الحرب تقتل الأحلام والذكريات

بيروت- تابع لبنان بعلبكي، قائد الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية، مشهدا على شاشة هاتفه كاميرا تصور من الجو قرية في جنوب لبنان.

وتحولت عدة منازل إلى أنقاض في غضون ثوان، وملأ الدخان الجو، ثم انحازت الكاميرا إلى اليمين، وكشفت عن دمار واسع النطاق.

وكبّر الصورة لتأكيد مخاوفه. ورأى منزل عائلته في قرية عديسة الحدودية، حيث دفن والداه، مهدّما.

وقال، “لا أعتقد أن هناك وصفا لرؤية منزلك يتعرض للقصف ويتحول إلى رماد في جزء من الثانية”.

وتدمر منزل طفولته في أكتوبر خلال الهجوم الإسرائيلي على لبنان.

ويعبر لبنانيون، مثل قائد الأوركسترا لبنان بعلبكي، ابن الفنان عبدالحميد بعلبكي، عن صدمتهم العميقة بعد رؤية منازلهم التي قضوا حياتهم في تشييدها تتحول إلى أنقاض.

ووفقًا لما نقلته صحيفة “فايننشال تايمز”، يرى خبراء في القانون الدولي أن التدمير الكامل للقرى قد يتعارض مع مبدأ التناسب في القوانين الدولية. وأشار ألونسو جورميندي دانكلبرغ، الخبير من كلية لندن للاقتصاد، إلى أن “وجود بنية تحتية عسكرية في منطقة مدنية لا يبرر تدمير قرى بأكملها،” مضيفًا أن على إسرائيل أن تثبت أن الفوائد العسكرية الناتجة عن هذه العمليات تفوق حجم الأضرار الجسيمة التي تصيب السكان المدنيين.

وتقول إسرائيل إن الهدف يكمن في إضعاف جماعة حزب الله المتشددة، وإبعادها عن الحدود ووضع حد للهجمات على شمال إسرائيل.

ونشر الجيش الإسرائيلي مقاطع فيديو لتفجيرات خطط لها في مناطق على طول الحدود، قائلا إنه استهدف منشآت حزب الله وأسلحته.

لكن القصف دمّر أحياء سكنية وقرى بأكملها. وقال البنك الدولي في تقرير حديث إن أكثر من 99 ألف وحدة سكنية “تضررت كليا أو جزئيا” بسبب الحرب في لبنان.

وكان منزل عائلة بعلبكي قائما في العديسة. وصممه والده الراحل، الرسام اللبناني الشهير عبدالحميد بعلبكي.

ويمثل المنزل لقائد الأوركسترا أكثر من مجرد ذكريات شخصية. وكانت به مجموعة من لوحات عبدالحميد وورشة العمل الفنية وأكثر من1500 كتاب. وسُحقت كلها مع المنزل.

وقال بعلبكي إن الجرح الأعمق هو خسارة الرسائل التي تبادلها والداه خلال دراسات أبيه للفن في فرنسا. وبقي عدد قليل في شكل صور رقمية.

وأضاف أن لغة العاطفة والحب التي تشاركاها كانت شعرية.

وفي كتاب من القصائد والصور الفوتوغرافية التي أهداها والده لزوجته بعد وفاتها المفاجئة في حادث سيارة، جاء في الصفحة الأولى “إهداء لأديبة، شريكة أغلى أيامي، طائر الحب الذي غادر عشه في وقت مبكر جدا”.

وكان عبدالحميد هو الذي صمّم مشاهد قبر زوجته، ثم دُفن بجانبها في الحديقة المجاورة للمنزل. وأعادت مشاهد المنزل المدمر ألم خسارتهما في نفس ابنهما. وجسّدت تلك اللحظة سيناريو كان يخشاه منذ أشهر.

وبادر حزب الله بإطلاق الصواريخ على إسرائيل في 8 أكتوبر 2023 تضامنا مع حماس في غزة. وردت إسرائيل بغارات جوية وقصف. وبقي الصراع محدودا لحوالي سنة.

ثم تصاعد في 23 سبتمبر 2024 وسُجّلت غارات جوية إسرائيلية مكثفة على جنوب لبنان وشرقه وضواحي بيروت الجنوبية.

وكان بعلبكي وإخوته يتفقدون صور الأقمار الصناعية بشكل متكرر لمتابعة تطورات قريتهم.

ودقّت الانفجارات في العديسة وما حولها في 26 أكتوبر إنذار الزلزال في شمال إسرائيل. وانتشرت يومها مقاطع فيديو على الإنترنت، أظهر أحدها تدمير منزل بعلبكي.

وأظهرت صور الأقمار الصناعية قبل أيام قليلة منزله قائما.

وقال بعلبكي إنه مصمم الآن على تكريم حلم والده. وأكد أن “مرحلة الحداد بدأت تتحول إلى إصرار على إعادة بناء هذا المشروع”. وهو يخطط لإعادة تشييد المنزل عندما تنتهي الحرب، ليكون متحفا فنيا ومركزا ثقافيا.

وحجز الموسيقي والمايسترو لبنان بعلبكي مكانة بارزة على الساحة الفنية اللبنانية خلال فترة وجيزة، بعد إكمال دراسته الموسيقية في الخارج. وبدأ رحلته الفنية منذ الصغر، حيث كان الكمان أول آلة عزف عليها، وهو حاصل على عدة شهادات أكاديمية، بما في ذلك درجة الدكتوراه برسالة بعنوان: “علم النفس بين القائد والعازف”.

وشارك بعلبكي في العديد من الفرق الأوركسترالية البارزة في أوروبا وحظي بتقدير واسع على أدائه وإسهاماته الموسيقية. نشأ في بيئة فنية شاملة ساهمت في تشكيل هويته الموسيقية، فهو شقيق الفنانة سمية بعلبكي والرسام أسامة بعلبكي، وابن عم الرسام أيمن بعلبكي. هذه البيئة المتنوعة عززت لديه ذوقًا فنيًا متعدد الأبعاد، مما أتاح له التفاعل مع مختلف أشكال الفنون.

وُلد لبنان عبدالحميد بعلبكي في بيروت عام 1981 في عائلة فنية، وسط أجواء الحرب. تعرض والده في إحدى الحواجز ببيروت لاضطهاد وتعنيف نفسي، ما دفعه إلى إطلاق اسم “لبنان” على مولوده الجديد كتعبير عن انتمائه للوطن وتأكيدًا على موقفه الرافض للهجرة. هذا الاسم لم يكن مجرد لقب، بل أصبح رمزًا للروح الوطنية التي غرسها الأب في ابنه، الذي اختار البقاء والصمود في وطنه بدلًا من الهجرة.