سلوك جماعي غير محسوب، قاد البلد إلى سنوات من العنف لم يكن أحد يودّ بلوغها، لكننا بلغناها.”

وفي النهاية، لا تختزل الحافلة قصة الحرب وحدها، بل أيضا قصة الجيل الذي أُجبر على أن يكبر بسرعة، ويقاتل بلا أفق، ويعيش مع الندم كأسلوب حياة. فحافلة عين الرمانة لم تتوقف في محطتها الأخيرة بل اختُزل فيها وطن بأكمله، لا يزال يحاول إعادة تعريف وجهته.

7