القاهرة تبعث برسائل متناقضة بشأن خططها للتوسع العمراني

تتعارض خطط الحكومة المصرية للتوسع العمراني داخل المدن القديمة مع خططها لبناء مدن جديدة تخفف من الاكتظاظ وتخلق مجالات أرحب، كما أن التوسع داخل المدن القديمة يهدد الأراضي الصالحة للزراعة الشحيحة بالفعل.
القاهرة - بعثت الحكومة المصرية برسائل متناقضة بشأن خططها الساعية للتوسع العمراني والخروج من شريط الوادي الضيق بعد أن أعلنت عن خطة لإنشاء بنايات داخل عواصم محافظات ومدن كبرى قديمة في أقاليم مختلفة، وليس داخل الامتدادات العمرانية الجديدة، كما هو الحال في غالبية المشروعات التنموية في السنوات الماضية، ما طرح تساؤلات حول أبعاد هذا التغير في خطة الحكومة، ومدى قدرتها على جذب المواطنين إلى المدن الجديدة التي دشنتها مؤخرا.
وقال رئيس مجلس إدارة صندوق التنمية الحضرية (حكومي) إن المبادرة الرئاسية لتطوير عواصم المحافظات والمدن الكبرى سوف تشهد تفعيلا الأيام المقبلة من خلال إنشاء 500 ألف وحدة سكنية لجميع المستويات بكل المحافظات.
وأوضح في تصريحات إعلامية، الاثنين، أن المرحلة الأولى تتضمن إنشاء 100 ألف وحدة، يتم تسويقها حاليا، وأن المبادرة تحوي إنشاء كومبوند داخل المدن القائمة وليس في الامتدادات العمرانية الجديدة، وذلك في الأراضي المتاحة لهذا الغرض، وأنّ المشروع يتم بناؤه على 20 في المئة من مساحة الأرض وبتنسيق عمراني.
وعقد رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي اجتماعا، في التوقيت نفسه، لتنفيذ المبادرة الرئاسية لتطوير عواصم المدن في محافظة السويس، شرق القاهرة، بشأن إنشاء وحدات حكومية وطرحها للحجز، ويتم الآن بناء 13 ألف وحدة سكنية.
وتأتي خطوات الحكومة في حين أن برنامجها الذي قدمته إلى البرلمان يولي اهتماما بالتوسع العمراني، وخصصت ما يقرب من 20 في المئة من إجمالي الاستثمارات العامة لتنفيذ تلك الخطة بإجمالي 186 مليار جنيه (الدولار= 49 جنيه)، ما يشير إلى أنها قد توجه جزءا من هذه الاستثمارات للبناء في الحيز العمراني القديم الذي قد يكون البناء فيه مناسبا داخل بعض المحافظات.
وسوقت الحكومة الأيام الماضية لمشروعاتها السكنية في حي مدينة نصر الشهير شرق القاهرة، ومنطقة الخيالة بوسط القاهرة، ومنطقة المعصرة بجنوب القاهرة، وهي مناطق لم تعتد على إنشاء مشروعات عمرانية فيها بكثافة وكان القطاع الخاص يتولى عملية تعميرها قبل أن يتوقف بشكل كبير مع وضع اشتراطات البناء ووقف البناء في الأماكن المكدسة بالسكان قبل أربع سنوات.
وأعلنت الحكومة منذ ست سنوات عن خطتها لإنشاء 14 مدينة جديدة من الجيل الرابع وتشييد عاصمة إدارية جديدة في شرق القاهرة جرى الانتهاء من مرحلتها الأولى بالفعل وانتقلت إليها الوزارات وبعض الجهات الحكومية الأخرى، لإعادة رسم خارطة مصر السكانية ضمن مخطط شامل.
ويسعى النظام المصري من خلال “رؤية 2030” في مجال التنمية العمرانية إلى زيادة المساحة المتاحة للعمران من 6 في المئة إلى 12 في المئة على أمل استيعاب زيادة السكان على مدار السنوات الست المقبلة، وتخفيف الازدحام عن المدن القديمة.
وتشير إحصاءات أعلن عنها مؤخرا مصطفى مدبولي إلى أن الحكومة أنشأت خلال أقل من عشر سنوات أكثر من 1.5 مليون وحدة سكنية، وأن نسبة تتراوح بين 85 في المئة و90 في المئة من هذه الوحدات، نُفّذت في صورة سكن اجتماعي للشباب ومحدودي الدخل وإسكان بديل للعشوائيات، في المناطق المسماة “غير الآمنة” لحل مشكلات السكن لنحو 6 ملايين أو 7.5 مليون مواطن مصري.
ويرجع التوجه نحو المدن القديمة إلى أن المناطق الجديدة بحاجة للمزيد من الوقت كي تتمكن من جذب عناصر سكانية كبيرة، وأن الثقافة السائدة لدى الكثير من المصريين هي البقاء في المدن القديمة التي تتواجد فيها غالبية الخدمات وتتركز فيها أشغالهم ومدارس أبنائهم وتلبية متطلباتهم، خاصة وأن السنوات الماضية شهدت زيادات كبيرة في أسعار الشقق والإيجارات، وتأثرت الكثير من المناطق بوجود سوق يتحكم فيه وافدون من الخارج، وتضرر منه المصريون المقيمون في تلك المناطق.
وتبرهن استعانة الحكومة بمطورين عقاريين لتسويق المشروعات السكنية في المدن الجديدة على أنها لا تحقق المرجو منها على مستوى إشغال هذه العقارات ويمكن الانتقال بشكل مؤقت لبناء شقق سكنية في الحيز العمراني القديم واستمرار خطط التوسع العمراني بالتوازي، لأن ضمن أهدافها تحقيق أرباح تساعدها على التوسع في المزيد من مشروعات البناء.
وقال إيهاب منصور، رئيس الهيئة البرلمانية للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي بمجلس النواب، إن إحصاءات البيان الختامي للحكومة خلال العام قبل الماضي أشارت إلى أن 116 ألف وحدة سكنية في المدن الجديدة لم يتم تخصيصها وأن العدد انخفض في البيان الختامي السابق إلى 31 ألف وحدة سكنية، ما يجعل الحكومة على قناعة بأنها بحاجة إلى تنويع مشروعاتها في مجال الإسكان.
وأكد في تصريح لـ”العرب” أن عودة الحكومة للبناء في الحيز العمراني القديم تتناقض مع رؤيتها العامة الساعية لتخفيف الضغط على المدن الكبرى التي تتكدس بالسكان، ولهذا السبب قامت بوضع قواعد للبناء اشترطت فيها أن لا تزيد ارتفاع البناية عن أربعة أدوار، وتسبب ذلك في اتجاه المطورين إلى المدن الجديدة.
وأوضح أن جميع القوى السياسية دعمت الاتجاه للعمران في مناطق صحراوية لتخفيف الضغط على المرافق العامة في المدن القديمة وتحديدا القاهرة الكبرى (القاهرة والجيزة والقليوبية)، وليس من المعروف إذا كانت هناك دراسات تؤكد إيجابية خطوة الحكومة من عدمها، وعليها أن توضح بشكل أكبر دوافعها نحو الاستغراق في بناء مناطق سكنية داخل مناطق سبق وأن أكدت على ضرورة تخفيف التكدس فيها.
وتشير دراسة أعدها مركز “حلول السياسات البديلة” إلى أن مبادرة حكومية مصرية جرى النقاش حولها في العام 2019 استهدفت تطوير السياسات العمرانية الوطنية أظهرت أن المدن المصرية قادرة على استيعاب الزيادة السكانية المتوقعة عن طريق زيادة معدلات الكثافة السكانية في المدن.
ويقصد بالمدن عالية الكثافة المدن المقامة على مساحة جغرافية صغيرة تشجع على الكثافة السكانية المرتفعة والاستخدام المختلط للأراضي، وتقدم شبكات مواصلات عامة تقلل من استخدام المواصلات المميكنة.
وأشارت الدراسة التي أعدتها الباحثة الألمانية فيكتوريا تيميير بعنوان “تطوير سياسة عمرانية وطنية لمصر: نحو مدن عالية الكثافة” إلى أن التحدي الأكثر إلحاحا في مصر يتمثل في الزيادة المتوقعة في عدد السكان من 100 مليون إلى 160 مليون نسمة بحلول عام 2050، وفقا لآخر الإحصائيات السكانية للأمم المتحدة.
وبالتالي فأهم نتائج هذا التشخيص أن معظم المدن المصرية تتميز بكثافة منخفضة، وأظهر تحليل لعينة ممثلة للمدن المصرية أن معظم المدن (باستثناء القاهرة والإسكندرية) بها كثافة أقل مما يوصي به القانون المصري (150 شخصا / فدان).
وأشارت الدراسة إلى أن التشخيص أثبت أن التوسع العمراني غير المنظم، وضعف أنظمة المواصلات، والاستخدام المرتفع للسيارات، من أسباب الشعور بالازدحام، وأوصت بزيادة الكثافة في المدن المصرية بشكل أكبر من خلال استخدام الأراضي والأصول الشاغرة أو غير المستخدمة، وفتح الوحدات السكنية الشاغرة البالغ عددها 12.8 مليون وحدة وضمان تخطيط جيد لمناطق التوسع الحالية في المدينة.
وحال بلغت الكثافة السكانية في المدن المصرية فعلا 150 شخصا لكل فدان فإن المدن ستكون قادرة على استيعاب ما يصل إلى 250 مليون نسمة، وهو رقم أعلى بكثير من تعداد السكان المتوقع في عام 2050، ويعني هذا أنه لا حاجة إلى المزيد من التوسع الحضري على الأراضي الزراعية، وأن مبالغ الاستثمارات الحكومية الضخمة في إنشاء المدن الجديدة يجب أن تكون محل مراجعة.
وأوضح أستاذ التخطيط العمراني بجامعة القاهرة سامح العلايلي أن الاعتماد على الكثافة الحضرية لتحقيق عوائد تنموية أمر يعارض الواقع الحالي، لأن هناك صحاري شاسعة بحاجة إلى انتقال مفهوم التعمير السليم إليها، والأمر لا يتوقف فقط على مجرد تدشين بنايات جديدة، لكن الأهم البدء بالقاعدة الاقتصادية التي تساهم في جذب الشباب إلى تلك المناطق، وأن توجهات الحكومة نحو التوسع العمراني تساعد على إيجاد فرص عمل لمن ينتقلون إلى هذه الأماكن حتى لا يتم تأخر تعميرها.
وأكد في تصريح لـ"العرب" أن مشكلة التوسع في الحيز العمراني القديم أنه يطال الأراضي الزراعية التي جرى التعدي عليها بكثافة في السنوات التي سبقت العام 2020، وكان لا بد في ذلك الحين من تدشين مشروع قومي متكامل يضمن الخروج من الوادي الضيق، ويرتكز على بناء مجتمعات إنتاجية وليست سكنية بالقدر الأول، وأن احتياج الناس أضحى الآن للرزق أولا قبل البحث عن سكن مستقبلي، مع أهمية التلقين بأن نتائج هذا المشروع طويلة المدى وعدم التركيز على الأهداف الآنية التي تحققها بناء الشقق السكنية في المدن الجديدة.
ولا تتوافر البيانات العقارية بشكل كبير للتأكد من وجود فقاعة عقارية دفعت الحكومة إلى البناء في المدن، غير أن ذلك وارد، إذ يصعب السير في مسارين متوازيين بين التوسع العمراني في المدن الجديدة وتوجيه موازنات البناء الحكومية إلى المدن القديمة.