"حَوْزُ الزُّمرَة" كتاب يسلط الضوء على الحَياة في منطقةِ الميليشيات

تحوُّل الميليشياتِ في منطقة الشرق الأوسط من ظاهرة عَرَضيةٍ هامشيّة إلى ظاهرة مُستفحلة، يضع المَعنيّين بها أمامَ وضعٍ معقد، يحتاج إلى مقاربة مختلفة للعمل على تفكيكها قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة، وهو ما حرص كتاب "حَوْزُ الزُّمرَة؛ الحَياة في منطقةِ الميليشيات" على مناقشته.
أبوظبي - يسلط كتابُ “حَوْزُ الزُّمرَة؛ الحَياة في منطقةِ الميليشيات”، الصَّادرُ عن وحدة الدراسات الإيرانية في مركز الإمارات للسياسات، الضوء على ظاهرةَ الميليشيات التي استفحَلت خلالَ العقدينِ الأخيرين في منطقةِ الشرقِ الأوسطِ.
ويُفتَتحُ الكتاب بمُقدّمة بقلم الدكتورة ابتسام الكتبي؛ الرئيس المؤسس لمركز الإمارات للسياسات، حيث تستعرض أهمية الموضوع، والأسباب الموضوعية والظرفية التي دفعت المركز نحو تبنّي فكرة هذا المشروع البحثي.
وتضيف الكتبي: من منطلق هذه الأهميّة البنيويّة -لا من منطلق اللحظة الراهنة فحسب- ركز المحللون في مركز الإمارات للسياسات على دراسة ظاهرة الميليشيات باعتبارها شبكة مرتبطة بمشروع هيمنة، ونمطًا من “الفاعلين دون الدولة” يُمارَسُ أنشطة من شأنها تهميش “مؤسسة الدولة” وإضعافها. وهي شبكة ذات مصالح اقتصادية مُترابطة تترك آثارًا جوهرية على المسارات الاقتصادية في المنطقة.
وشارك في إعداد الكتاب عددٌ من المحللين المتخصصين الذين استندوا في دراساتهم إلى مصادر أصلية باللغات العربية والإنجليزية والروسية والصينية والعِبْريّة إلى جانب المصادر الفارسية التي شكّلت غالبية الإحالات.
وجاء الكتاب في ستة فصول متعاقبة ومتكاملة؛ حيثُ ناقشَ الفصل الأول جذور الظاهرة الميليشياوية ابتداءً من القَرار المؤسِّس، ومرحلة التَّأصيل لظاهرةِ “اللَّاعبين دونَ الدَّولة”، وتشكُّل فكرة “تَصدير الثَّورَة” التي أَعادَت فيما بعدُ تشكيل الجغرافيا السيّاسيّة للمنطقة عمومًا، مستعرضًا المؤسَّسات الرّاعية لشبكةِ “اللَّاعبين دونَ الدَّولة” في إيران بأنواعها: الدعوية، والاقتصادية، والعسكرية، وصولًا إلى مسار تأسيس “فيلق القدس” الذي مثّل مرحلة التَّحوُّل الكامل إلى المؤسَّسة. وكيفيّة تطوُّر مسار عسكرةِ النفوذِ الإقليميّ الإيراني، وإعادة تشكيل البُنية الإقليمية في الشرق الأوسط.
الكتاب يناقش الانعكاسات فوق الإقليميّة للظاهرة الميليشياوية، محاولا توضيح اختلال الرُّؤيةِ والإستراتيجيَّات في مُقاربة القوى الدوليّة
ويستعرض الكتاب في الفصل الثاني ملامح المرحلة الثانية من المشروع الجيوسياسي الإيراني، والتي تتضمن التحوُّل إلى ما وراءَ الجدارِ الشيعيّ عبر الانتقال من مرتكز التَّشيُّعِ السِّياسيِّ إلى مرتكز الإسلامِ السِّياسيِّ كرافعة جديدة لتوسيعِ النُّفوذِ الإيراني، ومحاولة ثَقْبِ الجدارِ العربيّ في الأردن ومصر والسودان وليبيا. وكذلك محاولة النفاذ إلى الشَّرقِ الإسلاميّ عبر تشكيل الميليشيات في أفغانستان وباكستان. ودور حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في هذه المرحلة، باعتبارها الرّابط الذي يُمهِّد للانتقالِ إلى حواضنِ الإسلامِ السياسيِّ السُّني. كما يناقش هذا الفصل عامل هشاشة الدولة الوطنية التي شكّلت مُرتَكَزًا ثانيًا للنُّفوذِ الإيراني، وبات استمرارها يُشكِّل مَصلحة إستراتيجيَّة لإيران.
خصص الفَصْلُ الثَّالث لدراسة ظاهرة “التّصَحُّر الاقتصاديّ”، الناشئة عن انتشار الميليشيات، وعمل مؤلفو الكتاب على التَّأصيل الاقتصاديّ لظاهرة انتشار الميليشيات، موضحين أثر الميليشيات في الاقتصاد الإيراني (الأعباء الاقتصاديَّة لمشروع الهيمنة الإقليميَّة)، وأثرها على الاقتصاد الإقليمي (الطَّريقُ إلى التَّصحُّرِ الاقتصاديِّ)، وملامح اقتصاد الميليشياتِ التي لديها منظوماتها الاقتصادية الخاصة (اقتصادُ العالمِ السُّفليّ). وتأثير كل ذلك على الاقتصاداتِ العربية والخليجيَّة.
وفي الفصل الرابع يناقش الكتاب الانعكاسات فوق الإقليميّة للظاهرة الميليشياوية، محاولا توضيح اختلال الرُّؤيةِ والإستراتيجيَّات في مُقاربة القوى الدوليّة لملف الميليشيات عمومًا، وجرى التركيز في هذا الفصل على رؤية الأطراف التالية: الولايات المتحدة والمجموعة الغربية، والصين، وروسيا.
وبالنظر إلى الرؤية الإسرائيلية الخاصة لظاهرة الميليشيات، والتي تعتبرها إسرائيل بمثابة الخطر الوجوديِّ الذي ينبغي التّصدي له ومُعالجته، جرى تخصيص الفصل الخامس لمناقشة مَعالم هذه المقاربةِ الإسرائيليَّة؛ حيثُ ناقش الفصل القضيَّة الفلسطينيَّة باعتبارِها الحُجَّةَ لاستفحالِ الظّاهرة الميليشياويَّة، وميّز بين ثلاث مقاربات إسرائيليَّة في التَّعاملِ معَ الظّاهرةِ الميليشياويَّة: المقاربة العسكريَّة، ومقاربةُ الرَّدع والاحتواء، ومقاربةُ التَّسويات.
ومن أجل الارتقاء بهذا المشروع البحثي من مستوى المعالجة الأكاديمية والعلمية إلى مستوى الممارسة السياسية، والمعالجة العمليّة، تم تخصيص الفَصْل السَّادس من الكتاب لاستعراض أبرز الاستنتاجات العامّة والسّيناريوهات والتوصيات التي من شأنها رسم ملامح الطريق إلى النظام الإقليمي باعتباره السبيل إلى “أقْلَمَةِ الحَوْزِ، وتفكيكِ الزُّمرَة”، مُحذرًا من أنّ عدم التحرك في الوقت المناسب قد يؤدي إلى استفحالِ ظاهرةِ الميليشيات في المنطقة، ووصولها إلى نقطة اللاعودة.
الاقتراب من نقطة اللاعودة
يُعْزَى انتشارُ ظاهرة الميليشيات بشكلٍ أساسيٍّ إلى قيام “الثَّورة الإسلاميَّة” في إيران؛ حيثُ نَشأت فكرةُ الميليشيات في ظِلّ تَشكُّلِ نمطٍ خاصٍّ من النُّظُمِ السّياسيَّة والاجتماعيَّة والعقائديَّة، ذي طابعٍ رِساليٍّ وثوريٍّ عابرٍ للحدود الوطنيَّة.
وما كانت “الأيديولوجيا الإسلاميّة الشيعيّة” وحدَها هي التي تَمظْهَرَت في شكل تنظيماتٍ مسلحةٍ أو ميليشيات في منطقة الشرق الأوسط، فقد سبقَها إلى ذلك، ولحقَ بها أيضًا، العديد من الأيديولوجيات الإسلاميّة، وغير الإسلاميّة. لكنّ عددَ الميليشيات التي أنشأتها إيران وحجمَها وانتشارَها الجغرافيّ الواسع وقدراتها التنظيمية والتسليحية والاقتصادية جعلَت منها ظاهرةً غير مسبوقةٍ، ليس في المنطقة وحدها، بل على مستوى العالم كُلّه.
بعدَ أن ترسَّخت الظَّاهرةُ في إيران التي شكَّلت البيئةَ الحَاضِنةَ والمُنْشِئَةَ للميليشيات، اندفعت إلى خارجِ هذا البلدِ؛ وذلك حينما طَمَحَت الميليشيا الأمّ (الحَرسُ الثَّوريُّ الإيرانيُّ) إلى توسيعِ الرُّقعةِ الجغرافيَّةِ لتأثيرها، وتطبيقِ نموذجِها في مناطقَ أُخرى.
وببيان معرفي فإنَّ قرارَ تأسيس الميليشيات الذي اتخذه “فاعلون بشريّون” في فترة من الزمن -مأخوذين بظرف تاريخي محدَّد- أدّى في مرحلة لاحقةٍ إلى تطوير “بُنية إقليميَّة جديدة” أصبحت بعدَ أربعة عقود من ذلكِ القرارِ التأسيسيِّ البُنيةَ التي تتحكمُ في قراراتِ الفاعلين وتُحدِّدُ توجّهاتِهم.
ولم يكن القرارُ التأسيسيُّ مُنسلِخًا عن “إرادة الهَيمنة” لدى الدَّولة الإيرانيّة، لكنه أسّسَ لنوعٍ خاصٍّ من ممارسة الهيمنة تُمنَح فيها الأولويّةُ للعقيدة في وجهِ الوطن/الدَّولة، وتُعتبرُ الروابطُ العقائديّةُ أكثرَ أصالة وواقعيّة من الروابطِ الوطنيّة.
ولا يقتصرُ الأمرُ على الدّافعِ الأيديولوجيّ والدافعِ الجيوسياسيّ في ضمانِ استمرارِ ظاهرةِ الميليشيات؛ إذ إنَّ شبكةَ المصالحِ الاقتصاديَّة الواسعة التي حيكت من حولِ شبكةِ الميليشيات، وباتت تُقدَّرُ بعشرات المليارات وتنخرط فيها غالبيَّة هذه الشبكة، ستعمل هي الأُخرى على ضمانِ استمرارِ هذا القرارِ التأسيسيّ، وذلك لضمانِ استمرارِ هذه الشبكةِ الاقتصاديَّةِ الواسعة.
ارتفاع وتيرة نشاط الميليشيات في منطقة الشرق الأوسط له تداعيات جوهريّة على العلاقاتِ الإقليميَّة وطبيعة الدَّولة
وعلى صعيدٍ متّصل بالاقتصاد، يؤدّي تعاظمُ دورِ الميليشياتِ في منطقةِ الشرقِ الأوسط إلى آثارٍ سلبيَّةٍ على الاقتصادِ العالميّ عبر التشويش على أمنِ الطاقة، وأسعارِها في الأسواق العالميّة، والتأثيرِ على مشاريعِ التعاونِ والانصهارِ الدّوليّ، بما فيها مشاريع الممرات الدوليَّة التي تتخذ من الشرق الأوسط مسارًا لها، وتأثير تدفُّقِ البضائع، ورفع كُلفةِ النقلِ في الممراتِ المائيّة مثلَ مضيق هرمز وباب المندب والبحر الأحمر.
وستكونُ للميليشياتِ وارتفاعِ وتيرةِ نشاطها في الشرقِ الأوسط تداعيات جوهريّةٌ على العلاقاتِ الإقليميَّة وطبيعةِ الدَّولة؛ إذ تُظهرُ المعطيات أنَّ استفحالَ ظاهرة الميليشيات أدى إلى زيادةِ الإنفاق العسكري، وارتفاعٍ ملحوظٍ في الموازناتِ العسكريَّةِ في بلدانِ المنطقةِ مقارنة بالمعدلات العالميّة، ومن المرجَّح أن يؤدّيَ استمرارُ هذه الظاهرة وتعاظم دورها إلى تكريس سباق تسلّح إقليميّ يُعزّز ارتفاعَ الإنفاقِ العسكري إلى حدودٍ أبعد.
وبدورِه ينذر ارتفاعَ حصة الموازنةِ العسكريَّة من إجماليّ الناتجِ المحليِّ في الشرق الأوسط بسَطوَة العسكريين والمؤسسات العسكريَّة في البلدان العربيّة، وارتفاعِ دور الطبقةِ العسكريَّة والجنرالاتِ في صُنعِ القرارِ الإقليميّ، وترسيخِ دعائمِ الدَّولة التسلُّطيّةِ في الشرقِ الأوسط.
وتُظهِرُ مُتابعةُ التَّطوراتِ الإقليميَّة، وكذلك التَّدقيقُ في المَنطقِ الدَّاخليّ لتطوُّرِ ظاهرةِ الميليشيات، اقترابَ المِنطقةِ كثيرًا من نقطة اللّاعودة؛ حيثُ تُشارفُ على الانزلاقِ إلى وَضعيَّةٍ تكون فيها هذه الظَّاهرة واقِعًا مُترسّخًا، لا يُمكِنُ اجتثاثُهُ من دون الإطاحةِ بالنُّظُمِ السّياسيَّة والاجتماعيّةِ والاقتصاديَّة القائمةِ، والمتُشكِّلة مِن حولِه؛ ما يَعني أيضًا استفحالَ حالة “التَّصحُّرِ الاقتصاديِّ، والتَّنمويِّ” التي ترتبطُ بدورها ارتباطًا جوهريًّا بظاهرةِ الميليشياتِ، كما سيُبيَّنُ في هذه الدراسةِ.
المسارات المستقبلية للظاهرة
التفكير في الآخَرِ باعتبارِهِ خَطرًا وجوديًّا لدى بعضِ الأطرافِ الدوليّةِ، وتحديدًا إيران وإسرائيل، هو الذي عزّزَ دعائمَ الميليشياتِ
يجادل المؤلفون بأن المقارباتِ التي جرت على مدارِ أكثرَ من عقدٍ مضى لظاهرة الميليشيات تجاهلت إلى حدٍّ كبيرٍ كونَ هذه الظاهرة الشبكيَّة شهدت تحوّلًا بُنيويًّا مؤثّرًا على طبيعة “مؤسَّسة الدَّولة” في الشرق الأوسط وعلى طبيعةِ المساراتِ الاقتصاديَّةِ في بؤرةٍ تطمحُ إلى لَعِبِ دورٍ فاعل في العالم الاقتصاديّ القادم.
ونتيجة تحوُّل الميليشياتِ من مجردِ ظاهرة عَرَضيةٍ هامشيّة إلى ظاهرة مُستفحلة، باتَ المَعنيّون بها أمامَ وضعٍ مختلِفٍ تمامًا؛ ما كشفَ المنطقةَ أمامَ عدّةِ سيناريوهات يرتبط كلٌّ منها بمدى توسّعِ/انحسارِ هذه الظاهرةِ. إذ لا يَقتصر تأثيرُ الميليشيات على المجالِ السياسيّ والواقع العسكري، وإنّما يتجاوزهما ليتضمّن الأصعدةِ الاقتصاديَّةِ والثقافيّةِ والدينيّة؛ بل وحتى على صعيد المناخ.
ويستعرض الكتاب السيناريوهات العامة التي تنتظر المنطقة في ظل التفاعلات القائمة بين مختلف مستويات الفعل السياسي الإقليمي. وهذه السيناريوهات موزَّعةٌ على ثلاثة أنواعٍ عامّة هي: “سيناريو الاستمرار” الذي يفترض استمرار استفحالِ ظاهرة الميليشيات وتوسّعها، و”سيناريو التَّجميد” الذي يفترض توقُّفَ ظاهرةِ الميليشيات عند الحدود الشّيعيَّة، وفشل إيران في توسيعها إلى خارج الحدود الجغرافية التي تُشكِّل فيها الجالياتُ الشّيعيَّةُ قاعدةً اجتماعيَّةً واسعةً. وأخيرًا “سيناريو الانحسار” حيث يتوقّع أن تشهدَ ظاهرة الميليشيات انحسارًا في بعض الدول التي تستضيفها مقابل تعزيز مكانة مؤسسة الدَّولة.
ولم يُرجح المؤلفون أيُّ سيناريو من هذه السيناريوهات الثلاثة -رغم أنَّ التطورات الميدانيّة ترجِّحُ بعضها- وإنما أوضحوا الشروط التي يرتبط بها احتمالُ تحقق كل سيناريو، مع التأكيدِ على أنَّ الفاعلَ الإنسانيَّ يمكنه أن يزيدَ من احتمالاتِ أيٍّ من السيناريوهات بالخطواتِ الميدانيَّة، ومن خلالِ التَّخطيطِ للقيامِ بإجراءاتٍ داعمةٍ أو احترازيَّة.
يعني ذلك أنَّ المشهدَ السياسيَّ الإقليميَّ والدَّوليَّ سيكون خلالَ المرحلةِ القادمةِ أمامَ “سيناريوهات عائمة” أو “سيناريوهات مطروحَة على الطاولة” لن يُرجِّحها شيءٌ سوى الإجراءاتِ التي تتّخذها الأطرافُ المختلفةُ لدعم سيناريو أو تَفاديه.
تمكين مؤسسة الدولة
التَّجربة التاريخيَّة أظهرت أنَّ الخللَ المنهجيَّ في التَّعاملِ الدَّولي مع ظاهرةِ الميليشيات العقائديَّةِ في المنطقةِ أدّى إلى فشلِ الجهودِ الأُمميَّةِ في التَّصدي لهذه الظاهرة
لعلّ أهمَّ توصياتِ الكتابِ هي الدعوة إلى “تمكينِ مؤسَّسةِ الدَّولة”؛ إذ يرى المؤلفون أنَّ العملَ على معالجة الدَّولة الهشَّة سيكونُ البوّابة الأساسيَّة لوقف مسارِ توسُّع شبكة “اللَّاعبين دون الدولة” في المستقبل، كما أنَّه الأداةَ الأجدى في سبيلِ عكسِ المسيرةِ، وتقليصِ نشاطِ الميليشياتِ في الدُّولِ التي تستضيف هذه الظاهرة في الوقت الراهن؛ على ألا يقتصر هذا التَّمكين على الدُّول التي تُعتبرُ عرضة لمسارِ توسّعِ نشاطِ الميليشيات فحسب، بل يتعين أن يتجاوزَ ذلك إلى تمكينِ مؤسَّسةِ الدَّولة في إيران نفسِها باعتبارها البؤرة الأساسيَّة لنشوء هذه الظاهرة. وعلى الصَّعيد السّياسيّ، يعني ذلك الدَّعوةَ إلى العملِ على بلورةِ اتفاقيات سياسيَّة وأَمْنيَّة وحدوديَّة شاملة لمعالجةِ الخلافات، وضمان إنشاء آليَّة سياسيَّة مُستدامة لفضِّ الخلافات.
ويعني تمكينِ مؤسَّسة الدَّولة على الصَّعيد الاقتصاديّ بذلَ الجهودِ لزيادةِ قدرةِ الدَّولة على إدارة المجتمعات، والقضاءِ على أزماتٍ مثلَ البطالةِ والتَّضخُّمِ والعَجْز.
ويستلزمُ هذا التمكين الاقتصاديُّ العملَ على زيادة الاستثمارات من أجل تحريك الاقتصادِ وخلقِ فرصِ العملِ سواءٌ في الدُّولِ المستهدفة التي تعاني من هشاشة الدَّولة أو في الدُّول التي تستضيف الميليشيات أو في إيران. كما يتمثَّل في العملِ على زيادةِ نسبةِ المشاريعِ الاقتصاديَّة المشتركة والاتفاقيَّاتِ الاقتصاديَّةِ الشاملةِ، وكلِّ الخطوات التي تضمن تحوُّل المنطقة إلى بؤرة اقتصاديَّة مترابطة على صعيد القرارات وعلى صعيد المصالح.
وعلى الصَّعيد الاقتصاديِّ أيضًا أثبتت الوقائعُ عدم جدوى العقوبات بصيغتها الراهنة في التَّصدي لظاهرة الميليشيات العقائديَّة إلَّا في حالات نادرة، حيث أثبتت أنَّها عملت على “هشاشة الدَّولة” وتنحيلها، ودَعَمت ظاهرةَ ازدواجيَّةِ القرارِ ونشوءِ اقتصادِ العالم السُّفليّ، لذلك فإنَّ هذا الكتابَ يدعو إلى “ترشيدِ العقوبات” وإعادةِ صياغتها بما يضمنُ تجفيفَ مناهلِ الاقتصادِ السُّفليّ الذي طوَّرته شبكةُ الميليشياتِ واعتاشت عليه، إضافَة إلى وضعِ خططٍ دقيقة للعقوباتِ لا تؤدي إلى هشاشةِ الدَّولة.
تمكينِ مؤسَّسة الدَّولة على الصَّعيد الاقتصاديّ يعني بذلَ الجهودِ لزيادةِ قدرةِ الدَّولة على إدارة المجتمعات
وفي مستوى أعمقَ من الفعلِ السياسيِّ تجب مقاربة ظاهرةَ الميليشياتِ من “مستوى عقائدي”، فهي نتاجُ مشروع يستخدمُ الدّافعَ العقائديَّ لتحريكِ الطاقاتِ البشريَّة، ويختارُ الانتماءات الأيديولوجية على حسابِ الدَّولة والانتماء الوطني. ورغم أنَّ ذلك يحتاجُ إلى جهدٍ كبيرٍ على الصَّعيدِ المعرفيّ فإنَّ ثمَّة خطوات يوصي بها الكتاب على هذا الصّعيد مثل إنشاءِ/دعمِ قيادات اجتماعيّة ودينيّة في المجتمعات الشّيعيّة بديلة عن تلك التي طالما تبنَّت وروَّجت لقراءةِ العقيدة الشّيعيَّة وفقَ رؤيةِ النظام الثوريّ في إيران.
وبينما تُظهر التَّطوُّرات الميدانيَّة، خاصّةً في العقد الفائت، أنَّ إيران توجَّهت نحو الانفتاحِ على الإسلامِ السياسيِّ السُّنِّيِّ، واستطاعت من خلال تغيير مسارِها من التَّشيُّع السياسيّ إلى الإسلام السياسيّ أن تبني علاقاتٍ تبعيَّةً مع أطرافٍ إسلاميَّة أُخرى على رأسها “الإخوان المسلمون”. واستنادًا إلى ذلك يوصي هذا الكتابُ بضرورةِ إعادةِ صياغةِ الإستراتيجيَّةِ العربيَّةِ حيال “الإخوانِ المسلمين”، بما يضمنُ وقف هذا التقارب بين الحركةِ وإيران، على أن يجري وضع تصوُّرات لإعادة تأهيل وإدماج العناصر غير الحركيّة من الإخوان المسلمين في مجتمعاتهم، بالتَّزامنِ مع العملِ على عزلِ المجالِ السياسيِّ عن العقيدةِ الإسلاميَّةِ.
وعلى صعيد المقاربات الدولية أظهرت التَّجربة التاريخيَّة أنَّ الخللَ المنهجيَّ في التَّعاملِ الدَّولي مع ظاهرةِ الميليشيات العقائديَّةِ في المنطقةِ أدّى إلى فشلِ الجهودِ الأُمميَّةِ في التَّصدي لهذه الظاهرة. وعانت المقاربة الدوليَّة لموضوع الميليشياتِ من مشكلةٍ التَّجزئة، وانطلقت من رؤيةٍ كلاسيكيَّة تعتبرها مجموعاتٍ مسلَّحة “مارقة” على غرارِ مجموعاتٍ سابقة برزت في القرنِ العشرين. واستنادًا إلى الوعيِ بذلك، يقترحُ الكتابُ التَّعامل مع الميليشيات باعتبارها حالةً سوسيولوجيَّة تُترجَمُ إلى ظاهرةٍ عسكريَّة منفلتة، كما تُترجم إلى ظاهرةٍ اقتصاديَّةِ. ويدعو الكتاب إلى تجاوزِ الرؤيةِ التجزيئيّةِ التي تتعاملُ مع ظاهرةِ الميليشياتِ في كلِّ بلدٍ باعتبارها ظاهرةً منعزلة؛ والتَّوصُّل إلى رؤيةٍ عامّة تؤكدُ النّظَرَ إلى شبكةِ الميليشياتِ الواسعةِ باعتبارِها ظاهرةً موحّدةً ومترابطة.
إنَّ التفكيرَ في الآخَرِ باعتبارِهِ خَطرًا وجوديًّا لدى بعضِ الأطرافِ الدوليّةِ، وتحديدًا إيران وإسرائيل، هو الذي عزّزَ دعائمَ الميليشياتِ. وذلكَ في سياقِ المواجهةِ القائمةِ على هذا الافتراضِ. واتّكأت شبكةَ الميليشياتِ على القضيةِ الفلسطينيةِ في تحصيلِ الشرعيّةِ والتوسّعِ. وبناء على ذلك يوصي الكتاب بالعملِ على إزالةِ هاجِسِ “الخَطر الوجوديّ” المهيمنِ على فكرِ كلٍّ من إيران وإسرائيل، والذي يجعل المعادلة بين الطرفين أقرب إلى الصفريّة، ويصعب معه التوصُّل إلى أي تسوية أو حل وسطيّ. وفي الوقت نفسه ينبغي التَّأكيدِ على حلِّ المشكلةِ الفلسطينيةِ التي تُعتبرُ ركيزةً من أَهمِّ ركائِزِ الخطابِ الميليشياويّ.