سوريا المستقبل: جمهورية إسلامية أم دولة تركية تابعة أم معقل جهادي

تشهد الدول بعد الثورات حالة تغير سياسي وإستراتيجي. وتتغير تحالفاتها الإقليمية وتصوراتها للتهديدات والأمن مع استبدال الأنظمة السياسية. ولا تشكّل سوريا ما بعد الأسد استثناء.
دمشق- يرى محللون أن على سوريا ما بعد بشار الأسد إعادة تنظيم تحالفاتها الإستراتيجية بشكل أفضل لتناسب متطلبات وضعها الحالي التي تشمل الاستقرار والتوطيد، بعد أن تحرّرت من حكومة تصادمت مع الولايات المتحدة وإسرائيل لصالح روسيا وإيران.
ويتساءل مراقبون عن النهج الذي ستتبعه؟ هل ستكون سوريا الجديدة دولة إسلامية مدعومة من تركيا، في خدمة اندفاع أنقرة المتزايد على طريق النفوذ والهيمنة على الشرق الأوسط؟ أو ستجد طريقها إلى بناء علاقات بمنأى عن تركيا وتصبح قوة غير منحازة تسعى لتعزيز استقلالها؟ أو ستفشل في الخروج من عزلة ما بعد الأسد، وتصبح قوة جهادية راديكالية عدوانية؟
وجاء في تقرير نشره موقع ستراتفور أن الكثير من الإجابات ستعتمد على كيفية تنسيق الفصائل المتمردة في سوريا للمرحلة الانتقالية، وكيفية تفاعلها مع مكائد الدول الأخرى التي ترى في سوريا فرصة لإعادة صياغة الديناميكيات الإستراتيجية في المنطقة لخدمة مصالحها.
أي خطة
مصالح المتنافسين تكمن في توجه البلاد الأيديولوجي وهويتها وليس في تفاصيل النظام السياسي وما سينتج عنه
تشهد سوريا ما عاشته عدة دول مرت بفترة مضطربة بعد الثورات. وتتراجع في الأثناء خطط الانتقال الملموسة أمام الضرورات اليومية المتمثلة في إحكام السيطرة على الوضع. ولم يف المؤتمر الذي كان يؤمّل أن يُطلق الحوار الوطني بالوعود التي حددها. وكان من المقرر في البداية أن يُعقد خلال شهر يناير الماضي، ولكنه أجّل إلى موعد لم يُحدد.
و يعكس هذا جانبا من التشرذم السياسي في سوريا، حيث تعدّ هيئة تحرير الشام، التي انبثقت عن تنظيم القاعدة، الفصيل المتمرد الرئيسي، ولكنها ليست في الحقيقة سوى طرف من عدة أطراف رئيسية رغم أن زعيمها أحمد الشرع أصبح حاكم سوريا الفعلي. ولا يعني انتماء الشرع وأعضاء هيئة تحرير الشام إلى الإسلاميين أن المتمردين الآخرين يشاركونهم هذا الانتماء بالضرورة.
ويوجد المجلس العسكري في درعا الذي يضم مختلف الأحزاب والميليشيات المتمركزة في جنوب سوريا، إضافة إلى مجموعات أكثر علمانية أو ذات انتماء عرقي (مثل الدروز)، وهي تميل إلى تفضيل الديمقراطية بسبب طبيعتها التعددية.
أما في الشمال فتنتشر القوات المدعومة من تركيا. فالجيش الوطني السوري ينشط في المقام الأول بصفته قوة موالية لتركيا ويعتمد وجوده بشكل كبير على دعم أنقرة. وتبقى قدرته على مواصلة المشوار وفوزه في الانتخابات، إذا أجريت، دون العون الأجنبي موضع شك.
ويشمل المشهد كذلك قوات سوريا الديمقراطية اليسارية التي تحميها الولايات المتحدة وتدعمها. وهي تميل إلى الديمقراطية أيضا. لكنها لا تزال اليوم خارج إطار الحكومة المؤقتة، حيث فوجئت بانهيار حكومة بشار الأسد في ديسمبر 2024.
وحافظت قوات سوريا الديمقراطية على علاقات عمل مع النظام السابق قبل سقوطه. وكانت هذه العلاقات تهدف في المقام الأول إلى مواجهة التوغلات العسكرية التركية. وتبقى هذه الفصائل جزءا من مشهد أوسع وأكثر تعقيدا ولا تزال فلول نظام الأسد نشطة فيه ولكنها تعمل في الظل، مثلها مثل تنظيم الدولة الإسلامية.
ولم يبد الجيش الوطني السوري وقوات سوريا الديمقراطية أي اهتمام جاد بالتفاوض، وركزا بدلا من ذلك على أن يكونا مفسدين. وكانت هذه خلفية سياسية معقدة أبطأت الانتقال السياسي في سوريا. وستحدد طبيعة اصطفاف الفصائل وترتيبها توجه سوريا الإقليمي المستقبلي.
إعادة التقويم
تمثّل الثورات عمليات سياسية تلغي الهياكل السياسية السابقة وتسمح بظهور جهات فاعلة جديدة قادرة على تغيير السياسات الداخلية والخارجية في البلد المتأثر بشكل كبير. لكنها لا تعني بداية جديدة تماما، ذلك لأن عوامل أساسية مثل الجغرافيا والديموغرافيا والاقتصاد التي كانت قائمة قبل الثورة تتواصل إلى ما بعدها.
وتمنع قيود مستمرة سوريا من القطع تماما مع تاريخها. ستبقى البلاد ما بعد الأسد على الحدود مع تركيا وإسرائيل والأردن والعراق ولبنان. وسيبقى سكانها متمركزين قرب ساحل البحر المتوسط. وستبقى مقسمة إلى مجموعات دينية سنية وشيعية وعلوية ودرزية ومسيحية، إضافة إلى العرب والأكراد والأعراق الأصغر مثل الشركس.
وسوف تظل منقسمة بين توجهين علماني وديني، كما ستظل منقسمة بين مركز حضري تجسد في مدينتي دمشق وحلب، ومناطق ريفية على ضفاف نهر الفرات. ولن تكتشف احتياطيات كبيرة من النفط أو الغاز، ولن تكون لديها مواد معدنية كثيرة للتصدير.
ولن تنتهي الضغوط الخارجية المسلطة عليها. وسوف يتنافس جيرانها الأقوياء (وخاصة إسرائيل وتركيا)، خدمة لمصالحهم، في تشكيل التوجهات السياسية في سوريا لضمان عدم ظهور أي كيان معاد لمصالحهم. كما أن أطرافا أخرى مثل إيران وروسيا والولايات المتحدة، إضافة إلى دول الخليج مثل قطر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، تعمل من أجل التأثير على التحوّل السياسي في دمشق لضمان توافقه مع مصالحها الإستراتيجية ومنع المسار السوري من أن يشكل تهديدا إستراتيجيا لها.
وسترسم هذه الحقائق الثابتة للبنية الجيوسياسية السورية الحدود التي على أحمد الشرع وحكومته المؤقتة أن يتحركا ضمنها.
دور الشعب
لا تعني القيود ضيق مجال تشكيل عملية الانتقال في سوريا، لأن للشعب في هذا البلد أيضا كلمته. وليس لأي من القوى الكبرى القريبة من سوريا مصلحة قوية في تحديد نوع السلطة التي ستنشأ خلال المرحلة الانتقالية بعد الأسد، سواء كانت ملكية أو جمهورية أو رئاسية ديمقراطية أو استبدادية أخرى. لكن مصالحها تكمن في توجه البلاد الأيديولوجي وهويتها في الشرق الأوسط. وليست تفاصيل نوع النظام السياسي مهمة للغرباء المهتمين بالتبعات التي ستنتج عنه.
ويمكننا دمج التاريخ الإقليمي والعالمي في دول ما بعد الثورة وتغطيتها بالقيود القائمة على المرحلة الانتقالية في سوريا لرسم صورة تقريبية لمستقبل سوريا السياسي والأيديولوجي. وبعبارة أخرى يجب أن نتعلم من الماضي بينما نتذكر أن سوريا تبقى كيانا فريدا من نوعه.
ويمكننا من هنا أن نستبعد مباشرة بعض السيناريوهات استنادا إلى طبيعة مسار الحرب الأهلية. أولا، من المستبعد جدا أن نشهد انقلابا مضادا ينجح في إعادة الوضع الراهن إلى ما كان عليه في عهد الأسد مثلما جرى في مصر، حيث أصبح الجيش السوري أضعف مما كان عليه حتى خلال خوضه الحرب الأهلية. كما لا يوجد نظير سوري للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصري.
ولهذا لن يستطيع أي طرف تنظيم فلول نظام الأسد لشن هذا الانقلاب المضاد. كما أنه من غير المرجح أن تخسر سوريا رسميا المزيد من الأراضي أو تنقسم إلى دويلات جديدة، كما حدث ليوغوسلافيا خلال المرحلة الانتقالية السياسية، حيث تبقى الفصائل الداخلية في سوريا متوافقة بشأن الحدود الحالية على الأقل.
وليس لإسرائيل وتركيا، اللتين تحتلان أراضي سورية، أية خطط طويلة الأمد لضم هذه المناطق رسميا (بخلاف ضم إسرائيل الحالي لمرتفعات الجولان). لكن يجب ألا نتجه إلى خيارات أخرى محتملة. أولها خط الأساس الناشئ، وتركيز أية جمهورية استبدادية بقيادة الإسلاميين على التنمية الداخلية والعلاقات البراغماتية مع جيرانها.
وستدرك هذه الحكومة القيود التي يفرضها وضع البلاد بعد الحرب الأهلية وتسعى إلى تطوير نظام مستقر بما يكفي لإضعاف النفوذ الأجنبي ثم السماح لسوريا بممارسة نفوذها في العقود المقبلة. وسوف نرى في مثل هذا النموذج الإسلامي سوريا أكثر تحالفا مع تركيا باعتبارها حامية في مواجهة مساعي الهيمنة الإيرانية والروسية والأميركية والإسرائيلية والخليجية.
سوريا ستعاني إذا سلكت طريق الإسلام الراديكالي، جولات جديدة من الصراع بين الفصائل المتنافسة أو مع جيرانها. وقد لا تلتئم جراح الحرب الأهلية بل تتمزق مرة أخرى، مع امتداد اللاجئين والعنف إلى المنطقة
وقد تبدو هذه الجمهورية الإسلامية الاستبدادية عميلة لتركيا في بعض الأحيان، لكنها تخدم نفسها كدولة مستقلة في أحيان أخرى لأنها تتسلل بثبات نحو السيادة، وتكسب إعادة الإعمار والاستثمار من خلال سياساتها الخارجية التي تتفادى المواجهة.
وتدفع أسباب إلى الاعتقاد في أن الكثير من الجهات الفاعلة الإقليمية ستقبل هذا النموذج، حيث لن يرحب هذا النوع من الحكومات السورية بمتطرفين مثل تنظيم الدولة الإسلامية وقد يستمر في التعاون مع دول المنطقة في مهام مكافحة الإرهاب. كما لن تتماشى توجهات الحكومة الاستبدادية الإسلامية مع إيران وإستراتيجيتها المناهضة لإسرائيل، ما يعني أن طهران ستبقى دون ممر بري عبر سوريا لدعم وكيلها في لبنان (حزب الله).
وكان سجل هيئة تحرير الشام في محافظة إدلب مشابها لهذا النموذج، ما يجعل الجمهورية الإسلامية الاستبدادية السيناريو الأساسي. وركزت هيئة تحرير الشام على أساسيات الحكم والشرعية الشاملة لتقديم الخدمات العامة للنازحين المحتشدين في المحافظة. وتجنبت المواجهة مع القوى العظمى مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وإلى حد ما روسيا كلما أمكن ذلك.
وأثرت هذه الإستراتيجية في قرار هيئة تحرير الشام السماح للقوات الروسية بالانسحاب المطرد من سوريا بدلا من شن عمليات ضدها بعد سقوط نظام الأسد. ومكنت الإسرائيليين من تنفيذ عمليات توغل لتعميق منطقتهم العازلة حول مرتفعات الجولان دون أن تواجههم هيئة تحرير الشام. لكنها تفترض أيضا أن الهيئة ستبقى القوة الرائدة في سوريا ما بعد الأسد، وأنها لن تنقسم أو تتطور إلى شيء جديد مع تغير المشهد بمرور الوقت.
ويكمن السيناريو البديل الناشئ في جمهورية إسلامية تنشط بصفتها عميلا لأنقرة ونقطة انطلاق تركية للمزيد من النفوذ في أعماق العالم العربي. ولن تستعيد سوريا استقلالها وسيادتها الكاملة. وستعمل بدلا من ذلك في ظل نموذج الإسلاموية الاستبدادية. وستقترب دمشق من أنقرة عبر نموذج حديث شبيه بالولاية في ظل الدولة العثمانية، ما يُتيح لتركيا تركيز سيطرتها على البلاد مع العمل على توسيع نفوذها في جميع أنحاء المنطقة وخدمة مصالحها.
ويعني هذا النموذج تحول تركيا إلى تهديد سياسي ملحوظ لجيرانها العرب في لبنان والأردن حيث تعزز أنقرة نفوذ الإسلاميين، إضافة إلى كونها مشكلة إستراتيجية لإسرائيل وداعما محتملا لإقامة دولة فلسطينية.
وبينما تسعى تركيا إلى تحقيق أهدافها شبه الخارجية المتمثلة في منع ظهور دولة كردية، وتحقيق أهدافها الأيديولوجية الأوسع المتمثلة في توسيع النموذج السياسي التركي في جميع أنحاء المنطقة للمساعدة في استعادة مكانتها كقوة إسلامية رائدة، ستكون سوريا بمثابة خط أمامي لهذا المشروع. وقد نشهد بذلك إنشاء كوادر من السياسيين والمؤثرين العرب بهدف تغيير الخطاب السياسي في جميع أنحاء المنطقة والدفاع عن تركيا.
ويمكن أن تصبح سوريا، في سيناريوهات جيوسياسية أبعد، خطا أماميا يمكن القوات المسلحة التركية من تنظيم عمليات خارج الدولة العربية نفسها، خاصة إذا تزعزعت الأنظمة أو انهارت في العراق أو الأردن أو لبنان.
ويمكن أن نتطرق إلى سيناريو ثالث آخر غير مرجح حاليا، تعود فيه هيئة تحرير الشام، التي تسعى إلى كسب الشرعية من خلال وسائل بديلة غير الانخراط مع بقية العالم، إلى جذورها الإسلامية المتطرفة وتصبح فرعا وظيفيا لتنظيم القاعدة مرة أخرى. ويصبح هذا السيناريو مرجحا أكثر إذا رفضت أوروبا والولايات المتحدة الهيئة وأبقتها معزولة وغير قادرة على إعادة بناء نفسها.
وهذا لا يحتمل حدوثه على المدى القريب، حيث يخشى الغرب أن تتحول سوريا المعزولة إلى دولة جهادية، أو أن تنزلق مرة أخرى إلى حرب أهلية يمكن أن يخرج فيها فصيل مثل تنظيم الدولة الإسلامية منتصرا. لكن الانقسام المتزايد في الغرب وتركيز العديد من الحكومات على مشاكلها الداخلية يعنيان استحالة استبعاد أن يدعو الشعبويون في واشنطن أو في جميع أنحاء أوروبا إلى مواصلة نظام العقوبات حتى تظهر سوريا ديمقراطية كاملة أو شريكا للغرب موثوقا به.
وأخيرا نذكر طريقة أخرى يمكن أن تتحول بها سوريا إلى دولة جهادية لا تمر عبر هيئة تحرير الشام، بل من خلال حرب أهلية أخرى، تندلع ربما بسبب المكائد التركية في البلاد، أو حملات النفوذ الإسرائيلية أو عملية انتقالية فاشلة تنتج فراغا كبيرا يكفي لعودة تنظيم الدولة الإسلامية إلى حكم جل الشعب أو ربما كامل البلاد.
وستعاني سوريا إذا سلكت طريق الإسلام الراديكالي جولات جديدة من الصراع بين الفصائل المتنافسة أو مع جيرانها. وقد لا تلتئم جراح الحرب الأهلية بل تتمزق مرة أخرى، مع امتداد اللاجئين والعنف إلى المنطقة.
ويدرك السوريون أنفسهم هذا المصير المحتمل. وبينما يعتبرون المحرك الرئيسي لمصير البلاد إلا أنهم ليسوا العامل المؤثر الوحيد. وقد تؤدي الأخطاء التي ترتكبها دول أخرى تسعى إلى استغلال سوريا لخدمة صالحها الإستراتيجي إلى هذه النتيجة غير المحتملة ذات التداعيات الوخيمة.
اقرأ أيضا: