أطباء مصر يحزمون حقائبهم للرحيل خارج البلاد

مشروع قانون "تنظيم المسؤولية الطبية وحماية المريض" يهدف إلى حل شكاوى المرضى عن طريق فرض تدابير عقابية على الطبيب.
السبت 2025/01/25
نحب البلد ونحب حياتنا أكثر

القاهرة– فوجئ طبيب شاب في أحد المستشفيات العامة بالقاهرة في وقت متأخر من الليل وهو يعالج مريضا يعاني من آلام شديدة بأن جهاز الأشعة المقطعية معطل، فاعتمادا على الفحص الطبي وحده، أجرى له سريعا عملية استئصال الزائدة الدودية.

وقال الطبيب الذي طلب عدم نشر اسمه “إنها تصبح مسألة حسابات. أحيانًا يتم الانتقال إلى الخطوة التاسعة بدلًا من التقدم خطوة خطوة من أجل اللحاق بالمريض.” وأضاف “ولكن إذا كان هناك قانون للمسؤولية الطبية، فسوف يحاسبني على الانتقال من خطوة إلى أخرى. لذا، لن أعرّض نفسي لأيّ مشاكل. جهاز الفحص لديّ معطل وثابت على هذا الوضع، في هذه الحالة، أقول للمريض: اذهب إلى الخارج، ابحث عن مركز خاص لإجراء الأشعة، أعتمد على تشخيصي وأعلم أن الوقت الضائع قد يؤدي إلى انفجار الزائدة”.

وتسلط هذه الواقعة الضوء على مخاوف أطباء كثيرين في مصر من مشروع قانون “تنظيم المسؤولية الطبية وحماية المريض” الذي يهدف إلى حل شكاوى المرضى من سوء المعاملة عن طريق فرض تدابير عقابية، من بينها الغرامات وحبس الأطباء الذين يقدمون رعاية دون المستوى المطلوب.

لكن المتخصصين في المجال الطبي يقولون إن المشكلة الحقيقية تكمن في نقص التمويل وعدم كفاءة منظومة الرعاية الصحية في مصر، وإن مشروع القانون قد يضر بالمنظومة المتهالكة بالفعل لأنه سيدفع الأطباء للسفر إلى الخارج أو ترك المهنة تماما.

وقال طبيب التخدير هشام عزت الذي يعمل حاليا في ألمانيا “لقد اتخذت قرار الهجرة منذ وقت طويل لأن هناك غيابًا لنظام صحي حقيقي في مصر، بل لا توجد خدمة صحية بالأساس، والنظام الصحي في انهيار مستمر منذ عقود”.

حخح

وأضاف “المشكلة لا تقتصر على النظام في المستشفيات والتعليم المستمر بعد التخرج، بل تتعداها إلى نقص الأدوات والأجهزة التي تعمل في العديد من المستشفيات. في الخارج، هذه الأمور قد تتسبب في إغلاق المستشفى مؤقتًا وتحويل المرضى إلى مستشفيات أخرى، حيث لا يعمل الأطباء هناك دون توفر هذه الأدوات. أما في مصر، يضطر الأطباء إلى العمل في ظروف صعبة وبطرق بدائية حتى يتمكنوا من التعامل مع المرضى”.

وقال مصدر في نقابة الأطباء المصرية “تم تقديم العديد من القوانين لتحسين الوضع، لكنهم تجاهلوا كل هذه القوانين وقدموا الآن قانونًا يهدد العلاقة بين الطبيب والمريض، حيث يحولها إلى علاقة ندية بدلاً من أن يبني الثقة بينهما”.

وقال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في مؤتمر صحفي هذا الشهر، إن الهدف من مشروع قانون “تنظيم المسؤولية الطبية وحماية المريض” هو تحقيق التوازن بين حقوق الأطباء والمرضى ومعالجة الشكاوى القائمة منذ فترة طويلة. ومن المقرر أن يصوت أعضاء البرلمان على مشروع القانون في غضون أسابيع.

وقال المتحدث باسم وزارة الصحة الدكتور حسام عبدالغفار إن الأطباء المصريين يُحاسَبون حاليًا بموجب قانون العقوبات، الذي يعد أداة غير فعالة في معالجة الأخطاء الطبية.

وأضاف “القوانين الحالية التي تحكم العلاقة بين الطبيب والمريض هي قانون العقوبات. الأطباء طالبوا بقانون للمسؤولية الطبية، وقد قمنا بإعداد قانون يتكون من 30 مادة، 26 منها جيدة، بينما هناك أربعة مواد محل خلاف، تم تعديل ثلاثة منها، وما زالت واحدة في حاجة إلى تعديل دستوري”.

ويخشى بعض الأطباء من أن يكون لمشروع القانون تأثير عكسي فيسبب صراعات بين المرضى والأطباء في بيئة مضطربة بالفعل ويسرّع وتيرة هجرة الأطباء من مصر.

ههخ

وقال الطبيب إبراهيم الزيات، وهو عضو في مجلس نقابة الأطباء استقال في الآونة الأخيرة احتجاجا على مشروع القانون، إن التصورات عن سوء الرعاية أدت إلى زيادة الاعتداءات على العاملين في مجال الرعاية الصحية.

وأضاف “ما هي أكثر شكوى يعبّر عنها المرضى في مستشفيات الحكومة؟ يذهبون ولا يجدون سريرًا. هل هذا خطأ من الطبيب؟ بالطبع لا، ولكن عندما يذهب المريض وعائلته، لن يجدوا أمامهم سوى الطبيب الذي يقفون أمامه، فيوجهون له اللوم”.

والاعتداءات على الأطباء شائعة، ففي نوفمبر على سبيل المثال، أفادت وسائل الإعلام المحلية باعتداء أسرة مريض على طبيب داخل وحدة العناية المركزة في أحد مستشفيات القاهرة.

ويعتقد بعض المرضى أن من الضروري تغيير القانون.

وخضعت أم أحمد (48 عامًا) لإجراء طبي روتيني في مستشفى خاص، لكنها استمرت في الشعور بالألم لعدة أيام، واكتشفت أن العملية تسببت عن طريق الخطأ في مشكلة في القناة الصفراوية، مما اضطرها لإجراء عملية جراحية ثانية. وقالت “بالطبع تحدث أخطاء، فنحن بشر، لكن ما حدث لي كان نتيجة إهمال طبي، والشخص الذي تسبب في ذلك كان يجب أن يُعاقب على الأقل حتى لا يتكرر الأمر مع شخص آخر”.

هجرة الأطباء

تقول نقابة الأطباء إن مصر تواجه نقصا حادا في عدد العاملين بمجال الرعاية الصحية إذ يعمل عدد كبير من الأطباء في دول أخرى مقارنة بالعاملين في القطاع الصحي المحلي.

وقال الزيات “الطلاب الآن يدخلون كلية الطب في الأساس من أجل الهجرة، فمنذ اليوم الأول في السنة الأولى يبدأون في تجهيز أنفسهم للهجرة”.

ووفقا للإحصاءات الرسمية بلغ عدد الأطباء في مصر نسبة إلى عدد السكان نحو 12.8 طبيب لكل 10 آلاف شخص في 2022، في حين يبلغ متوسط المعدل العالمي 17.2 طبيب لكل 10 آلاف شخص.

ودفعت حدة النقص مديرية الشؤون الصحية بمحافظة دمياط الواقعة على ساحل البحر المتوسط إلى دعوة الأطباء المتقاعدين للعودة إلى العمل للمساعدة في توفير الخدمة.

وأضاف الزيات “منذ حوالي عشرة أعوام، كان يصلنا حوالي ستة أطباء يوميًا يقدمون استقالاتهم. ولكن منذ عام 2021 أو 2022، أصبح العدد يصل إلى 12، أي ضعف العدد، مما يعني أن متوسط استقالة الأطباء أصبح كل ساعتين”.

وتابع “لقد زرت كلية كينجز في لندن السنة الماضية، ووجدت أن هناك 124 طبيبًا مقيمًا مصريًا، وهذا العدد يوجد في بعض المستشفيات في مصر بأكملها”.

تشتيت الانتباه

حح

قالت طبيبة متخصصة في أمراض الجهاز الهضمي وتعمل حاليًا في السعودية، “كنت أعمل استشارية في مصر منذ عام 2006 وكان مرتبي 12 ألف جنيه (237 دولارًا). أما في السعودية، فإن مرتبي الآن 24 ألف ريال شهريًا”. وأضافت “وفوق كل هذا، يريدون منا أن نعمل أكثر. نحن بالفعل نعمل في ظروف صعبة، فكيف سيبقى الناس هنا؟”

وفي إشارة إلى مشروع القانون، قالت “في رأيي، هذا القانون تم إقراره لتشتيت الانتباه عن المشكلة الحقيقية المتعلقة بنقص التمويل في القطاع الصحي العام”.

وذكر أطباء أنهم بدأوا في التحول إلى تخصصات منخفضة المخاطر لتجنب المسؤولية والمساءلة المحتملة بموجب مشروع القانون الجديد. وقال طبيب يعمل في مستشفى حكومي “الجراحة أصبحت عبئًا… أنا الآن أصبحت موظفًا أعمل في قسم الباثولوجيا السريرية، أشرف على الفنيين وأغادر في آخر الوردية. لماذا أرهق نفسي في حين أن النظام الطبي أصلاً لا يقدرني؟”

من جانبه، قال الطبيب طارق منصور، العضو السابق في مجلس نقابة الأطباء، إن القانون الجديد “لا يميز بشكل واضح بين ثلاثة أمور: المضاعفات الطبية المحتملة، الخطأ الطبي الجسيم، والخطأ الطبي الذي قد يحدث.” وأضاف “غياب هذا التمييز يعرّض الطبيب لعقوبات كبيرة نتيجة لأمور قد تحدث في العملية، مع أنها تحدث بشكل مستمر في هذا النوع من التدخلات”.

وأوضح منصور ومصدر آخر في النقابة أنه والزيات وثلاثة آخرين قدموا استقالاتهم من النقابة بعد أن ألغى نقيب الأطباء جمعية عمومية كانت تهدف إلى مناقشة مشروع القانون بعد ضغوط من نواب ومسؤولين أمنيين.

وقالت مصادر في النقابة إن مناقشة مشروع القانون في مجلس النواب تأجلت لتجنب احتجاجات محتملة قد تتزامن مع الذكرى الرابعة عشرة لثورة 25 يناير، لكن من المتوقع عرضه على النواب في غضون أسابيع.

وطالب النقيب العام للأطباء الطبيب أسامة عبدالحي في بيان بضرورة التمييز بوضوح بين الإهمال الطبي الجسيم، الذي قد يؤدي إلى التقاضي، وبين الخطأ الفني الوارد حدوثه والذي يتطلب تعويض المريض. وأثّر النقاش حول مشروع القانون على ثقة الأطباء. وأشارت طبيبة شابة إلى أنها تفكر بجدية في الهجرة قائلة “المريض سيصبح خصمًا. لن أكون هنا لحمايتك، بل أنا هنا لحماية نفسي. إما أنا أو أنت”.

16