شهادات عليا دون قيمة علمية تغزو العراق وتظلم الخريجين

تعتبر مشكلة الشهادات العليا الصادرة عن جامعات أجنبية مشكلة متعددة الأوجه في العراق إذ يعاني العديد من حملة شهادات الماجستير والدكتوراه من عدم قدرتهم على الاستفادة منها مع عدم اعتراف الدولة بها، في حين يحصل عليها الكثيرون خصوصا الساسة من باب الوجاهة الاجتماعية والسياسية دون استحقاق.
بغداد - انتشرت في العراق ظاهرة الحصول على الشهادات العليا من بعض البلدان، أبرزها لبنان وتركيا وإيران، فضلا عن أوكرانيا وروسيا والهند، مقابل مبالغ تعتبر منخفضة بعد تعثر الطلاب في الحصول عليها داخل العراق نتيجة لمعدلاتهم الضعيفة، غير أنهم يواجهون عقبة كبرى تتمثل في عدم الاعتراف بها في البلاد.
وعلى الرغم من دخول الجامعات العراقية في التصنيفات الدولية، إلا أن الدراسة في الخارج قائمة وتنتشر بشكل كبير جدا، إلى درجة أنها باتت عبئا على الدولة، بعد أن فقدت هدفها العلمي وأصبحت لأجل التعيين أو زيادة الراتب بالنسبة للموظفين.
وينتقد أكاديميون فتح قنوات الدراسات الخاصة الرسمية بالمال، دون الأخذ بنظر الاعتبار معدّل الطالب، وذلك إلى جانب سهولة الحصول على هذه الشهادات من خارج البلد، لاسيما وأن بعض الحاصلين عليها مستواهم العلمي والثقافي متدن جدا.
وتبرز في هذا السياق مشكلة الشهادات الصادرة عن جامعات أهلية خارجية في دول مثل لبنان، تركيا وإيران، والتي لا تحظى باعتراف رسمي من قبل الحكومة العراقية.ويعود تزايد الإقبال على الدراسات العليا في الخارج إلى أسباب متعددة، أبرزها غياب الرصانة العلمية والضوابط الأكاديمية في بعض الجامعات الأجنبية، التي تركز على تحقيق الأرباح عبر استقطاب الطلاب مقابل رسوم دراسية دون مراعاة معايير الجودة.
وقال المتحدث باسم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي حيدر العبودي إن الشهادات العليا الصادرة من الخارج تخضع لسياقات محددة، حيث يجب على الطالب الدراسة في الجامعات المعترف بها ضمن الدليل السنوي لدائرة البعثات الصادر عن الوزارة.
وأوضح العبودي أن “الطلبة الراغبين بالدراسة على نفقتهم الخاصة ملزمون باختيار جامعات مدرجة في دليل الوزارة لضمان معادلة وتصديق شهاداتهم عند عودتهم.”
وأضاف في تصريح لوكالة شفق نيوز المحلية أن “الموظف الذي يحصل على شهادة من إحدى جامعات الابتعاث المعتمدة يتم الاعتراف بشهادته ومعادلتها أصوليا وفق قرار مجلس الوزراء، أما الطالب غير الموظف الذي يدرس في جامعة غير مدرجة في دليل الوزارة، فلن يتم الاعتراف بشهادته.”
وأشارت دائرة البحوث والدراسات الإدارية في مجلس الخدمة في العام 2022 إلى أن عدد الخريجين الذين تمت مقاطعتهم وظيفيا بلغ 101.519، منهم 33.861 فقط تم السماح لهم بالتقديم للحصول على درجة دبلوم عال، ماجستير، ودكتوراه، بينما تم استبعاد 45.690 شهادة من الاعتراف الرسمي.
وبحسب القانون الخاص في أُسس معادلة الشهادات، الذي صدر في العام 2020، تم احتساب جميع الشهادات السابقة لتاريخ إقراره، كما ألزم وزارة التعليم العالي بإتمام معادلة الشهادات خلال 45 يوما من تاريخ تقديم الوثائق المطلوبة، لضمان حقوق الطلبة وسرعة الإجراءات.
ومع مواجهة الطلاب للكثير من العقبات بسبب عدم الاعتراف بشهاداتهم، يعمل مجلس النواب العراقي على إدخال تعديلات جديدة على قانون الشهادات العليا والدراسة خارج العراق.
وخضعت التعديلات للقراءة الأولى والثانية، وهي جاهزة للتصويت فور اكتمال النصاب القانوني، وتتضمن تعديل مدة الإقامة للطلاب، بحيث تكون 6 أشهر غير متصلة لمرحلة الدكتوراه البحثية، و9 أشهر لمرحلة الماجستير مع إمكانية استثمار شهرين للاستراحة.
وأفادت عضو لجنة التعليم النيابية نهلة قادر بأن التعديلات تضمن فرض مدة فاصلة قدرها سنتان بين الحصول على شهادة الماجستير والبدء بدراسة الدكتوراه، فضلا عن اشتراط الرصانة العلمية في الجامعات التي يرغب الطالب بالدراسة فيها.
قائمة الجامعات المعترف بها التي تصدرها وزارة التعليم العالي تتعرض للتغيير المستمر ويتم سحب الاعتراف ببعضها
لكن هذه التعديلات المقترحة غير كافية لحل المشكلة، إذ لا يزال الآلاف من الخريجين يواجهون معضلة الشهادات غير المعترف بها، ويعاني العديد من حملة الماجستير والدكتوراه من عدم قدرتهم على الاستفادة من شهاداتهم.
ويشتكي الكثيرون من حملة الدكتوراه من أنهم لم يستطيعوا معادلتها وبقيت شهاداتهم معلقة على الجدران بعد أن فقدت قيمتها بسبب عدم الاعتراف بها من وزارة التعليم العالي.
وأكد عبدالباقي ستار، وهو في العقد الرابع من العمر وحاصل على الدكتوراه من جامعة إيرانية، أن “هناك 100 ألف شهادة جامعية صادرة من إيران، إلا أن الجهات الرسمية تشير إلى أن 85 ألف شهادة منها تم بيعها من قبل الجامعة.”
وأضاف ستار في حديثه للوكالة أنه “لا توجد أدلة قاطعة على عمليات البيع والشراء، لكن من الضروري أن تتواصل الجهات العلمية العراقية مع الجامعات الأجنبية للتحقق من الإجراءات الأكاديمية للطلبة.”
وتشير بعض شهادات طلبة الدراسات العليا إلى أن قائمة الجامعات المعترف بها، التي تصدرها وزارة التعليم العالي تتعرض للتغيير المستمر، حيث يتم إلغاء الاعتراف ببعض الجامعات بعد عام أو عامين، وهو ما يترك الطلبة في حالة قلق دائم حول مصير شهاداتهم.
ووفق قانون الوزارة، يبقى الاعتراف بالشهادة ساريا حتى لو تم إلغاء اعتماد الجامعة لاحقا، لكن إجراءات التصديق معقدة جدا، ولا تشمل جميع الشهادات.
في المقابل، أربك الفساد الإداري لبعض الجامعات الأجنبية المشهد الأكاديمي، حيث تحولت بعض الجامعات إلى مراكز لمنح الشهادات دون أسس علمية واضحة.
وأكد الأستاذ الجامعي منعم حسن الأعسم أن “الدراسة في الجامعات الأجنبية كانت تمثل طموحا للطلبة الباحثين عن التخصص العلمي والرصانة، لكنها لم تعد كذلك بسبب انتشار الجامعات الأهلية التي تمنح شهادات دون تدقيق علمي.”
وأضاف الأعسم أن “أحد معارفي حصل على شهادة دكتوراه دون أن يسبقها حصوله على الماجستير، وهذه مشكلة تتفاقم في الجامعات الأهلية الأجنبية”، موضحا أن “بعض الجامعات لا تطالب بوثائق التحصيل العلمي السابق، مما يجعل العملية مجرد تجارة، وفي المقابل، هناك جامعات أجنبية تحافظ على معايير علمية صارمة، حيث تمنح الشهادة بعد بحوث دقيقة ومناقشات علمية معمقة.”
ومن جهة أخرى، يتسابق ساسة ومسؤولون في الأحزاب النافذة في البلاد، للحصول على الألقاب العلمية وتحديدا “الدكتوراه”، باعتبارها إضافة للوجاهة الاجتماعية والسياسية وفق اعتقادهم.
ولأن الحصول على الشهادات العليا في العراق صعب وبحاجة إلى إجراءات روتينية ومؤهلات علمية وتفوّق في معدل الدرجات مع تنافس حاد بين الطلبة، وجد هؤلاء الساسة سهولة في الحصول على لقب الدكتوراه في جامعات لبنان وإيران وروسيا وقبرص والهند.
وخلال الأعوام الماضية، حصل عدد من الساسة على ألقاب علمية من جامعات مختلفة، وسط شكوك بشأن الفترات الدراسية التي قضوها هناك، ولاسيما أنهم كانوا غائبين عن الجامعات، بل إنهم قبل إعلان حصولهم على الشهادات مارسوا أعمالهم ونشاطاتهم في بغداد ومناطقهم الأصلية.
وكشف مسؤول في وزارة التعليم العالي عن حصول ما لا يقل عن 500 سياسي ومسؤول حكومي وحتى على مستوى قضاة ومستشارين وبعض مشاهير الإعلام المحلي من مقدمي برامج الحوارات السياسية اليومية، خلال السنوات الأربع الأخيرة على شهادات الدكتوراه، غالبيتها كانت من بيروت وطهران.
وبيّن أن جزءا كبيرا من هؤلاء ناقشوا أطروحات الدكتوراه وحتى الماجستير عن بعد، ولم يذهبوا إلى مقر الجامعة التي منحتهم الشهادة.
وحول الحصول على شهادات الدكتوراه للسياسيين العراقيين لفت المسؤول الذي طلب عدم الإفصاح عن هويته، إلى أن “ساسة العراق انتبهوا إلى الشهادات العليا والألقاب العلمية خلال السنوات الماضية، بوصفها جزءا من الوجاهة السياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى كونها مؤهلة للحصول على المناصب المهمة في الدولة.”
تنظيم ملف الدراسات العليا في الخارج يتطلب إجراءات صارمة لضمان جودة التعليم وحماية حقوق الطلبة
وأوضح أن “الألقاب العلمية يمكن الحصول عليها من جامعات إيرانية ولبنانية من دون تعب، بمقابل مالي لا يتجاوز عشرة آلاف دولار”، مضيفا أن “خلال الأعوام الماضية تمكنت أعداد كبيرة من السياسيين من الحصول عليها، بعضهم أعلنوا عنها وبعضهم أخفاها جراء احتمال تعرّضهم لهجمة إعلامية.”
وقرّرت السلطات العراقية في عام 2021، إلغاء الاعتراف بثلاث جامعات لبنانية بسبب عدم التزامها بمعايير الرصانة العلمية، إلى جانب 27 جامعة إيرانية من قائمة الجامعات التي كان معترفا بشهاداتها، متّخذة سلسلة من القرارات الصارمة في نظام التقييم الخاص بها حول الجامعات.
وشدّد رئيس مركز عشتار العراقي المعني بدراسات الديمقراطية محمد علوية على أن “الكثير من الشخصيات الاجتماعية والسياسية البارزة اتجهت إلى إكمال دراساتها العليا في بعض الجامعات الإقليمية ذات المعايير التعليمية المتدنية والشهادات سهلة الحصول مقابل المال، لغرض نيل الألقاب العلمية الذي يكمل الوجاهة والمكانة الاجتماعية على حد اعتقادهم”، مشيرا إلى أن “هذه الظاهرة أدت إلى فقدان قيمة الشهادة العليا.”
وأضاف علوية أن ظاهرة شهادات الدكتوراه للسياسيين العراقيين “أضحت مكملة لظواهر التشوه الحاصلة في القيم والمفاهيم والعناوين المنتشرة في المجتمع العراقي، حيث الاهتمام بالصورة الخارجية وتسويقها وإهمال الفحوى والمضمون ومدى قدرته على تشكيل قيمة مضافة.”
واعتبر أن الظاهرة “انعكست على معاناة حملة الشهادات العليا الحقيقية، لكونها قد أعطت انطباعات ذهنية سيئة عن الكثير من حملة الشهادات العليا في العراق.”
ولفت خريجون إلى أن الطالب العراقي قضى سنين من المعاناة مع المناهج والحصول على المصادر لأجل كتابة الرسائل والأطروحات، وفي النهاية وجد نفسه في نفس المستوى مع آخرين حصلوا على شهاداتهم وألقابهم العلمية بسهولة، ولاسيما أن جامعات في إيران ولبنان صاحبة مكاتب مهمتها كتابة البحوث وتنفيذ احتياجات الطالب مقابل مبالغ مالية.
وتؤكد الشهادات وجود نواب وزعماء أحزاب ووزراء وحتى قضاة، حصلوا على لقب الدكتوراه بالمال وليس بالاستحقاق.
وساهمت الدراسة في الخارج، وتحديدا في الدول التي تستغل أموال الأجانب وخصوصا العراقيين لتقدم لهم الشهادات بالجملة، في التأثير سلبا على واقع التعليم في العراق، لأن حصول بعض المسؤولين على مناصب هامة في الدولة أصبح مقرونا بغياب عقلية علمية ونقدية، وكذلك فإن الآخرين الساعين لمناصب أساتذة في الجامعات العراقية، هم أيضا بلا عقلية علمية، وكل ذلك ذو تأثير على مستقبل العراق.
وتحدّث العميد السابق لكلية الإعلام في جامعة بغداد هاشم حسن عن شهادات الدكتوراه للسياسيين وأشار إلى وجود ما وصفه بـ”شراهة” من قبل “الساسة العراقيين للحصول على الامتيازات” ومحاولات للاستحواذ على كل شيء.
واعتبر أن “هذا الأمر بحكم سياسة المحاصصة المعمول بها، فكل دورة برلمانية وحكومية لها امتيازات ودرجات خاصة لنهب كل شيء”، مضيفا أن “الدراسات الأولية (الجامعية) انهارت بتوسيع التعليم الأهلي والاستثمارات فيه ومنح شهادات لخريجي الدراسة المهنية والإسلامية.”
أما بالنسبة للدراسات العليا، فقد أشار حسن إلى أنها “كانت حصرا للمتميزين، لكنها حاليا أصبحت ضمن الامتيازات السياسية، إذ إن هدف بعض السياسيين شراء الشهادات من الخارج من دون دوام أو امتحان.”
وأوضح أن “هناك إمكانية للقول إن أغلبها شهادات غير شرعية وغير مستوفية لشروطها الأكاديمية، وهي استغلال للمنصب معيب وانتحال صفة يؤدي إلى انهيار قيمة الشهادات العليا، بل فضيحة وخراب لكل ما شيدته الأجيال من رصانة وتقاليد علمية.”
ويرى خبراء التعليم أن تنظيم ملف الدراسات العليا في الخارج يتطلب إجراءات صارمة لضمان جودة التعليم وحماية حقوق الطلبة. ويكمن الحل في تعزيز التعاون الأكاديمي بين العراق والجامعات الأجنبية الرصينة، وإيجاد آليات علمية للتحقق من صحة الشهادات والبحوث، بالإضافة إلى محاربة الفساد في عمليات منح الشهادات لضمان الارتقاء بمستوى التعليم العالي.