مشروع الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني يتهدده الانفصاليون البلوش

إسلام أباد - شهد إقليم بلوشستان في جنوب غربي باكستان، خلال الآونة الأخيرة، سلسلة من الهجمات وأعمال العنف التي خططت ونسقت لها القوات الانفصالية من عرقية البلوش، واستهدفت عدداً من الأهداف المدنية والعسكرية، وأسفرت عن مصرع ما يزيد عن 70 شخصاً.
كما سبقت هذه الهجمات سلسلة أخرى استهدفت المؤسسات الصينية والعمّال الصينيين في بلوشستان. وهي الهجمات التي أدانتها كل من الصين وباكستان؛ ولاسيما في ظل اشتراك الدولتين في مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، الذي يمر عبر الإقليم. وهو ما يطرح التساؤلات بشأن مدى تأثير الهجمات التي تستهدف المواطنين الصينيين في المشروع، الذي يبلغ إجمالي استثماراته 60 مليار دولار.
وجاء في تقرير نشره مركز الأبحاث والدراسات المتقدمة أن الهجمات الأخيرة في إقليم بلوشستان تُعد أحدث مؤشرات الاضطراب والتأزم الذي يشوب البيئة الأمنية في باكستان، خلال السنوات القليلة الماضية.
وتعرضت باكستان خلال الفترة الماضية إلى عدد كبير من الهجمات الإرهابية وأعمال العنف التي نفّذتها الجماعات الانفصالية المُسلحة؛ ولاسيما منذ استيلاء حركة طالبان على السلطة في أفغانستان المجاورة في عام 2021، وتركزت هذه الهجمات في إقليمي خيبر باختونخوا وبلوشستان.
وتُشير إحصاءات إلى قيام المسلحين البلوش بتنفيذ 110 هجمات في عام 2023. فيما قامت الجماعات الانفصالية المسلحة بشن 62 هجوماً خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024؛ استهدفت سلطات إنفاذ القانون والبنية التحتية والمدنيين. كما شهدت باكستان خلال عام 2023، ما يزيد عن 650 هجوماً، جرى 23 في المئة منها في إقليم بلوشستان، وأسفرت عن مقتل 286 شخصاً في الإقليم.
عدم يقين بشأن مُستقبل مشروع الممر من حيث مدى استمراره أو تعطله مؤقتاً، أو توقفه على المدى الطويل
وتعكس الهجمات الأخيرة، التي أعلنت جماعة جيش تحرير بلوشستان مسؤوليتها عنها، تنامياً ملحوظاً في قدراتها وإمكاناتها؛ ولاسيما من حيث ارتفاع مستوى التنسيق والتخطيط مُقارنةً بالهجمات السابقة.
وقد أرجعت تقارير إعلامية غربية التزايد الكبير في الهجمات إلى نجاح المنظمات الانفصالية المسلحة في تجنيد وجذب المزيد من الأعضاء، في ظل حرمان البلوش من التمثيل السياسي بعد خسارة الأحزاب السياسية البلوشية، التي شكلت أغلب الحكومات الإقليمية في الماضي، السلطة في الانتخابات الأخيرة التي جرت في فبراير الماضي.
ويتعرض المواطنون الصينيون العاملون في المشروعات الصينية في باكستان إلى الاستهداف بين فترة وأخرى، وذلك من جانب تنظيم «داعش خراسان» الذي يستهدف المصالح الصينية في باكستان، وكذلك من الجماعات الانفصالية البلوشية في جنوب باكستان، والتي تشارك في تمرد رئيسي في بلوشستان؛ إذ استهدفت الهجمات، التي أسفرت عن مصرع العديد من الصينيين، ميناء جوادر في إقليم بلوشستان، الذي تم تأسيسه بمساعدة الصين، وكذلك مهندسين صينيين يعملون في مشروع للطاقة الكهرومائية تموله الصين في شمالي البلاد، بالقرب من مدينة بيشام.
وتتحمل الجماعات الانفصالية المسلحة في إقليم بلوشستان، وخاصة لواء مجيد التابع لجماعة جيش تحرير بلوشستان، المسؤولية عن الهجمات التي استهدفت المصالح الصينية في باكستان منذ عام 2018، ومنها الهجوم على القنصلية الصينية في كراتشي، في ذات العام، والهجوم على فندق بيرل كونتيننتال في جوادر، الذي غالباً ما يزوره المواطنون الصينيون، ومعهد كونفوشيوس في جامعة كراتشي، في عام 2022.
وتستثمر الصين أكثر من 60 مليار دولار في مشروعات الطاقة والبنية التحتية في باكستان كجزء من الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، وهو جزء رئيسي من مبادرة الحزام والطريق الصينية، ويهدف المشروع إلى ربط الصين ببحر العرب ومساعدة باكستان على توسيع وتحديث اقتصادها، من خلال شبكة من الطرق والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب والموانئ التي تم بناؤها بقروض صينية، ومن أبرز هذه المشروعات ميناء جوادر في بلوشستان.
دوافع متباينة
الهجمات الأخيرة التي أعلنت جماعة جيش تحرير بلوشستان مسؤوليتها عنها تعكس تنامياً ملحوظاً في قدراتها وإمكاناتها
لا تستهدف هجمات جماعة جيش تحرير بلوشستان الأهداف العسكرية والمدنية الباكستانية فحسب، وإنما تستهدف أيضاً المؤسسات والاستثمارات الصينية في إقليم بلوشستان، ومن بينها ميناء إستراتيجي ومنجم ذهب ونحاس. وهناك العديد من الأسباب والاعتبارات التي تدفع الانفصاليين البلوش إلى توجيه هجماتهم ضد المصالح الصينية في باكستان.
وعلى الرغم من أن إقليم بلوشستان يُشكل ما يزيد عن 40 في المئة من مساحة الأراضي الباكستانية، بجانب احتوائه على موارد طبيعية ومعدنية، فإن سكان الإقليم من عرقية البلوش يعانون من التهميش والفقر، ولا يحصلون على حصة عادلة من الثروات. ومما فاقم استياء السكان المحليين، تدفق الأموال إلى المنطقة عبر مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، الذي يُعد جزءاً أساسياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، إذ يعتبرون أن هذا المشروع لم يحقق لهم سوى مكاسب قليلة، في حين ذهبت معظم الوظائف الجديدة إلى أفراد من عرقيات وأقاليم أخرى، وهو ما دفع الجماعات الانفصالية المسلحة في السنوات الأخيرة ليس فقط إلى استهداف مشروعات التنمية الصينية في الإقليم وإنما أيضاً اتهام بكين بمساعدة إسلام آباد في استغلال الإقليم.
ويطالب البلوش الباكستانيون بالمزيد من الحكم الذاتي على الصعيد السياسي وبتقاسم أفضل لموارد الإقليم الغني بالغاز الطبيعي، إذ تُعد جماعة جيش تحرير بلوشستان إحدى الجماعات المتمردة التي تطالب باستقلال الإقليم عن الحكومة المركزية في إسلام آباد.
ويحاول المتشددون البلوش أيضاً التأثير في علاقات الحكومة الباكستانية مع الصين. ولعل ذلك ما يُفسر تصريحات رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف بأن الهجمات تهدف إلى التأثير في العلاقات بين إسلام آباد وبكين، إذ عبرت الصين بشكل متكرر عن قلقها إزاء أمن مواطنيها الذين يعملون في مشروعات داخل باكستان وخصوصاً في بلوشستان.
وتضمنت الخطة الرئيسية لتطوير ميناء جوادر، التي تمت الموافقة عليها في عام 2006، وعوداً بتنمية إقليم بلوشستان من خلال تدفق النفط والمنتجات البترولية الأخرى. فقد كان أحد الأهداف الرئيسية للممر الاقتصادي الصيني الباكستاني هو مساعدة السكان المحليين في جوادر وإخراجهم من دائرة الفقر. وذلك في ضوء حاجتهم إلى وظائف وفرص اقتصادية للاستفادة من مشروعات الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.
ومع ذلك، فقد تم استبعاد السكان المحليين من خطط تطوير الميناء. وعلى الرغم من إنشاء عدد قليل من الطرق في منطقة جوادر بعد إطلاق الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، فإنه لم يطرأ أي تحسن على الظروف الاجتماعية والاقتصادية للسكان المحليين، وهو ما يجعل الجماعات المتمردة البلوشية التي تستهدف هجماتها العنيفة من حين لآخر الاستثمارات المدعومة من الصين والمهندسين الصينيين، تنظر إلى بكين باعتبارها شريكة إسلام آباد في استغلال الموارد المحلية.
سيناريوهات مستقبلية

تطرح الهجمات الأخيرة في إقليم بلوشستان حالة من عدم اليقين بشأن مُستقبل مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني؛ من حيث مدى استمراره أو على الأقل تعطله مؤقتاً، أو توقفه على المدى الطويل؛ وهو ما يرتبط في مجمله بطبيعة الأوضاع الأمنية في باكستان عامة وبلوشستان خاصة، باعتبارها أحد التحديات الرئيسية التي تواجه المشروع، وكذلك موقف الصين إزاء المشروع الذي يمثل أهمية كبرى لها في إطار مبادرة الحزام والطريق، ما يطرح سيناريوهين .
ويفترض السيناريو الأول أن الهجمات الإرهابية الأخيرة التي شهدها إقليم بلوشستان سوف تؤثر في المشروع، وقد تؤدي إلى تعطيله بشكل مؤقت. ولعل ما يفسر ذلك تصريحات رئيس الوزراء الباكستاني، شهباز شريف، بأن الهجمات تهدف إلى تعطيل المشروعات التنموية للممر الاقتصادي الصيني الباكستاني؛ ومما يدعم حدوث هذا السيناريو أن هذه الهجمات سيترتب عنها افتقار الإقليم إلى الأمن والاستقرار؛ وهو ما يعني تعطلا أو توقفا جزئيا لبعض المشروعات الجاري تنفيذها في إطار المرحلة الثانية من الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، التي تم إطلاقها رسمياً في يونيو 2024، باعتبار أن توافر الأمن يُعد أحد العوامل الأساسية لعملية التنمية الاقتصادية في أي دولة.
وأما السيناريو الثاني فيفترض استمرار المشروع طبقاً للخطط الموضوعة، وعدم تأثره بأحداث العنف في إقليم بلوشستان؛ ومما يدعم هذا السيناريو الالتزام الذي تبديه كل من الصين وباكستان بشأن تعزيز الممر الاقتصادي بين البلدين، وتعهُّد الجانبين بمواصلة تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب والأمن، فضلاً عن التزامهما بتحديث المشروع في خمسة قطاعات؛ بما في ذلك تعزيز سبل العيش والابتكار.
ويظل السيناريو الأقرب إلى التحقق هو استمرار المشروع، في ظل وجود رغبة قوية لدى الدولتين في استمراره، في ضوء أهميته الكبرى لاقتصاديهما؛ وهو ما يتطلب منهما ضرورة العمل على تبني إجراءات وخطوات متناسقة متعددة الأبعاد، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً؛ لجعله خياراً جاذباً يؤدي إلى تحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية لعرقية البلوش؛ ومن ثم تحييد التهديدات الأمنية التي تستهدف المشروع.
ومع ذلك؛ فإن الأمر ليس بهذه السهولة، في ظل وجود رغبة من جانب الجماعات الانفصالية المسلحة في إقليم بلوشستان، وعلى رأسها جماعة جيش تحرير بلوشستان، في إعاقة وعرقلة الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، باعتبار أن التعاون بين باكستان والصين لم ينجح في تحقيق مكاسب للإقليم، وهو ما دفع هذه الجماعات إلى استهداف مرافق الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، والموظفين الصينيين عبر الهجمات الإرهابية.