القوى الصاعدة في الشرق الأوسط تساهم في تشكيل عالم متعدد الأقطاب

الحفاظ على الاستقلال الإستراتيجي وتحقيق التوازن مع القوى العظمى من المعضلات الأساسية.
الثلاثاء 2024/09/24
للقوى المتوسطة مكانتها الخاصة في النظام الدولي

واشنطن – يمر النظام الدولي بفترة تحول جذري من عالم أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة إلى نظام متعدد الأقطاب أكثر تعقيدا وتطورا. ويتميز هذا التغيير بإنشاء العديد من مراكز القوة، تحمل كل منها تأثيرا على مختلف مجالات الحكم العالمي.

وترى الباحثة فريحة بتول في تقرير على موقع “مودرن دبلوماسي” الأميركي أنه بينما تركز المحادثات حول السياسة العالمية في الكثير من الأحيان على دور القوى العظمى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، تصبح القوى المتوسطة أكثر أهمية في تشكيل هذا المشهد المتغير ومتعدد الأقطاب.

وأصبحت للقوى المتوسطة مكانتها الخاصة في النظام الدولي بفضل دبلوماسيتها الاستباقية واقتصاداتها القوية وتأثيرها المعتدل. وهي تشارك في الحوكمة العالمية وتصممها، معتمدة استقلاليتها الإستراتيجية لتعزيز التعاون متعدد الأطراف، وتحقيق الاستقرار في العالم، وحل النزاعات.

القوى المتوسطة

الدول المتوسطة تتمتع بالقدرة على التأثير على الأحداث العالمية بطريقة تعزز الانسجام والتعاون والنمو المستدام

القوى المتوسطة هي دول تتمتع بنفوذ إقليمي كبير ووجود راسخ في الدبلوماسية الدولية. إلا أنها تفتقر في المقابل إلى قدرات استعراض القوة الشاملة للقوى العظمى. وكثيرا ما تدير هذه الدول اقتصادات يمكن اعتبارها متطورة جدا، وشبكات دبلوماسية معقدة، وقوة عسكرية كافية للتأثير على ديناميكيات الأمن الإقليمي. وتشمل هذه الدول جنوب أفريقيا والبرازيل وأستراليا وكوريا الجنوبية وكندا وتركيا.

وتتميز القوى المتوسطة باستقلاليتها الإستراتيجية من بين سمات أخرى. وكثيرا ما تتبع سياسات خارجية مستقلة تمثل مصالحها الوطنية وأولوياتها الإقليمية. وتختلف بهذا عن الدول الأصغر، التي قد تتبع القوى العظمى لأسباب أمنية واقتصادية. ويمكّنها استقلالها من ملء الفراغات التي خلقتها القوى العظمى ومن لعب دور المدافع والوسيط مع بناء تحالفات تغير الحوكمة العالمية.

وتشمل أهم إسهامات البلدان المتوسطة في النظام الدولي دعمها القوي لتعددية الأطراف. وترى جل هذه الدول أن المؤسسات متعددة الأطراف ضرورية للتعامل مع القضايا الدولية، مثل التدهور البيئي وعدم الاستقرار الاقتصادي والتهديدات الأمنية. وتشارك بنشاط في المنظمات الإقليمية وغالبا ما تكون في طليعة مبادرات دعم المنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والأمم المتحدة.

ولطالما كانت كندا مدافعة عن التعددية، والنهوض بمساعدات التنمية، وحقوق الإنسان، وحفظ السلام من خلال نفوذها الدبلوماسي. ويمكن اعتبار قيادتها في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام، ومشاركتها القوية في مجموعة الدول الصناعية السبع ومجموعة العشرين، ودعمها للاتفاقات البيئية الدولية مثل اتفاق باريس للمناخ، أمثلة رئيسية على تفاني البلد في تعددية الأطراف.

كما لعبت أستراليا دورا مهما في منطقة آسيا والمحيط الهادئ عبر النهوض بالأمن من خلال المنتدى الإقليمي لرابطة أمم جنوب شرق آسيا والتعاون الاقتصادي من خلال عضويتها في منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ.

وكثيرا ما اتبعت مبادرات دبلوماسية تهدف إلى تعزيز التكامل الاقتصادي والاستقرار الإقليمي، وهما عنصران أساسيان في أي نظام متوازن ومتعدد الأقطاب. كما تشكل القوى المتوسطة تحالفات وائتلافات مع دول أخرى تشاركها قيمها.

وتجسّد “ميكتا”، التي تتشكّل من المكسيك وإندونيسيا وكوريا الجنوبية وتركيا وأستراليا، مثالا بارزا على تحالف يجمع الدول المتوسطة التي تتعاون على مجموعة متنوعة من القضايا الدولية، من التنمية المستدامة إلى الحوكمة الاقتصادية. وتلعب المجموعة دورا حاسما في الحوكمة العالمية لكونها توازن بين تأثير الدول الأقوى من خلال تمثيل مصالح العديد من المناطق.

وتقدم الدول المتوسطة مساهمات كبيرة في الاقتصاد العالمي باعتبارها محفزات مهمة للتكامل الإقليمي والنمو الاقتصادي. وتشكل اتصالاتها التجارية ومشاركتها في سلاسل القيمة العالمية وتعزيز التعاون الإقليمي محاور التركيز الرئيسية لإستراتيجياتها الاقتصادية. وتستغل الدول المتوسطة نفوذها الاقتصادي للتأثير على القرارات الاقتصادية الدولية، وكثيرا ما تدفع إلى تأسيس أنظمة اقتصادية دولية تكون أكثر ليبرالية وشمولية.

وكوريا الجنوبية هي من أفضل الأمثلة على قوة متوسطة تعتمد ازدهارها الاقتصادي للتأثير على الأوضاع على مستوى عالمي. ويعد اقتصادها من أقوى الاقتصادات في آسيا وتُعتبر قوة رئيسية في التجارة الدولية بفضل التصنيع السريع والتطور التكنولوجي.

ولعبت بفضل مقعدها في مجموعة العشرين دورا أساسيا في التأثير على السياسة الاقتصادية الدولية، وخاصة تلك التي اعتُمدت في معالجة أزمة 2008 المالية. وتسلط قيادة كوريا الجنوبية في الاقتصاد الرقمي ومساهماتها في التنمية العالمية الضوء على أهمية البلاد في النظام العالمي متعدد الأقطاب. ومارست البرازيل نفوذا داخل أميركا الجنوبية وخارجها باستخدام مواردها المالية بطريقة مماثلة.

كثيرا ما تلعب القوى المتوسطة دور صانع السلام الناجح في النزاعات الدولية، مستغلة حيادها وفطنتها الدبلوماسية لتشجيع التواصل بين الأطراف المتنازعة

ودفعت العضوة البارزة في تحالف بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) إلى إجراء تغييرات في المؤسسات الاقتصادية الدولية التي تمثل احتياجات الدول النامية بشكل أفضل. ويعدّ تعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي، الذي أمكن تحقيقه بفضل قيادة البرازيل في السوق المشتركة لبلدان المخروط الجنوبي (ميركوسور)، من العوامل الرئيسية التي تضمن تحقيق أمن أميركا الجنوبية وازدهارها.

وأصبحت تركيا التي تتمركز بين أوروبا وآسيا قوة اقتصادية رئيسية في الشرق الأوسط. ويتميز الاقتصاد التركي بقطاع خدمات متطور وأساس صناعي متنوع، وهو ما عزز تأثير أنقرة الكبير على أمن الطاقة والتجارة الإقليمية. وأصبحت تركيا لاعبا مهما في النظام متعدد الأقطاب نتيجة لدبلوماسيتها الاقتصادية التي تشمل مشاركتها في مشاريع البنية التحتية والاتفاقيات التجارية الإقليمية.

وتدعم القوى المتوسطة الجهود الأمنية الإقليمية وحفظ السلام والوساطة في النزاعات رغم أنها قد لا تتمتع بنفس القوة العسكرية التي تحظى بها القوى العظمى. وكثيرا ما تكون الدول المتوسطة قوات لحفظ السلام في مناطقها، وتتجنب الحروب وتحافظ على الهدوء باعتماد قوتها العسكرية وعلاقاتها الدبلوماسية.

وتتمتع كندا مثلا بتاريخ طويل في دعم عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. ويحظى جيشها المحترف باحترام كبير في الأوساط الدولية، رغم أنه أقل حجما من جيوش القوى العظمى. واستفاد الشرق الأوسط والبلقان وأفريقيا من جهود حفظ السلام الكندية التي أبرزت أهمية القوى المتوسطة في الحفاظ على الاستقرار الدولي. كما احتلت أستراليا مكانة رائدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ في ما يتعلق بحفظ الأمن وتقديم المساعدات الإنسانية للدول المحيطة.

ويبرز تفاني أستراليا في تحقيق الاستقرار الإقليمي في مشاركتها في المحادثات الأمنية، مثل المنتدى الإقليمي لرابطة دول جنوب شرق آسيا، وعبر إسهاماتها في عمليات حفظ السلام في جزر سليمان وتيمور الشرقية. وتتعزز قدرة أستراليا على التأثير على الديناميكيات الأمنية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بعلاقاتها الإستراتيجية، وخاصة تلك التي تجمعها مع الولايات المتحدة واليابان.

ولعبت تركيا دورا مهما في التحديات الأمنية الإقليمية في الشرق الأوسط، وخاصة في الحرب السورية. وهي لاعبة رئيسية في الأمن الإقليمي بسبب قوتها العسكرية وموقعها المفيد. وتبرز استضافتها حاليا للملايين من اللاجئين السوريين جهودها الإنسانية. ويعتبر البلد اليوم لاعبا حاسما في هيكل الشرق الأوسط الأمني لعضويته في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتحالفاته مع دول إقليمية أخرى.

وكثيرا ما تلعب القوى المتوسطة دور صانع السلام الناجح في النزاعات الدولية، مستغلة حيادها وفطنتها الدبلوماسية لتشجيع التواصل بين الأطراف المتنازعة. ورسخت النرويج صورتها العالمية على هذا النحو بعد أن توسطت في نزاعات أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط. وأصبحت مثالا رئيسيا على الدور الخاص الذي يمكن أن تلعبه القوى المتوسطة في تسوية النزاعات الدولية بسبب أسلوب الوساطة الصبور والموثوق وطويل الأجل الذي يركز على الحلول.

التحديات والفرص

حح

تواجه القوى المتوسطة في النظام العالمي متعدد الأقطاب صعوبات مختلفة رغم مساهماتها الجديرة بالملاحظة. وتعدّ ضرورة الحفاظ على استقلالها الإستراتيجي وتحقيق التوازن مع القوى العظمى من بين معضلاتها الأساسية.

وكثيرا ما تجد الدول المتوسطة نفسها في أوضاع دبلوماسية صعبة يتعين عليها أن تحقق فيها التوازن بين المصالح المتضاربة التي تسعى الدول الأكثر قوة إلى ضمانها. فعلى كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، أن تحسن إدارة علاقاتها مع كل من الولايات المتحدة والصين بسبب الأهمية الإستراتيجية التي يحظى بها البلدان بالنسبة إلى أمنها ومصالحها الاقتصادية.

ويمثل الطابع الديناميكي للتحولات في القوة العالمية صعوبة أخرى. ويجب أن تتكيف القوى المتوسطة باستمرار لحماية أهميتها عندما تنشأ قوى جديدة وتتغير أنظمة الطاقة العالمية.

وهذا ما يتطلب استثمارات مستمرة في البراعة العسكرية والنمو الاقتصادي والشبكات الدبلوماسية. وبينما قد تتراجع بعض الدول الكبرى إلى الأحادية أو الثنائية، يجب أن تستمر القوى المتوسطة أيضا في تكريس نفسها للتعددية وبناء التحالفات. لكن هذه الصعوبات توفر أيضا للقوى المتوسطة فرصة لإظهار قوتها.

وهي مؤهلة للوساطة وبناء التحالفات ودعم التعددية التي تتطلبها تعقيدات النظام العالمي متعدد الأقطاب. ويمكن أن تساهم القوى المتوسطة في تطوير نظام دولي أكثر إنصافا وشمولية من خلال مواصلة تعزيز التعاون الاقتصادي والحوكمة العالمية والاستقرار الإقليمي.

وتتزايد أهمية دور القوى المتوسطة مع استمرار تحول النظام العالمي نحو التعددية. وتبقى هذه البلدان حيوية لاستقرار النظام الدولي وعمله السلس بفضل استقلالها الإستراتيجي وتفانيها في خدمة التعددية وقوتها الاقتصادية ومساهماتها في الأمن الدولي.

وتؤسس القوى المتوسطة التحالفات وتدعم الاستقرار وتتوسط حيثما أمكنها ذلك لضمان بث مصالح مجموعة واسعة من البلدان في الحوكمة العالمية. وتتمتع الدول المتوسطة بالقدرة على التأثير على الأحداث العالمية بطريقة تعزز الانسجام والتعاون والنمو المستدام في إطار النظام الدولي متعدد الأقطاب.

وترفع براعتها في المناورة في التضاريس الدبلوماسية المعقدة وتشكيل تحالفات إستراتيجية وتعزيز الحكم العالمي أهمية مشاركتها في النظام الدولي الديناميكي. وسيزداد تأثير القوى المتوسطة عندما يُصبح العالم متعدد الأقطاب، وهو ما يسلط الضوء أكثر على دورها الحاسم في تحديد مسار الشؤون العالمية.

6