العالم على موعد مع سباق تسلح نووي جديد

واشنطن - قال الرئيس الأميركي جو بايدن في 2022 “للمرة الأولى منذ أزمة الصواريخ الكوبية، نواجه تهديدا مباشرا باستخدام أسلحة نووية… لم نواجه احتمال حدوث معركة هرمغدون (نهاية العالم) منذ كينيدي وأزمة الصواريخ الكوبية”.
وجاء هذا التحذير بعد أن قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي عانى من انتكاسات كبيرة في غزوه الشامل لأوكرانيا وأجبر على تجنيد مئات الآلاف من المدنيين لتعزيز الجيش، إن حكومته “ستستخدم كل الوسائل المتاحة” إذا تعرضت سلامة أراضي روسيا للتهديد.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يلمح فيها إلى إمكانية استخدام الأسلحة النووية فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا.
وأكد في خطاب ألقاه في 21 سبتمبر 2022 جدية تهديداته، معلنا عن تعبئة عسكرية جزئية. لكن المسؤولين الغربيين أشاروا إلى أنهم لم يروا أي استعدادات مادية لضربة نووية روسية، وإلى أن الأسلحة “ليست مفيدة لتحقيق أهداف عسكرية”.
وجاء في تقرير نشره موقع أويل برايس الأميركي نقلا عن إذاعة أوروبا الحرة أنه بينما يبدو توجيه ضربة نووية روسية إلى أوكرانيا غير مرجح، يستمر نمو خطر حدوث سباق تسلح نووي جديد.
إذا انتهت صلاحية معاهدة ستارت الجديدة دون استبدالها، ستصبح القوتان النوويتان الولايات المتحدة وروسيا دون قيود
وانسحبت روسيا والولايات المتحدة خلال السنوات الماضية من العديد من المعاهدات الرئيسية للحد من الأسلحة. ولكنها تظل ملتزمة بواحدة فقط، وهي معاهدة ستارت الجديدة التي لا تزال سارية المفعول ومن المقرر أن تنتهي في 2026. وتقول روسيا إن مشاركتها في المعاهدة، التي تحد من عدد الرؤوس الحربية النووية والقاذفات التي يمكن للدولتين الموقعتين نشرها، تبقى معلقة. لكنها وعدت بالالتزام بالقيود في الوقت الحالي.
وإذا انتهت صلاحية معاهدة ستارت الجديدة دون استبدالها، ستصبح القوتان النوويتان الرئيسيتان (لأول مرة منذ دخول معاهدة ستارت الأولى حيز التنفيذ قبل 30 سنة، في 1994) دون قيود على عدد الرؤوس الحربية النووية ووسائل نشرها.
وبدأت معاهدات الحد من الأسلحة النووية في التآكل في أوائل القرن الحالي، حين انسحبت الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية. وكانت هذه المعاهدة التي وُقّع عليها في 1972، من أولى المعاهدات (إلى جانب الاتفاقية المؤقتة التي نتجت عن محادثات الحد من الأسلحة الإستراتيجية الأولى) التي تحد من عدد الرؤوس الحربية المنشورة، وتهدف إلى تجنب سباق التسلح من خلال الحفاظ على التكافؤ بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
وصُمّمت معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية للقضاء على أحد أسباب حاجة الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي إلى ترسانة كبيرة. فمع قدرة محدودة فقط على إسقاط الصواريخ القادمة، ستكون الحاجة أقل لأعداد هائلة من الرؤوس الحربية.
وأعلنت روسيا أنها لن تلتزم بعد الآن بالحدود المتفق عليها في معاهدة ستارت الثانية فور انسحاب الولايات المتحدة، بعد أن قررت القوتان الالتزام بها على الرغم من أن المعاهدة لم تدخل حيز التنفيذ رسميا.
معاهدات الحد من الأسلحة النووية بدأت في التآكل في أوائل القرن الحالي، حين انسحبت الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية
وكانت معاهدة القوات النووية متوسطة المدى المعاهدة الثنائية الرئيسية التالية التي سقطت. وكانت قد حظرت الصواريخ التي تطلق من الأرض والتي يتراوح مداها بين 500 و5500 كيلومتر. واتهمت الولايات المتحدة روسيا بعدم الامتثال للمعاهدة، حيث وجدت إدارة أوباما أن صاروخ كروز الذي اختبرته روسيا في 2014 انتهك حدود نطاق الاتفاق. وأعلنت إدارة ترامب أنها ستنسحب من المعاهدة في أكتوبر 2018 فردت روسيا بالمثل.
وانخفض عدد الرؤوس الحربية من ذروة تزيد عن 60 ألف عند التوقيع على معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى في 1987 إلى أقل من 10 آلاف عند التوقيع على معاهدة ستارت الجديدة في 2011.
وأشارت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى عدم مشاركة الصين بالإضافة إلى انتهاكات روسيا المزعومة لمعاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، وإلى الحاجة إلى الاستعداد لصراع محتمل في جنوب المحيط الهادئ.
ويضع توسيع الصين ترسانتها النووية عقبة أمام المفاوضات النووية التي لم تكن موجودة خلال الحرب الباردة، عندما كانت الترسانات غير الأميركية والسوفييتية (والطموحات) صغيرة بما يكفي لتجاهلها.
وربطت الولايات المتحدة، في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، احتمالات التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع روسيا بفكرة أن الصين يجب أن تنضم إلى معاهدة ستارت الجديدة أو معاهدة نووية ثلاثية أخرى. ووجدت لجنة الكونغرس المعنية بالموقف الإستراتيجي للولايات المتحدة في 2023 أن واشنطن لن تكون قادرة بعد الآن على التعامل مع التهديد النووي الصيني على أساس أنه حالة أقل شمولا “للتهديد النووي الروسي”.
وأكد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن الصين تعمل على توسيع قدراتها النووية بشكل كبير، وربما تكون قد نشرت “عددا صغيرا من رؤوسها الحربية” في 2023. ومن المتوقع أن تستمر في زيادة قواتها خلال العقد المقبل، ويمكن أن تضاهي الأعداد الأميركية أو الروسية من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات المنشورة حينها، رغم أن عدد الرؤوس الحربية الإجمالي سيبقى أقل.
معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية صُمّمت للقضاء على أحد أسباب حاجة الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي إلى ترسانة كبيرة
ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان العالم سيشهد زيادة هائلة في عدد الرؤوس الحربية المخزنة والمنشورة إذا انتهت صلاحيات معاهدة ستارت الجديدة دون استبدالها. وقال داريل كيمبال، المدير التنفيذي لجمعية الحد من التسلح المناصرة لحظر انتشار الأسلحة النووية ومقرها واشنطن، إن للولايات المتحدة وروسيا طرق أكثر كفاءة لزيادة حجم ترساناتهما المنتشرة. وبعد انتهاء المعاهدة، “سيكون لكليهما القدرة على مضاعفة عدد الرؤوس الحربية المنشورة عن طريق “التحميل”، مما يعني زيادة عدد الرؤوس الحربية النووية الموجودة على أنظمة الإطلاق التي أمكن نشرها بالفعل”.
وذكر براناي فادي، المدير الأول لمجلس الأمن القومي الأميركي للحد من التسلح ونزع السلاح ومنع الانتشار، إنه في حين يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة للقيود المنصوص عليها في معاهدة ستارت الجديدة “لتختفي دون استبدال”، لا تحتاج البلاد “إلى زيادة قواتها النووية لتتناسب مع منافسيها أو تفوقهم”.
ومع قدرة الولايات المتحدة الحالية على توجيه ضربة ثانية، يصبح من المنطقي أن المزيد ليس بالضرورة أفضل. وقال كيمبال إن غواصة واحدة من بين ثمانٍ أو عشرٍ تحمل حوالي 100 رأس حربي، وهو ما يكفي “لمحو بلد كبير وقتل عشرات الملايين من الناس.
وعلى الرغم من استحالة شن القوات النووية المشتركة بين روسيا والصين ضربة أولى ناجحة (يمكنها أن تقضي على قدرة الولايات المتحدة على إحداث أضرار كارثية ردا على ذلك)، قد تتجه واشنطن نحو زيادة قواتها النووية.
وينص تقرير لجنة الموقف الإستراتيجي حول الاستعداد للتهديدات من 2027 حتى 2035 على أن القوة النووية الأميركية يجب أن تكون “إما أكبر في الحجم، أو مختلفة في التكوين، أو كليهما” إذا كان لها أن تواجه روسيا والصين التي يذكر التقرير أنهما “تسعيان إلى بناء قوة نووية على نطاق ووتيرة غير مسبوقة منذ سباق التسلح النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الذي انتهى في أواخر ثمانينيات القرن العشرين”.
توسيع الصين ترسانتها النووية يضع عقبة أمام المفاوضات النووية التي لم تكن موجودة خلال الحرب الباردة
ويوصي تقرير اللجنة بأن تسرع الولايات المتحدة لتحميل المزيد من الرؤوس الحربية على حاملاتها المنتشرة، ونشر قواتها النووية أو قاعدتها في مسرح آسيا والمحيط الهادئ، وزيادة الأعداد المخطط لها من القاذفات ذات القدرة النووية، والنظر في نشر حاملة صواريخ متحركة على الطرقات التي لا وجود لها اليوم في ترسانة الولايات المتحدة، والاستعداد لنشر صاروخ سنتينال الباليستي العابر للقارات في المستقبل في تكوين يحمل عددا من مركبات إعادة الدخول المتعددة المستهدفة المستقلة(يحمل كل صاروخ باليستي عابر للقارات من طراز مينتمان 3 اليوم رأسا حربيا واحدا فقط، نتيجة للقيود التي تفرضها معاهدة ستارت الجديدة).
وفي نفس الوقت، تضخ روسيا أيضا الموارد لتحديث ترسانتها، مع فشل اختبار حديث لنوع جديد من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات الثقيلة، آر إس-28 سارمات، على ما يبدو.
وكان صاروخ سارمات واحدا من ستة أسلحة كشف عنها بوتين في خطابه السنوي 2018، حيث أظهر فيديو رسوم متحركة صواريخ روسية تحلق نحو هدف يشبه فلوريدا. وقال محللان أميركيان مؤخرا إنهما عثرا على موقع نشر محتمل لواحدة من “الأسلحة الروسية التي لا تقهر” ذات القدرة النووية التي تحدث عنها بوتين في 2018، وهي بوريفيستنيك. كما أثارت روسيا شبح استئناف التجارب النووية وإعداد منشآت في جزيرة نوفايا زيمليا حيث أجرى الاتحاد السوفييتي اختبار تفجير أكبر قنبلة نووية على الإطلاق.
واقترح بوتين في 25 سبتمبر توسيع نطاق العقيدة النووية الروسية، مشيرا إلى أن الهجمات التي تشنها “دول غير نووية بمشاركة دولة نووية أو دعمها” يمكن أن تلاقي ردا نوويا.
وكانت تلك إشارة واضحة إلى أوكرانيا وداعميها الغربيين. وفي نفس اليوم، أطلقت الصين صاروخا باليستيا عابرا للقارات قادرا على حمل أسلحة نووية في المحيط الهادئ، وهو أول اختبار لها خارج أراضيها منذ أكثر من 40 سنة.
وإضافة إلى احتمال “تحميل” رؤوس حربية إلى حاملات الطائرات الحالية وتطوير أنظمة أسلحة جديدة، أعلنت الولايات المتحدة مؤخرا أنها ستنشر، في ألمانيا، صواريخ كروز غير نووية كانت محظورة في السابق بموجب معاهدة القوى النووية متوسطة المدى. ووعد بوتين بالرد بالمثل ورفع الوقف الاختياري لنشر الصواريخ متوسطة المدى الذي فرضه على نفسه.
وورد أن روسيا نشرت أسلحة نووية في بيلاروسيا، التي لم تستضفها منذ أوائل التسعينات.
ومع حدوث العديد من التغييرات في مواقف القوة الصاروخية النووية والتقليدية، ووصول العلاقات بين الغرب وروسيا والصين إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة، ومع إسراع المزيد من البلدان إلى بناء مخزونات كبيرة من الرؤوس الحربية، يمكن أن نعيش بالفعل بداية سباق التسلح النووي التالي.
وإذا لم تتفق القوى النووية على حدود جديدة، فقد يكون المستقبل محفوفا بالمخاطر مثلما كان الوضع قبل المعاهدات.