أي عواقب لـ"تسليح الدولار" في النظام العالمي

كتاب "جنود من الورق: كيف غيّر تسليح الدولار النظام العالمي" يلقي الضوء على رحلة صعود الدولار كعملة عالمية.
الخميس 2025/03/06
هيمنة الدولار سلاح ذو حدين

أبوظبي - في يوليو 1944، انعقد مؤتمر "بريتون وودز"، حيث اجتمعت 44 دولة ومجموعة من صناع السياسات الاقتصادية بهدف الحد من المضاربة في العملات الدولية، وإيجاد طريقة لتعميق التكامل والتعاون الاقتصادي الدولي. وفي أعقاب المؤتمر، بدأت قوة الدولار الأميركي تتصاعد كعملة مرجعية لمعظم المعاملات العابرة للحدود بدءا من البنوك المركزية للدول، مرورا بالشركات والمؤسسات الدولية، ووصولا إلى التجارة الدولية.

وبعد انتهاء الحرب الباردة في التسعينات، استمر الدولار الأميركي في الهيمنة على أسواق العملات، كعملة احتياطية عالمية وكركيزة أساسية للنظام المالي العالمي، مما دعم مكانته في الأسواق العالمية.

ونتيجة لذلك، تمكنت الولايات المتحدة من استخدام الدولار كسلاح إستراتيجي “تسليح الدولار” من خلال العقوبات المالية ضد بعض الدول مثل روسيا بعد نشوب الحرب الأوكرانية في فبراير عام 2022، لكن بالمقابل، بدأت بعض البنوك المركزية والحكومات في العالم البحث عن عملات بديلة، حتى لا تتأثر بسياسات تسليح الدولار، وهو ما قد يترتب عليه تآكل التفوق العالمي للدولار، ومن ثم تراجع النفوذ الأميركي العالمي.

وفي تقرير نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة ناقشت صالحة محسن في كتابها “جنود من الورق: كيف غيّر تسليح الدولار النظام العالمي” الصادر في العام 2024، توظيف السياسة الأميركية للدولار كسلاح اقتصادي والعواقب المقصودة وغير المقصودة لذلك، بما فيها صعود المشاعر الشعبوية والحرب التجارية مع الصين، كما تربط بين تسليح الدولار منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر ونشر العقوبات المالية ضد روسيا، وتخلص إلى أن قوة الدولار الأميركي ونفوذه الآن أصبحا على المحك.

بحث بعض الحكومات عن عملات بديلة قد يترتب عليه تآكل التفوق العالمي للدولار، ومن ثم تراجع النفوذ الأميركي العالمي

ويلقي الكتاب الضوء على رحلة صعود الدولار كعملة عالمية منذ أول عطاء قانوني استخدمت فيه العملات الورقية للولايات المتحدة في عام 1862، مرورا بمؤتمر “بريتون وودز”، والذي نتج عنه إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وصولا إلى تكريس وضع الدولار كعملة للاحتياطيات العالمية ووحدة الحساب الأساسية في التجارة الدولية.

وما بين سبعينات وتسعينات القرن العشرين، وجهّت وزارة الخزانة الأميركية بنك الاحتياطي الفيدرالي لشراء أو بيع الدولار لتثبيت العملة بمساعدة شركاء تجاريين كانوا سيستفيدون من استقرار الدولار الأميركي مثل اتفاقية بلازا لعام 1985 والهادفة إلى خفض قيمة الدولار الأميركي، مما ترتب عليه رواج المنتجات الأميركية في الداخل والخارج. لكن مع زيادة تدفقات التجارة الدولية أدى التأثير الجانبي لإحباط نمو الدولار إلى خلق مخاطر سياسية وحالة من الركود، ومن ثم تم إيقاف سياسات خفض قيمة الدولار في 1987.

وفي هذا السياق، يشير الكتاب إلى قرار الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في التسعينات بشراء الين الياباني وبيع الدولار لضمان الاستقرار المالي العالمي، وهو ما يُعد انتهاكا للفلسفة الأميركية الخاصة بالتجارة الحرة.

وفي عام 1995، ألزم وزير الخزانة الأميركي حينها روبرت روبين إدارة كلينتون بالتوقف عن التدخل في أسواق العملات، ومن ثم السماح للدولار بالنمو بقوة قدر الإمكان، وذلك في إطار المبدأ القائل بأن “الدولار القوي يصب في مصلحة الولايات المتحدة”، بمعنى آخر أن قوة الدولار تعود بالنفع على الاقتصاد الأميركي والعالم بأسره.

الكتاب يشير إلى قرار الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في التسعينات بشراء الين الياباني وبيع الدولار لضمان الاستقرار المالي العالمي

وبعد انتهاء فترة حكم كلينتون، ظهر تساؤل مفاده هل “الدولار القوي” مبدأ خاص بالحزب الديمقراطي أم أنه شعار ثنائي الحزبية؟ ويلاحظ أن بول أونيل أول وزير للخزانة في عهد الإدارة الجمهورية لبوش الابن تمسك بهذا المبدأ، ومن ثم أصبح مبدأ “الدولار القوي” سياسة مالية أميركية للسنوات الثلاثين التالية، بغض النظر عن طبيعة الحزب الحاكم، مما أدى إلى ازدهار استثنائي وانتشار السلع الأجنبية الرخيصة.

ودأبت الولايات المتحدة على تبني أداة العقوبات لمعاقبة الخصوم الدوليين، مثل محاولة واشنطن كبح جماح البرنامج النووي الإيراني في عام 2012، من خلال منع أي شخص يتعامل مع البلاد من استخدام الدولار، وهي سياسة انتهت إلى تدهور العملة الوطنية الإيرانية، ودفع الملايين من الإيرانيين إلى براثن الفقر.

وعلى الرغم من أن “الدولار القوي” عزز الثقة في العملة الأميركية وجعل المستهلكين الأميركيين يتمتعون بواردات رخيصة، فإن مؤلفة الكتاب تشير إلى أن ارتفاع قيمة الدولار بشكل مبالغ فيه جعل الصادرات الأميركية مثل الصلب والمنسوجات أكثر تكلفة، ومن ثم أقل جاذبية للمشترين الأجانب وأقل قدرة على منافسة المنتجات الأخرى كالواردات الصينية على سبيل المثال، الأمر الذي أضر بالمنتجين الأميركيين، حيث باتت سلعهم أكثر تكلفة بالنسبة للمشترين الأجانب.

وبسبب اكتساب الدولار أكثر من 10 في المئة من قيمته بين عامي 1998 و2002، فقدت الولايات المتحدة في تلك الفترة 2.6 مليون وظيفة في قطاع التصنيع، أي أن “سياسات الدولار القوي” أثرت سلبا في قطاع الصناعة الأميركي.

وفي سياق الآثار السلبية لـ”تسليح الدولار”، يشير الكتاب إلى قرار وزارة الخزانة الأميركية بفرض عقوبات على رجل الأعمال الروسي أوليغ ديريباسكا، الرئيس التنفيذي السابق لشركة روسال، وهي واحدة من أكبر شركات إنتاج الألومنيوم في العالم.

Thumbnail

وترى المؤلفة أن معاقبة شركة لتصنيع الألومنيوم، ستجعله منتجا أكثر ندرة، كما تعرض سوق المعدن إلى الاضطراب، ناهيك عن أنها لم تستطع إغلاق الشركة.

وتفترض المؤلفة أن وزارة الخزانة لم تقض وقتا كافيا في البحث في جميع تداعيات فرض عقوبات على جسم له تأثير في أسواق المعادن في العالم.

ومن ناحية أخرى، لم توقف العقوبات الحرب الروسية – الأوكرانية، خاصة أنها عقوبات مسامية، ولا تحدث بالضرورة التأثير الذي يتوقعه من يفرضها.

وترى المؤلفة أن التوسع الأميركي في استخدام سلاح العقوبات دون تمييز أو تخصيص سيدفع الدول والهيئات والشركات الدولية إلى اللجوء إلى استخدام عملات أخرى بديلة عن الدولار هربا من العقوبات الأميركية، مما سيترتب عليه في الغالب تراجع الهيمنة العالمية للدولار على قطاعات التداول والتجارة العالمية، ومن ثم ستتراجع فائدته الجيوستراتيجية.

وحتى لو فشلت مقترحات مجموعة “البريكس” والمبادرات المماثلة في توفير بديل موثوق للدولار، فإن البعض يرى أن تراجع الدولار عبر احتياطيات النقد الأجنبي العالمية وفواتير التجارة يمثل رمزا للضعف في المؤسسات التي مكنت تفوق الدولار في المقام الأول، ودعمت لاحقا هيمنته العالمية.

7