جهود تغيير قانون الأحوال الشخصية في العراق تكريس للطائفية

تبدو الأحزاب الشيعية الممثلة في البرلمان العراقي ماضية في تعديل قانون الأحوال الشخصية بما يكرس سطوتها المجتمعية وينعكس بذلك على قوة تواجدها السياسي رغم الانتقادات والمخاطر المحتملة المترتبة عن ذلك.
بغداد - تعكس الجهود المثيرة للجدل في العراق اليوم لتغيير قانون الأحوال الشخصية في البلاد ومنح المزيد من السلطة للطوائف الدينية كأساس لإعادة صياغة المجتمع العراقي، تآكلًا إضافيًا في سلطة الدولة، مع عواقب وخيمة محتملة من شأنها أن تزيد من تفتت العراق.
ويثير تعديل قانون الأحوال الشخصية الذي يعتزم البرلمان التصويت عليه المخاوف في المجتمع العراقي من أن يؤدي تعديل القانون إلى تقييد حقوق النساء والأطفال، خاصة فيما يتعلق بزواج القاصرات وحضانة الأطفال، مما يعيد المجتمع إلى ممارسات قديمة تعتبر غير عادلة.
ويلقى المشروع دعما قويًا من المكون الشيعي في البرلمان العراقي، بدعوى أنه يستند إلى المادة 41 من الدستور التي تمنح العراقيين حرية الالتزام فيما يتعلق بأحوالهم الشخصية، وفق الديانة أو المذهب أو المعتقد. وتتضمن التعديلات الجديدة للقانون إدخال الوقفين السني والشيعي في قضايا الخلع والتفريق، ما يعتبره رافضو القانون ترسيخاً للطائفية في إدارة الدولة والقضاء، وابتعاداً عن الدستور الذي ينص على مدنية الدولة العراقية.
كما تتجاهل التعديلات حالات رفض الزوجين عقد الزواج وفقاً للمدارس الفقهية السنية أو الشيعية، وهي ظاهرة متزايدة في المجتمع العراقي الذي يشهد زيجات مختلطة بين ديانات ومذاهب، بينما يمنح القانون المعمول به منذ عام 1959 القضاء المدني حق عقد القران والتفريق وفقاً للقانون وليس بحسب الطوائف أو الأديان.
وعلى مدار السنوات الأولى بعد عام 2003، كانت الجماعات الدينية الشيعية مشغولة في المقام الأول بتعزيز سلطتها والتنافس مع الجماعات السنية المسلحة، ومن بينها ما يسمى في وقت لاحق تنظيم الدولة الإسلامية. ولم تضع هذه الجماعات الأسلمة القانونية على رأس أولوياتها. وبدلاً من ذلك، اكتفت بنص دستوري غامض ينص على أن “الإسلام هو الدين الرسمي للدولة والمصدر الرئيسي للتشريع”، وأن القوانين لا ينبغي أن “تتعارض مع المبادئ الأساسية للإسلام” أو “مبادئ الديمقراطية”.
ولكن في السنوات الأخيرة، سعت الجماعات الإسلامية إلى إحياء المشاريع التي تهدف إلى “أسلمة القوانين”، إلى جانب الجهود الرامية إلى تأكيد نظرتها للعالم داخل المجتمع.
ويرى حارث حسن وهو زميل أول غير مقيم في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط أن نجاح الإطار التنسيقي ــ وهو مظلة لعدد من الفصائل الإسلامية الشيعية ــ لعب دورا في تشكيل الحكومة الجديدة، والهيمنة على البرلمان، وتعزيز نفوذه على الهيئات المستقلة مثل هيئة الإعلام والاتصالات، فضلاً عن القضاء، دوراً حاسماً في هذا التحول.
وقد يبدو هذا التحول في الأحداث طبيعياً نظراً لأن العراق شهد تاريخياً صراعات هوية مكثفة. فقد سعت معظم القوى التي هيمنت على السلطة السياسية إلى إعادة تشكيل هوية البلاد والفضاء العام لتعكس أيديولوجيتها ورؤيتها ورموزها. كما سعت إلى إرساء حدود واضحة بين ما هو مسموح به وما هو محظور ــ حدود لا تعكس بالضرورة مبدأ المساواة أمام القانون.
وعلى سبيل المثال، شرعت الفصائل الشيعية عطلة عامة جديدة، يوم الغدير، على الرغم من الخلافات العميقة بين السنة والشيعة حول أهمية هذا اليوم وعلاقته بقضية الخلافة الإسلامية. كما تصرفت الحكومة التي يسيطر عليها الإطار التنسيقي بشكل أكثر عدوانية ضد المنظمات غير الحكومية التابعة للدول الغربية، حيث أغلقت مكاتب بعضها ورفعت الغطاء القانوني عن البعض الآخر.
وقد رافق هذا حملة عدوانية شنتها الجماعات والناشطون التابعون للإطار التنسيقي ضد ما اعتبروه محاولات غربية لتغيير الثقافة الإسلامية في العراق و”تعزيز الانحلال الأخلاقي”. وأسفرت الحملة عن حظر مصطلح “الجنس” في الخطاب الرسمي والمناهج المدرسية وإقرار قانون يجرم المثلية الجنسية.
كما قيدت هيئة الإعلام والاتصالات بث بعض البرامج والمسلسلات التلفزيونية وحظرت معلقين إعلاميين محددين بسبب اعتراضات هيئة التنسيق أو رجال الدين الشيعة. لكنها لم تطبق قيودًا مماثلة على عضو في البرلمان أدلى بتصريحات مهينة حول الرموز الدينية السنية.
بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، كان بوسع الفصائل الشيعية أن تستقر على نهج للحكم يتناقض مع نهج تنظيم الدولة الإسلامية العنيف والمتطرف والإقصائي. ومع ذلك، أدى الجمع بين الانتصارية والتنافسات بين الشيعة، وخاصة بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري، إلى ظهور سياسات شعبوية طائفية مثيرة إلى حد كبير.
وأصبحت الحروب الثقافية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات أداة فعالة للفصائل في البلاد لتحقيق مكاسب سياسية زهيدة وتجنب مواجهة تحديات أكثر خطورة تتعلق بالاقتصاد والفساد والبطالة وغيرها من القضايا الاجتماعية والاقتصادية الملحة.
وقد توجت هذه الجهود مؤخراً بمحاولات إدخال تعديلات قانونية على قانون الأحوال الشخصية لعام 1959، والذي صدر في عهد حكومة الرئيس عبدالكريم قاسم. وكان القانون نتاج عملية طويلة بدأت في عهد الملكية لصياغة قانون شامل للأسرة ينطبق على جميع العراقيين. واعتمد القانون على تفسيرات أكثر تقدمية للفقه الإسلامي يمكن أن تتوافق مع المعايير الحديثة لحقوق الإنسان والمرأة.
◙ عندما تصبح الطوائف وسيطًا بين الأفراد والدولة، يؤثر ذلك على كل شيء من التمثيل السياسي إلى الحقوق الفردية
واعتراض المؤسسة الدينية الشيعية على قانون الأحوال الشخصية 1959 ليس جديداً. ولم يكن هذا الرفض قائماً على أسس دينية فحسب، بل كان نابعاً أيضاً من حقيقة مفادها أن تنظيم شؤون الأسرة والأحوال الشخصية كان تاريخياً من المسؤوليات الأساسية للفقهاء الشيعة، الذين مارسوها بشكل مستقل عن الدولة. وقد أدى نقل هذه السلطة إلى محاكم الدولة إلى تقليص نفوذ التسلسل الهرمي الديني، والأهم من ذلك، إيراداته.
وعلاوة على ذلك، بما أن القانون كان قائماً على عدة مدارس قانونية، بما في ذلك المدرسة الجعفرية في الفقه الشيعي، فقد كان الفقهاء الشيعة يميلون إلى رفضه لأنهم ينظرون إلى القانون باعتباره كلاً لا يتجزأ.
وقد واجهت المحاولة الحالية لتعديل قانون عام 1959 معارضة كبيرة من منظمات المجتمع المدني والناشطين. ففي العديد من المجالات، يتعارض الفقه الديني مع الحقوق المعترف بها دولياً للمرأة والطفل، بما في ذلك حظر زواج الأطفال (عندما يسمح العديد من الفقهاء بالزواج للفتيات في سن التاسعة) والقضايا المتعلقة بحقوق حضانة المرأة وحقها في الميراث أو الاعتراض على الزواج ا مرة أخرى.
وفي الوقت نفسه، يبدو أن الإطار التنسيق يحظى بدعم قوي من المؤسسة الدينية في مساعيه، مصحوبًا بالصمت ــ الذي ربما فُسِّر على أنه موافقة ــ من أعلى سلطة دينية، آية الله علي السيستاني. ويبدو أن الهدف هنا هو ترسيخ نظام منظم حول الانتماء الطائفي والعرقي في العراق، وتقليص المواطنين إلى هويات ثابتة موروثة. وبالتالي تصبح الطوائف وسيطًا بين الأفراد والدولة، مما يؤثر على كل شيء من التمثيل السياسي للمواطنين إلى الحقوق المتعلقة بالزواج والحضانة والشؤون العائلية.
ومن شأن النجاح في تعديل قانون عام 1959، وفقًا للصيغة المقترحة، أن يمثل خطوة أخرى نحو إضفاء الطابع المؤسسي على التقسيم الطائفي للعراق، والذي من شأنه أن ينشئ سلطة موازية لسلطة الدولة في مجموعة واسعة من المسائل الشخصية. وهذا يشبه إلى حد ما، ما حدث مع قوات الحشد الشعبي، التي تمثل قوة موازية عندما يتعلق الأمر بالأمن.