غطاء ناعم يؤمّن التغلغل الروسي التدريجي في الثقافة السورية

روسيا تثبّت أقدامها بصورة غير تقليدية من خلال مأسسة الثقافة وتدريس اللغة الروسية في التعليم الحكومي السوري.
الاثنين 2024/09/16
الثقافة جزء من تركيز النفوذ

دمشق - مع اقتراب الذكرى التاسعة للتدخل العسكري الروسي في سوريا بحلول يوم 30 سبتمبر 2024، كشفت أرقام وزارة التربية السورية عن زيادة ملحوظة في أعداد الطلاب الدارسين للغة الروسية في المدارس السورية؛ إذ وصلت إلى 39500 طالب وطالبة من الصف السابع الأساسي حتى الثاني الثانوي.

وعلى مدار السنوات التسع الماضية من الوجود الروسي على الأراضي السورية منذ عام 2015، ارتكزت السياسة الروسية على نهج متوازي المسار؛ تمثل في إستراتيجيات القوة الذكية (Smart Power)، وهي مزيج من الإستراتيجيات المتبعة في القوتين الناعمة والصلبة (Soft and Hard Power) استطاعت روسيا من خلالها الجمع بين الوجود العسكري على الأراضي السورية عبر قاعدة حميميم الجوية، والوجود الثقافي من خلال تدريس اللغة والثقافة الروسيتين، وذلك لفتح آفاق جديدة من التغلغل والهيمنة الثقافية.

ويرى الباحث في دراسات السلام والصراع عمار ياسين في تقرير نشره مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة أنه من خلال تدخل روسيا عسكرياً في الحرب السورية لصالح نظام بشار الأسد حاولت تثبيت أقدامها بصورة متدرجة وغير تقليدية، من خلال مأسسة تدريس اللغة والثقافة الروسيتين في التعليم الحكومي السوري.

تغلغل ثقافي

◙ بدءا من 2015 شهدت الساحة السورية تزايداً ملحوظاً في دراسة اللغة والثقافة الروسيتين
◙ بدءا من 2015 شهدت الساحة السورية تزايداً ملحوظاً في دراسة اللغة والثقافة الروسيتين

منذ عام 2015 شهدت الساحة السورية تزايداً ملحوظاً في دراسة اللغة والثقافة الروسيتين، على المستويين الرسمي والشعبي، وانتشرت كلمات روسية مثل “بريفييت – مرحباً” و”كاك ديلا – كيف حالك”، و”سباسيبا – شكراً”، وغيرها. وبدأ تدريس اللغة الروسية في المناهج التعليمية السورية بصفة رسمية ابتداءً من عام 2015؛ حيث أصبحت لغة اختيارية ثانية من اللغات الأجنبية، إلى جانب الإنجليزية والفرنسية، في مرحلة التعليم الأساسي.

وكشفت أرقام وزارة التربية السورية عن زيادة ملحوظة في أعداد دارسي اللغة الروسية كلغة ثانية؛ إذ وصل عددهم في العام الجاري إلى نحو39500 طالب وطالبة، وذلك بعد أن كان عددهم عام 2020 نحو 24 ألف طالب وطالبة، ووصل في العام التالي إلى أكثر من 31 ألفاً، موزعين على 217 مدرسة في 12 محافظة، بكادر تدريسي يبلغ 190 معلماً لهذه اللغة.

وتسلمت وزارة التربية السورية في أغسطس الماضي حوالي 5 آلاف كتاب لمنهج تعليم اللغة الروسية للصف السابع الأساسي؛ وهو الكتاب الذي تم تأليفه من قِبل لجنة مشتركة من وزارتي التربية السورية والروسية ليتم تدريسه بشكل تجريبي في العام الدراسي الجديد في ست محافظات سورية، هي دمشق وحِمص وطرطوس واللاذقية والسويداء ودرعا.

وافتُتح قسم للغة الروسية في جامعة دمشق في العام الدراسي 2015. ومن ثمار التعاون المشترك بين وزارتي التربية الروسية والسورية في السنوات الماضية حصول ألف طالب وطالبة سوريين سنوياً على منح دراسية في جامعات روسية؛ ليصل عدد الدارسين السوريين في هذه الجامعات إلى 5 آلاف طالب وطالبة منذ عام 2019  حتى الآن، فضلاً عن افتتاح ستة صفوف دراسية في وزارة التربية السورية منذ عام 2020 لتعليم اللغة الروسية عن بُعد عبر شبكة الإنترنت.

عمار ياسين: روسيا حاولت تثبيت أقدامها في سوريا بكيفية متدرجة وغير تقليدية
عمار ياسين: روسيا حاولت تثبيت أقدامها في سوريا بكيفية متدرجة وغير تقليدية

وفي عام 2021، في ظل تبادل علمي استمر لأكثر من ثلاثة أعوام، أقامت جامعة البعث السورية بالتعاون مع جامعة موسكو التكنولوجية، أولمبياد اللغة الروسية، بمشاركة 200 طالب وطالبة من مدارس وجامعات سورية، ومن المعهد العالي للغات بحِمص، إضافة إلى خريجين آخرين. وفي عام 2022 أقام المركز الثقافي العربي في كفرسوسة بدمشق، بالتعاون مع المركز الثقافي الروسي، معرضاً للكتاب الروسي التعليمي والترفيهي، خُصص فيه جناح لكتب الطفل باللغة الروسية.

وجمعت مظاهر المد الثقافي الروسي بين العرض والطلب؛ أي عرض روسي متزايد لتدريس اللغة والثقافة الروسيتين في شكل تعاون رسمي حكومي متعدد الأشكال بين وزارة التربية الروسية ومثيلتها في سوريا، فضلاً عن تقديم منح طلابية سنوية في الجامعات الروسية وألوان مختلفة من الأنشطة والفعاليات الثقافية في الداخل السوري لاجتذاب أكبر قاعدة شعبية، كما في أولمبياد اللغة الروسية ومعرض كتاب الطفل باللغة الروسية. ومن ناحية أخرى كان هناك طلب سوري متزايد، في ظل إقبال الطلاب على دراسة اللغة والثقافة الروسيتين، والحصول على منح دراسية، إضافة إلى المحال التجارية التي باتت تكتب لافتاتها بالروسية نظراً للوجود الروسي الفعلي على الأرض.

ويمكن تقسيم دوافع دراسة اللغة والثقافة الروسيتين في سوريا إلى دوافع سياسية وعسكرية، وأخرى اقتصادية واجتماعية، وثالثة متعلقة بدوائر التنافس الإقليمي والدولي على سوريا. وفي عام 2015 تزامنت مشاركة القوات الروسية في الحرب السورية للدفاع عن نظام الأسد مع إقرار وزارة التربية السورية للروسية كلغة ثانية رسمياً ضمن اللغات الأجنبية في التعليم السوري؛ ومن ثم ربما سعى النظام السوري لتوفير دعم شعبي للروس على الأراضي السورية من خلال مأسسة تعليم اللغة الروسية في المدارس الحكومية، فضلاً عن رفع مستوى التعاون بين وزارتي التربية في البلدين، في سبيل التعرف أكثر على ثقافة الحليف العسكري الأول لدمشق.

وتُضاف إلى ما تقدم الحاجة الماسة منذ الأيام الأولى لوجود القوات الروسية على الأراضي السورية، لتعلُّم اللغة الروسية بين الفرقاء في سوريا من معسكري النظام والمعارضة، لاسيما المصطلحات الخاصة بسلاح الجو والعمليات الحربية أثناء اشتداد المواجهات، لأن القوات الروسية كانت حاضرة بقوة في تلك المواجهات؛ ومن ثم فإن تعلم اللغة الروسية كان هو السبيل الفعال لإحراز تقدم على الأرض واستكشاف الخطط والتحركات التي كانت موسكو طرفاً حاسماً فيها.

وفي ظل استمرار تداعيات الحرب السورية على الداخل هناك، ومن بينها تردي الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في العديد من المناطق، ازداد التوجه لصالح تعلم اللغة الروسية على أمل الحصول على منحة دراسية والسفر إلى روسيا باعتبار أنها تضع الأولوية للأشخاص الذين درسوا اللغة الروسية. وفي السنوات القليلة الماضية كانت هناك مشروعات اقتصادية روسية واسعة النطاق في سوريا؛ خاصة في مجال البنية التحتية وإعادة الإعمار، كما في إعادة بناء ميناء طرطوس، وتحديث مصنع إنتاج الأسمدة في حِمص، وترميم العديد من حقول النفط والغاز، فضلاً عن توقيع 40 اتفاقية خلال اجتماع الرئيسين فلاديمير بوتين وبشار الأسد في مارس 2023؛ استهدفت قطاعات محورية تشمل الطاقة والكهرباء والنفط والبنية التحتية والإسكان والتنمية الصناعية. وهي مشروعات تتطلب في مجموعها وجوداً روسياً، تستمر معه الحاجة إلى دراسة اللغة والثقافة الروسيتين، خاصة أن مثل هذه المشروعات طويلة الأمد.

◙ أحد دوافع لجوء روسيا إلى نهج يجمع بين الجانبين العسكري والثقافي، هو بيئة التنافس الإقليمي والدولي على سوريا

وعلاوة على ما سبق فإن روسيا إذا ما قورنت بالمنافسين الإقليميين في سوريا (أي إيران وتركيا)، ستكون كفتها راجحة، فهي لا تكترث بالبُعد الديني أو المذهبي خلافاً لطهران، ولا توجد بينها وبين سوريا قضايا عالقة مثل أنقرة؛ لذلك كان من بين العوامل المساعدة على تزايد الطلب على اللغة والثقافة الروسية كونها غير متعلقة إلا بالمصالح الروسية – السورية، فلا يدخل فيها البُعد الخاص بقضية الكُرد كما بالنسبة إلى تركيا، ولا بالمد الشيعي كما بالنسبة إلى إيران؛ ومن ثم كان للتقارب الثقافي الروسي – السوري ما يبرره ليس فقط حيال الداخل السوري، ولكن أيضا تجاه رغبة بعض الشباب السوريين في الحصول على منح دراسية والسفر إلى روسيا، وربما منها إلى أوروبا.

ولعل أحد دوافع لجوء روسيا إلى نهج يجمع بين الجانبين العسكري والثقافي، هو بيئة التنافس الإقليمي والدولي على سوريا، ليس فقط مع خصومها الدوليين مثل الولايات المتحدة والغرب بصفة عامة، ولكن كذلك مع منافسين في المنطقة مثل إيران وتركيا. واكتسبت روسيا، من خلال تجربتها في سوريا، المزيد من الدروس المستفادة في ظل تجربة طويلة الأمد، ومن أبرزها القدرة على إدارة المشهد بإحكام من خلال اتخاذ قرارات سريعة ولكن غير متعجلة، وأن تكون بيدها ضربة البداية؛ وهو ما حاولت كل من إيران وتركيا استنساخه من خلال تقديم دراسة اللغة والثقافة التركيتين والفارسيتين للسوريين، جنباً إلى جنب مع وجودهما العسكري، كما تفعل روسيا، غير أن الكفة ظلت راجحة لصالح موسكو في هذه الحالة. ومن ثم رأت روسيا أن توسيع نطاق دراسة لغتها وثقافتها في سوريا سيساعدها على التغلغل أكثر في هذا البلد؛ بحيث تستطيع من خلال ذلك تقديم نفسها لسوريا الرسمية والشعبية باعتبارها الشريك الأكثر تكاملاً على الساحة.

وثمة دوافع روسية متعلقة بإعادة توظيف مواردها وتقليل نفقاتها العسكرية الخارجية مع استمرار وجود قواتها في سوريا؛ بسبب حربها الجارية في أوكرانيا. وهو ما قد يكفله لها المد الثقافي بانتشار دراسة اللغة والثقافة الروسيتين في سوريا؛ إذ أصبحت الحرب في أوكرانيا هي الشاغل الأول لروسيا، الأمر الذي جعلها تُقدم على خفض قواتها في سوريا وتنسحب من أراضٍ كانت تسيطر عليها في اللاذقية، إلا أنها في المقابل لا تزال تعتبر وجودها في سوريا مهماً كورقة مُساومة في محادثاتها مع الغرب.

انعكاسات مختلفة

◙ تقارب له تداعيات عديدة
◙ تقارب له تداعيات عديدة

على الرغم من أن التقارب الثقافي بين روسيا وسوريا في السنوات التسع الماضية أتاح المزيد من الفرص التعليمية داخل وخارج سوريا فإن هذا التقارب له تداعيات عديدة ليس فقط على مستقبل الوجود الروسي على الأراضي السورية، ولكن ربما أيضاً على الحضور الإيراني والتركي هناك.

ويربط التقارب الثقافي بين البلدين بتوفير غطاء شعبي لوجود روسيا العسكري وبإمكانية توسيعه مستقبلاً. والدليل على ذلك هو ترحيب الرئيس الأسد في لقائه مع بوتين في مارس 2023 بإنشاء روسيا المزيد من القواعد العسكرية على الأراضي السورية إذا أرادت ذلك؛ وهو ما يمكن أن يتيح لموسكو المجال للمزيد من التغلغل إذا استطاعت حسم معركتها الطويلة في أوكرانيا، ومن ثم حاولت إعادة تموضع قواتها من جديد في سوريا.

وتوجد روسيا حالياً، إلى جانب قاعدتها الجوية في حميميم، في ميناء طرطوس البحري، فضلاً عن إعلان وزارة الدفاع الروسية العام الماضي إعادة تشغيل قاعدة الجراح الجوية العسكرية شمالي سوريا لاستخدامها بصورة مشتركة. وما يُحرك بقاء أو تقليص روسيا قواتها في سوريا هو ما يجري في الحرب الأوكرانية؛ إذ انسحبت القوات الروسية من مناطق نفوذ لها في اللاذقية بعد تدخلها العسكري في أوكرانيا، الأمر الذي فسح المجال لقوات أخرى تابعة لإيران للسيطرة على تلك المناطق. وربما يُعزى ما قامت به موسكو في هذه الحالة، من ضمن أسباب أخرى، إلى الركون لرصيد التقارب الثقافي مع سوريا والآخذ في التزايد.

◙ التقارب الثقافي بين البلدين عادة ما يربط بتوفير غطاء شعبي لوجود روسيا العسكري وبإمكانية توسيعه مستقبلا

وقد تقابل كل زيادة في دراسة اللغة والثقافة الروسيتين ممانعة سورية في إحراز أي تقدم في دراسة اللغة والثقافة الفارسيتين. وذلك لاعتبارات عديدة يأتي على رأسها تذمر الأهالي وقلقهم من نشر التشيَّع؛ إذ إن البُعد الثقافي في علاقة إيران بسوريا لا يخلو من طابع ديني مذهبي. ففي السنوات القليلة الماضية حاولت إيران السير على خطى روسيا وإدخال الفارسية إلى مناهج التعليم الحكومي السوري تنفيذاً لاتفاقية بين طهران ودمشق تتعلق بتبادل الخبرات في المجالات العلمية والتعليمية والتربوية. وفي عام 2021 تمكنت إيران من فرض تعليم الفارسية في المدارس الحكومية التي تقوم بترميمها وإعادة تشغيلها، فضلاً عن افتتاحها مراكز لتعليم الفارسية في جامعات دمشق والبعث في حِمص، وافتتاحها كذلك فروع عدد من الجامعات الإيرانية، مثل جامعة تربية مدرس وجامعة المصطفى وجامعة الفارابي وجامعة أزاد إسلامي. وأكثر ما يستعصي على إيران في هذه الحالة هو البديل الذي توفره روسيا بالنسبة إلى المد الثقافي في المدارس والجامعات السورية.

ولا تزال تركيا غير قادرة على إحراز تقدم في استغلال البُعد الثقافي في سوريا، على عكس ما فعلته روسيا منذ تدخلها هناك عام 2015. وتوجد في تركيا جالية سورية تزيد عن ثلاثة ملايين شخص، وقد لا يُنظر إلى تقاربها الثقافي باعتباره تهديداً للسلم الأهلي في سوريا كما هو الحال مع إيران، غير أن التقارب الثقافي الآخذ في التزايد بين روسيا وسوريا يمكنه وضع تركيا في مأزق، في ظل عدم قدرتها على استنساخ التجربة الروسية أو الإيرانية في سوريا.

ويمثل تدريس اللغة والثقافة الروسيتين في سوريا أداة تغلغل وهيمنة لموسكو على المدى المتوسط والبعيد؛ خاصة أن تداعيات الحرب السورية تجعل النظام يبحث أولاً عن الاستقرار وعدم التقهقر إلى الخلف. كما قد يجد النظام السوري في المد الثقافي الروسي فرصة مواتية لتعميق العلاقات مع حليفه العسكري الأول، ومن الناحية الشعبية أيضاً يرى العديد من السوريين في تعلم اللغة والثقافة الروسيتين خياراً براغماتيا لتحسين أوضاعهم الاقتصادية من خلال إمكانية إيجاد فرص عمل لهم في الداخل أو الحصول على منح تعليمية خارجية تفتح أمامهم باب الانتقال للعيش في روسيا ومنها التحول إلى أي دولة من الدول الأوروبية.

6