منتدى أبوظبي للسلم وترميم صورة الإسلام في أفريقيا

في سياق الحديث عن إنجازات منتدى أبوظبي للسلم يمكن أن نتوقف عند مسألة جوهرية وهي إنقاذ صورة الإسلام في أفريقيا.
الثلاثاء 2025/01/21
جهود سلام إماراتية عابرة للحدود

خليل ولد اجدود

تتجه الأنظار مجددا إلى موريتانيا اليوم الثلاثاء الحادي والعشرين من يناير مع انطلاق أشغال المؤتمر الأفريقي لتعزيز السلم في المجتمعات المسلمة والذي يمتد لثلاثة أيام.

ومع الزخم الكبير للمؤتمر والحملات الشرسة التي تعرض لها من طرف بعض التنظيمات المتطرفة والتيارات الدينية المحافظة، من المشروع التساؤل عن أهمية هذا المنتدى السنوي وأهدافه ومؤسسه والنتائج التي حققها حتى الآن.

لقد أصبح المؤتمر الأفريقي لتعزيز السلم في غضون سنوات قليلة حدثا بارزا ومميزا في العالم العربي والأفريقي وتغلغل في القارة السمراء المنهكة، بسبب الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية والنزاعات والإرهاب والمجاعة، بتأطيره لمشروع متكامل للمصالحة والسلام ونبذ العنف والتفرقة قدمه للعالم إعلان نواكشوط التاريخي يناير 2020.

أهمية المؤتمر وتأثيره يظهران أيضا في مستوى الحضور والمشاركين من قادة دول ورؤساء حكومات ووزراء وأبرز القيادات الدينية والمئات من الأكاديميين والمفكرين والمثقفين ورجال الدين من مختلف المذاهب والطرق والباحثين الشباب. ويلعب المؤتمر الأفريقي لتعزيز السلم بتنوع ومكانة المشاركين فيه والنقاشات العميقة والمخرجات المنبثقة عنه دورا كبيرا في تعزيز المحبة والأخوة.

نيجيريا الغنية بالنفط هي أكبر اقتصاد في أفريقيا ومن بين أكبر دول القارة من حيث تعداد السكان لكنها تعاني بسبب انتشار الإرهاب والتعصب والكراهية الدينية والمذهبية والفساد والفقر

ويمكن الاستناد إليه كوسيلة ناجعة لمكافحة التطرف وتعزيز السلم من بين وسائل أخرى طبعا. بيد أنه من وجهة نظر موضوعية بالنظر إلى ما قدمه يمكن القول إنه يتصدر المنتديات التي تجمع القادة والمفكرين من مجتمعات مختلفة ومشارب متعددة للتباحث حول القضايا المشتركة.

ويمكن أن نوجز في نقاط محددة إنجازات وأهمية المؤتمر الأفريقي للسلم في الظرفية الحالية والتي تتسم بحدة الاستقطاب الدولي والإقليمي في القارة الأفريقية والتصعيد الجديد والخطير في نشاط الجماعات المسلحة وسيطرتها على مساحات واسعة من أراضي دول في القارة الأفريقية وتمدد داعش والقاعدة في منطقة الساحل.

يتصدر هذه الإنجازات تعزيز الحوار والتفاهم فالمؤتمر يوفر فضاء للحوار البناء بين مختلف الثقافات والديانات مما يُسهم في إزالة الحواجز الفكرية وتعزيز التفاهم المتبادل والحد بالتالي من تأثير الخلافات السياسية والعقدية على حياة الناس وتسهيلها بدل تعقيدها.

ونشر ثقافة المحبة والتسامح حيث يروج المؤتمر الأفريقي لتعزيز السلم عبر المناقشات والأنشطة المختلفة لقيم التسامح والمحبة بين المجتمعات مما يساعد في تقوية الروابط الإنسانية.

من هذه الإنجازات أيضا دوره في مكافحة التطرف الفكري والديني، صحيح أن المؤتمر الأفريقي للسلم يسلط الضوء على أسباب التطرف لكنه يطرح أيضا الحلول العملية لمواجهته من خلال نشر الوعي وتوضيح مخاطر هذه الظاهرة وإبراز دور القادة الدينيين المعتدلين، والمؤتمر يساهم عبر جمعهم سنويا في الجهود الرامية إلى مواجهة الكراهية ونشر رسائل السلام.

وفي كل مرة يقدم لنا شخصيات تصبح مع الوقت ملهمة للشباب الأفريقي ولطلبة العلوم الشرعية وبالتالي يخفف من أذى ومخاطر الدعابة البغيضة لمرجعيات التكفير والغلو وسفك الدماء التي تتزاحم في الفحوى الذي تقدمه بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

إضافة إلى ما سبق، يساهم المؤتمر في تعزيز التعاون الإقليمي والدولي فالقائمون عليه يشجعون التعاون بين الدول الأفريقية والعربية والمجتمعات المختلفة لتبادل الخبرات ووضع إستراتيجيات مشتركة لمواجهة التطرف. ومن مميزات المؤتمر إشراكه المكثف للشباب والمجتمع المدني في التحضير وجلسات الحوار مما يعزز دورهما في بناء مستقبل أفضل بعيدا عن النزاعات.

وكذلك التأكيد على الهوية المشتركة فالمؤتمر بشكله ومضمونه الحالي يذكر الشعوب الأفريقية بهويتها المشتركة ويعزز روح الأخوة القائمة على الاحترام المتبادل، ويساهم حتى وإن كان الطريق طويلا وصعبا في بناء مجتمعات مستقرة وآمنة تسودها المحبة والأخوة، مع محاربة مظاهر التطرف بكل أشكالها.

المؤتمر يساهم في تعزيز التعاون الإقليمي والدولي فالقائمون عليه يشجعون التعاون بين الدول الأفريقية والعربية والمجتمعات المختلفة لتبادل الخبرات ووضع إستراتيجيات مشتركة لمواجهة التطرف

ويمكن أن أضيف لتفسير نجاح المؤتمر وأهميته وعمق التحولات التي تحدث على خلفية أصداء النقاشات التي تدور فيه كيف أصبحت بعض المفاهيم والمصطلحات المنبثقة عنه وقد وردت ضمن مخرجاته معتمدة لدى حكومات في أفريقيا والأتحاد الأوروبي.

وبما أن المؤتمر الأفريقي للسلم يهدف إلى تقوية المحبة والأخوة ومكافحة التطرف فقد رسخ في الذهنية العربية والأفريقية السائدة في دول المنطقة مفاهيم التسامح وقبول الآخر واحترام اختلافاته الفكرية والثقافية والدينية والحوار بين الأديان لتعزيز التفاهم والتواصل بين أتباع الديانات المختلفة بهدف التعايش السلمي والسلام المجتمعي وبناء مجتمع خال من النزاعات والصراعات من خلال تعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة وقدرة الأفراد والمجتمعات على العيش بسلام مع احترام التنوع الثقافي والديني.

المؤتمر الأفريقي لتعزيز السلم بهذا الشكل يدفع بالقيم الإنسانية المشتركة والمبادئ التي تجمع البشر، مثل العدالة والكرامة والحرية والمساواة والأخوة الإنسانية ووحدة البشر بغض النظر عن اختلافاتهم مع التركيز على التعاون والتضامن.

وقد رسخت أعمال وأنشطة المؤتمر في ملتقيات سابقة مفاهيم أخرى من بينها الوسطية لتجنب التطرف في الفكر والسلوك، والدعوة إلى الاعتدال والاندماج الثقافي وتفاعل الثقافات المختلفة وتعايشها دون فقدان هويتها ومناهضة الكراهية.

هذه المفاهيم والمصطلحات أسهمت في تشكيل إطار فكري وتنفيذي لتحقيق أهداف المؤتمر وتعزيز التعاون بين المجتمعات المختلفة. وفي سياق الحديث عن إنجازات منتدى أبوظبي للسلم يمكن أن نتوقف عند مسألة جوهرية تبدو في رأيي في غاية الأهمية وهي إنقاذ صورة الإسلام في أفريقيا.

تاريخيا كانت هناك صورة نقية وناصعة للإسلام في أفريقيا قبل أن تشوهها ممارسات “بوكو حرام” في شمال نيجيريا ومنطقة بحيرة تشاد والتنظيمات الهمجية في الكامرون والتوغو وبوركينا فاسو ومالي.

نجح المؤتمر إلى حدما في ترميم صورة الإسلام في أفريقيا لأن القائمين عليه انتبهوا لأهمية تفادي أن تخاطب الناس في القرن الحادي والعشرين بلغة وخطاب صراعات القرن الأول الهجري والسابع الميلادي. العالم اليوم تطبعه ظروف وتقاليد مختلفة، لقد تغير.

ويمكن أن نستلهم مبادئ وقيما من الإسلام دون خيانة الدين نفسه وتقديمه بلغة لا يفهمها المعاصرون. عندما تخاطب الناس بلغة لا يفهمونها تشجعهم على رفض الإسلام، والنخب من جميع الديانات اليوم لا تقدم دينها للعالم إلا بلغة مفهومة. ولعله من المشروع أن نتساءل أيضا عما إذا كان المؤتمر يتعارض مع مشاريع فكرية وثقافية مماثلة في المنطقة؟

المؤتمر نجح إلى حدّ ما في ترميم صورة الإسلام في أفريقيا لأن القائمين عليه انتبهوا لأهمية تفادي أن تخاطب الناس في القرن الحادي والعشرين بلغة وخطاب صراعات القرن الأول الهجري والسابع الميلادي

يتضح من خلال دراسة مضمون أعمال المؤتمر خلال دوراته الماضية أن هذا المنتدى لا يخدم سياسة قطرية محددة وليس في مواجهة مع أي سياسة قطرية بغض النظر عن هيمنتها في المنطقة من عدمها. المؤتمر الأفريقي للسلم يسعى للتفاعل الإيجابي مع كل المحاولات المماثلة في العالم الإسلامي بما فيها بعض المشاريع المهمة ولا يقدم نفسه كبديل عنها أو منافس وإنما كمكمل وداعم.

إن نجاح المؤتمر كمشروع تجسد في التعاطي الإيجابي مع المشاريع الرئيسية في القارة بما فيها مشاريع مغربية بارزة من بينها مؤسسة علماء أفريقيا ومشاركة بعض قادة المؤتمر إلى جانب مؤسسه في النقاشات والحوارات والدروس التي تنظمها وزارة الأوقاف المغربية، ويمد المؤتمر الأفريقي لتعزيز السلم يده لكل تعاون إيجابي ويرى أن قيامه أصلا تأسس على الحوار والتفاهم مع الشركاء في الدول الشقيقة والصديقة، وقد تفاعل مع مشاريع سلام حتى من ثقافات وديانات أخرى وبالأحرى مشاريع تنتمي إلى الدين نفسه ومنبثقة من بلد مجاور نتقاسم معه جميع الروابط العقدية والفكرية والثقافية والعلمية.

كل هذه النجاحات وهذا الزخم في دينامية عمل المؤتمر الأفريقي لم تكن لتحدث دون اجتهاد وطموح وهمة مؤسسه شيخ العصر العلامة عبدالله بن بية وهو عالم جمع الله فيه ما تفرق في أسلافه وتجمعت فيه ميزات نادرة.

الشيخ عبدالله بن بية القادم من حوزة علمية عريقة وابن “المحظرة” المدرسة التقليدية والمنحدر من مشيخة صوفية كبيرة وخليفتها الحالي استطاع بفهمه ورسوخه في العلم أن يتجاوز الكثير من المثقفين الحداثيين.

عندما ننظر في أعمال وخطب بن بية التأطيرية في الملتقيات السابقة نجد أن التجديد بالنسبة له لا يعني الانفصال عن الجذور ولا التقصير عن الغايات السامية. فهمه لمقاصد الدعوة الإسلامية يتجه فيه لمقاصد الشريعة دون التوقف عند اجتهادات علماء قرون سابقة.

يقوم الشيخ بن بية بتحيين المقاصد لتواكب العصر وهو بهذا حقا شاطبي القرن الواحد والعشرين. لقد أحدثت مقاصد الشريعة عند الشاطبي ثورة في الفكر الإسلامي عندما أضاف إلى النظر في النصوص والقواعد التأمل في المقاصد.

من الضروري لنشر رسالة المؤتمر على نطاق واسع في القارة الأفريقية استحداث منصات تابعة له ناطقة باللهجات الأفريقية الأكثر شيوعا والتي يتحدث واحدة منها في نيجيريا فقط عشرات الملايين من السكان

والتجديد المستمر اليوم في الفكر الإسلامي يقوده دون شك العلامة بن بية بإسهاماته في تحيين مقاصد الشاطبي لتواكب أحكامه عصرنا اليوم، وهذا عمل عظيم يقوم به مؤسس المؤتمر الأفريقي للسلم ومنتدى أبوظبي لتعزيز السلم أحسن قيام. وما يميز عمله في رأيي هو أنه عمل “استثنائي” لكونه من داخل الشريعة والفقه الإسلامي نفسه ولم يخرج عنه وقد صدر عن معارف ووعي بمتطلبات العصر لدى نابغة من كبار علماء المسلمين.

ومع أن بعض اجتهادات الشيخ عبدالله بن بية تعرضت لمراجعة ونقد جارح بيد أنه مع الزمن يتضح دوما أن الحق كان معه في مسائل خلافية وجدلية على غرار بعض الفتاوى والدعوات لسفك الدماء والخروج على الحكام والقتال والجهاد عن جهل لدغدغة العواطف.

وفي مقابل التفسير الديماغوجي والمتزمت للدين يخاطب بن بية العقول، وهو ينشد الحق والمصلحة فقط، وبإخلاص نادر أحيا معه طريق الهدى بعدما تدثرت وغدا للدين الإسلامي في أفريقيا بالمؤسسات المنبثقة عن مبادراته ركنا متينا وحصنا منيعا في مواجهة المد الأصولي الذي شوه صورته.

وأعتقد أنه من الضروري لنشر رسالة المؤتمر على نطاق واسع في القارة الأفريقية استحداث منصات تابعة له ناطقة باللهجات الأفريقية الأكثر شيوعا والتي يتحدث واحدة منها في نيجيريا فقط عشرات الملايين من السكان.

نيجيريا الغنية بالنفط هي أكبر اقتصاد في أفريقيا ومن بين أكبر دول القارة من حيث تعداد السكان لكنها تعاني بسبب انتشار الإرهاب والتعصب والكراهية الدينية والمذهبية والفساد والفقر.

إن ترجمة فحوى النقاشات ومخرجات ملتقيات منتدى أبوظبي للسلم إلى هذه اللهجات، إضافة إلى دمج الكلمات التأطيرية والخطب والمحاضرات وبشكل موجز وسريع ضمن هذا المحتوى، سيكونان بالتأكيد مفيدين ومؤثرين، وستخدم منصات كهذه أهداف المؤتمر وأجندته.

7