خطاب الاستمرارية يعصف بآمال التغيير في الجزائر

 السلطة في الجزائر تستجمع قواها وترتب أوراقها وتجدد نفسها بهدوء.
السبت 2024/09/07
على نهج السابقين

الجزائر - لما انفجر الشارع الجزائري في فبراير 2019 كانت آماله كبيرة في تحقيق تغيير جذري في نظام الحكم، بشكل يعيد الحرية والكلمة للشعب، لكن بعد خمس سنوات ها هي السلطة تستجمع قواها وترتب أوراقها وتجدد نفسها بهدوء، وصارت “ثورة الابتسامة” شيئا من الماضي، حتى وإن مات معها الأمل في التغيير، وعادت قوارب الهجرة السرية إلى النشاط، بعدما توقفت عند الانتفاضة لأنها لامست آنذاك آمال التغيير وعودة الثقة إلى النفوس.

وتجري انتخابات الرئاسة الجزائرية، لأول مرة منذ عدة عقود دون أيّ مثبط أو منغص، بعدما أعدت لها السلطة كل شروط التنظيم والسريان، بعيدا عن الفوضى والاحتجاج، فأخلقة الحياة السياسية وحماية مؤسسات الدولة كانت إحدى تعهدات الرئيس عبدالمجيد تبون في ولايته الأولى، والآن تتجلى في سياج متين تحيط به الاستحقاق من أيّ شائبة أو محاولة تعكير.

وعكس الاستحقاقات الماضية، لما كانت العمليات الانتخابية برمتها تمنع تماما ويجري تخريب وسائلها كشكل من أشكال الاحتجاج، خاصة في منطقة القبائل المعروفة بمعارضتها للسلطة، فإنه لا شيء يوحي بأن الانتخابات يتم تعكير أجوائها في منطقة القبائل أو في غيرها، لأن الآلة الأمنية تترصد كل يد تطال الانتخابات، بما في ذلك تلك التي تلمس صور المرشحين في ألواح الدعاية.

الانتخابات في العادة فرصة لحل المشاكل والأزمات ولعرض المشاريع على الناخبين، بدل أن تكون مصنعا لإنتاجها

ولما تقدمت جبهة القوى الاشتراكية بترشيح أمينها الأول يوسف أوشيش، كانت معالم الصفقة واضحة رغم عدم الكشف عنها، بين السلطة وبين أعتى أحزاب المعارضة في البلاد، فالمرشح الشاب وإن كان طموحه لا يرقى إلى مستوى قصر المرادية، فإن الرغبة في خوض التجربة وتثبيت أقدامه داخل الحزب وخارجه، كفيل بأن يكون له صدى لدى السلطة الباحثة عن شريك جديد في منطقة القبائل يضمن لها العودة إلى هناك بعد سنوات من القطيعة.

وخلال آخر تجمع شعبي نظمه الرئيس المترشح عبدالمجيد تبون، في القاعة البيضوية بالعاصمة، ظهرت في الصورة مليكة معطوب، شقيقة المطرب السياسي القبائلي المعارض لوناس معطوب، الذي اغتيل في تسعينات القرن الماضي من طرف جماعة إسلامية مسلحة بحسب الرواية الرسمية، ومن طرف النظام السياسي بحسب مقربين منه، كما ظهر أحد أثرياء ورموز الحركة الثقافية البربرية عاشور شلول، في رسالة تترجم روابط جديدة يجري مدها بين وجوه المنطقة وبين مرشح النظام.

لكن السلطة التي فصلت أخلقة الحياة السياسية وحماية المؤسسات أطلقت العنان لآلة الأمن والملاحقات القضائية بشكل لافت، لدرجة أن الصوت المعارض أو المقاطع للاستحقاق جرى تكميمه تماما، ولم يعد الأمر مقتصرا على التغييب من وسائل الإعلام التقليدية، بل محظورا حتى في شبكات التواصل الاجتماعي وفي الأماكن العمومية.

ومنذ بداية العد التنازلي للاستحقاق بدأت الآلة الأمنية تحصد كل من يغرّد خارج السرب، فأوقف كريم طابو، أحد وجوه الحراك الشعبي ورئيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي الديمقراطي، ومنعه القضاء من التصريح لوسائل الاعلام أو النشر في شبكات التواصل الاجتماعي، واعتقل رئيس الحركة الديمقراطية الاجتماعية فتحي غراس وزوجته فتيحة لبالشة، كما لم يسلم الإسلامي علي بلحاج، وابنه عبدالفتاح من وضع الرقابة والسجن.

ومع بداية الاقتراع في مكاتب الجالية بالخارج، والمكاتب النائية في جنوب البلاد لم تسجل أيّ حادثة بإمكانها التأثير على سير العملية أو إثارة الانتباه، لكن رغم ذلك فإن سلوك النفور الانتخابي المكتوم لا أحد يعلم مخارجه، خاصة وأن معالم المرور القويّ للسلطة يمكن أن يتحول إلى تمرد انتخابي يزيد في نسبة المقاطعة كرد فعل على إفراط السلطة في كتم أصوات المعارضين لخطها السياسي.

السلطة التي تردد في خطابها القطع مع ممارسات الحقبة السابقة، لا تتوانى في الإفراط في إقصاء الصوت الآخر، رغم أن عملية البناء التي تزعمها تتطلب جميع الجزائريين، والرئيس القديم الجديد عبدالمجيد تبون، مهما كانت نتائجه وشرعيته ملزم بأن يكون رئيسا لجميع الجزائريين، ولا يمكنه الدفع بالبلاد في أيّ اتجاه منقوصا بجزء منه.

السلطة الجزائرية لا تتوانى في الإفراط في إقصاء الصوت الآخر، رغم أن عملية البناء التي تزعمها تتطلب جميع الجزائريين

ويبقى الرئيس تبون، والنخبة الحاكمة، هي المستفيد الأكبر من ثورة الشباب السلمية في 2019، فلولا الزحف الشعبي على المدن والساحات طيلة شهور كاملة، لما استطاع هو ومن معه الوصول إلى ما هم عليه الآن، خاصة وأن تجربة رئيس الوزراء في 2017، التي لم تدم إلا 80 يوما لا زالت ماثلة له وللجميع، لكن تبقى آمال التغيير هي الخاسر الأكبر في الجزائر، في ظل خطاب الاستمرار الذي قد يتحور بعد خمس سنوات إلى سيناريو الخلود في السلطة كما فعل الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة.

ونفدت السنوات الخمس الماضية، ونفدت معها فرص الاستماع إلى جميع الأصوات المكتومة، والآن خمس سنوات جديدة أمام تبون، ومعها فرصة متجددة ليكون رجل تحقيق آمال الثائرين في فبراير 2019، وتنفيذ خطة التغيير المنشود بدل الغرق أكثر في خطاب المؤامرة والعمالة والخيانة والإرهاب التي تلاحق كل من يرفض الأمر الواقع.

والانتخابات في العادة هي فرصة لحل المشاكل والأزمات ولعرض المشاريع السياسية على الناخبين، بدل أن تكون مصنعا لإنتاجها، لكن أن تكون نتيجة آلية لتوجه معين على حساب قطاع من الجزائريين لم يقتنع إلى حد الآن بقواعد اللعبة المقترحة من طرف السلطة، فذلك يستدعي الأخيرة إلى النزول من الشجرة لأن الجزائر للجميع ولا يمكن لأيّ كان الاستفراد بها لنفسه سواء كان في السلطة أو في المعارضة.

7