إما عولمة تسعد الجميع أو "أميركا أولا" بعواقب وخيمة

واشنطن - استغلت حركة دونالد ترامب "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" استياء البلاد واسع النطاق من العولمة، ما يسلط الضوء على صعود القومية العرقية لدى أكبر قوة في العالم.
ومن المرجح أن تحرير التجارة بلغ ذروته في نهاية القرن العشرين مع إنشاء منظمة التجارة العالمية، التي أبقاها الغرب منفصلة عن نظام الأمم المتحدة.
ومع اتهام العولمة بالتسبب في تراجع التصنيع في الدول المتقدمة، ابتعدت حكوماتها تدريجيا عن تحرير التجارة، خاصة بعد أزمة 2008 المالية العالمية.
ولطالما انتقد جاغديش باغواتي، المدافع البارز عن التجارة الحرة، الافتقار إلى الالتزام بتحرير التجارة متعددة الأطراف.
وكان ما يسمى باتفاقيات التجارة الحرة الأخيرة ثنائيا أو متعدد الأطراف في أغلبه، وهو ما تسبب في إضعاف التعددية في حين عزز التدابير غير التجارية. كما أدى المشهد الجيوإقتصادي والجيوسياسي المتطور إلى تآكل القواعد والمعايير التي تدعم التعددية.
ويقول الباحث جومو كوامي سوندارام في تقرير نشرته خدمة إنتر برس إن ذلك زعزع الثقة بالأنظمة القائمة، مع تشجيع الانتهازية التي تخدم المصالح الذاتية وإعاقة العمل الجماعي.
وأصبح صنع السياسات أكثر صعوبة لأنه لم يعد بالإمكان الاعتماد على القواعد والمعايير المشتركة، وهو ما يضعف التعاون الدولي المستدام.
مع استخدام السياسات الاقتصادية كسلاح، يشهد العالم تخصيص موارد أقل للنمو ما يقوض آفاق التنمية المستدامة
وفاقمت السياسات والمؤسسات الاقتصادية المتحيزة وغير المناسبة هذا الوضع.
وعملت الإدارات الأميركية المتعاقبة من جانب واحد على تغيير السياسات والقواعد والاتفاقيات، ما كان سببا في تقويض الثقة بالأنظمة الاقتصادية الدولية التي تقودها الولايات المتحدة، بما في ذلك مؤسسات بريتون وودز.
وفي حين كان التضخم الأخير مدفوعا إلى حد كبير باضطرابات جانب العرض، نفذت البنوك المركزية الغربية أيضا سياسات الاقتصاد الكلي التقييدية على جانب الطلب برفع أسعار الفائدة وتبني تدابير التقشف المالي.
وكانت زيادات أسعار الفائدة التي اتخذها البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ابتداءً من أوائل 2022 غير ضرورية أو غير حكيمة.
ولا تحل زيادة أسعار الفائدة للحد من الاستهلاك والطلب على الاستثمار القضايا المتعلقة بالعرض.
وفي أعقاب “التيسير الكمي” السابق الذي شجع على الاقتراض المفرط، خلفت أسعار الفائدة المرتفعة في الاقتصادات الغربية تأثيرا انكماشيا ورجعيا.
ونتيجة لذلك يمكن أن يُعزى قدر كبير من الركود الاقتصادي العالمي الحالي إلى هذه السياسات الغربية.
وأدركت البلدان النامية منذ فترة طويلة أن الأنظمة الاقتصادية الدولية تتحرك ضدها.
الغرب فرض بشكل متزايد عقوبات اقتصادية تعتبر غير قانونية دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة
ومع تضاؤل الأمل في الإصلاح الشامل، استسلمت أغلب الحكومات للعمل ضمن خيارات محدودة لسياسة الاقتصاد الكلي. لكن السلطات الوطنية أصبحت على استعداد متزايد لاعتماد تدابير غير تقليدية.
وعلى سبيل المثال استخدمت الكثير من البنوك المركزية المحافظة “التمويل النقدي” أثناء وباء كورونا، مع إقراض سندات الخزانة الحكومية بشكل مباشر دون وسطاء السوق.
وقاومت البنوك المركزية في اليابان والصين وأجزاء من جنوب شرق آسيا مؤخرا رفع أسعار الفائدة بالتنسيق مع الغرب. وتبنت بدلا من ذلك أساليب سياسية جديدة لمواجهة الضغوط الاقتصادية العالمية.
وعلى الرغم من ذلك حث العديد من الاقتصاديين البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم باستمرار على رفع أسعار الفائدة حتى منتصف 2024.
وفي الوقت نفسه تستمر الدعوات إلى التقشف المالي بما يزيد الصعوبات التي يواجهها المليارات من الأشخاص في العالم.
ووعدت الدول المتقدمة البلدان النامية بتحسين الوصول إلى الأسواق وفرص التصدير من أجل كسب الدعم للإصلاحات النيوليبرالية التي انطلقت خلال أواخر القرن العشرين. لكن تحرير التجارة تراجع تدريجيا منذ إنشاء منظمة التجارة العالمية في 1995.
تحرير التجارة أدى إلى إضعاف النزعة الحمائية السابقة التي دعمت الأمن الغذائي والتصنيع في البلدان النامية
وأصبحت انعكاسات السياسات أبرز منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، مع فرض عقوبات ذات دوافع جيوسياسية واستخدام التجارة سلاحا.
ولم يكن مصطلح “العولمة النيوليبرالية” سليما، لأن العالم لم يشهد سوى القليل من التحرير الحقيقي الذي يتجاوز التدابير التجارية الانتقائية.
وعملت اتفاقيات التجارة الحرة في المقام الأول على توسيع حقوق الملكية والعقود وتعزيزها، مع تطبيق القانون الدولي وإنفاذه انتقائيا.
وأدى تحرير التجارة إلى إضعاف النزعة الحمائية السابقة التي دعمت الأمن الغذائي والتصنيع في البلدان النامية. وكانت التعريفات الجمركية أيضا مصدرا حيويا للدخل، وخاصة بالنسبة إلى الدول الأكثر فقرا.
ونادرا ما خلق تعزيز سيادة القانون أسواقا ليبرالية حقيقية. واعترف حتى الليبراليون الاقتصاديون في القرن التاسع عشر بأن النيوليبرالية الانتقائية والجزئية ستؤدي حتما إلى تركيز الثروة.
وغالبا ما تعزز حقوق الملكية الامتيازات الاحتكارية تحت مبررات مختلفة.
الوصول إلى التجارة والاستثمار والتمويل والتكنولوجيا أصبح سلاحا وأداة للنفوذ السياسي
وترى حكومات الدول المتقدمة الآن أن السيطرة على التكنولوجيا تشكّل مفتاح الهيمنة العالمية.
وشدد الاتفاق المتعلق بالجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (تريبس)، التابع لمنظمة التجارة العالمية، عملية إنفاذ الملكية الفكرية.
ومع تعزيز ربحية الملكية الفكرية أصبح حافز الشركات لمشاركة التكنولوجيا أو نقلها أقل.
وانخفض نقل التكنولوجيا إلى بلدان الجنوب العالمي منذ تفعيل اتفاق تريبس في 1995، وهو ما زاد من عرقلة تنميتها.
وفشل استثناء الصحة العامة لسنة 2001 من الاتفاق المذكور في معالجة حواجز الملكية الفكرية خلال جائحة كورونا، ما صعّب ضمان إجراء اختبارات ونشر معدات الحماية واللقاحات والعلاجات بأسعار معقولة. وبلغ هذا درجة أثارت اتهامات بـ”الميز العنصري في مجال اللقاحات”.
وفرض الغرب بشكل متزايد عقوبات اقتصادية تعتبر غير قانونية دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وفي الوقت نفسه أصبح الوصول إلى التجارة والاستثمار والتمويل والتكنولوجيا سلاحا وأداة للنفوذ السياسي.
وكان من المتوقع أن يدفع الاستثمار الأجنبي المباشر النمو في البلدان النامية. ومع ذلك، وبناء على الجهود التي بدأت في عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما لمواجهة الصين، روج الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الأولى ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي لـ”إعادة توطين الاستثمارات في الداخل،” وشجعا الشركات على الاستثمار في بلدانها الأصلية.
وفشلت الكثير من المحاولات المبكرة لإعادة توجيه الاستثمارات من الصين إلى الاقتصادات المحلية. لكن الإستراتيجيات اللاحقة، مثل إستراتيجية “دعم الأصدقاء” التي تشجع الاستثمار في الدول المتحالفة سياسيا، كانت أكثر فاعلية.
ومع تفاقم الركود الاقتصادي واستخدام الإستراتيجيات الجيوسياسية بشكل متزايد للسياسات الاقتصادية والتعاون والمؤسسات كسلاح، يشهد العالم تخصيص موارد أقل للنمو والعدالة والاستدامة. ويقوض هذا التحول في المشهد الجيوسياسي آفاق التنمية المستدامة.