هجوم داغستان يُحيي خطط انفصال شمال القوقاز

بدت هجمات الأحد الإرهابية في داغستان جيدة التخطيط والتنسيق، ما يعكس التحضيرات المسبقة لها. وتسعى التنظيمات الجهادية العابرة للحدود لإحياء خطط الحكم الانفصالي الإسلامي في منطقة القوقاز من خلال استهداف المصالح الروسية.
القاهرة - تخطى الهجوم الإرهابي الذي تعرض له كنيس وكنيسة ومراكز شرطية في داغستان، إحدى الجمهوريات الـ29 للفيدرالية الروسية، الأحد، مرحلة القيام بعمليات نوعية ثأرية أو استعراضية بهدف التجنيد، ووضّح تصميم الجهاديين على إثارة فتن طائفية وتهيئة الأجواء لظهور سلطة انفصالية إسلامية في شمال القوقاز.
واستغلت الهجمات التي قتلت كاهنًا من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وعددًا من الضباط، والعديد من الجرحى،الحرب في قطاع غزة، ووجود احتقان طائفي في داغستان ذات الأغلبية المسلمة في جبال شمال القوقاز، بهدف خلق فتنة طائفية بين الداغستانيين، تسهل على خلايا تنظيم داعش تنفيذ خطط التمدد في المنطقة.
ويجد قادة ومنتسبو (ولاية القوقاز) الموالية لتنظيم داعش في إثارة الأحقاد والكراهية ضد اليهود والمسيحيين على خلفية العواطف المُستثارة بسبب الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة، فرصة لاستعادة الأحلام الانفصالية التي تكرر فشلها منذ حرب الشيشان الثانية (1999-2009) وأشعلتها موسكو بعد غزو قرى داغستانية من طرف متمردين جهاديين شيشان.
ويرى قادة فرع داعش في القوقاز أن تنفيذ المزيد من العمليات النوعية التي تصنع صدى إعلاميًا واسعًا وتدور في فلك قضايا تهم المسلمين حول العالم يدعم خطط التنظيم في استقطاب أعداد كبيرة من المواطنين لتجنيدهم، بهدف توفير الزخم البشري القادر على تشكيل حالة انفصالية.
وسبق الهجوم الأخير تحريض على قنوات تابعة لداعش على "تليغرام" لاستهداف دور عبادة يهودية ومسيحية، ومحاولة حرق الجسور بين الطوائف وإشعال صراع واسع في شمال القوقاز التي يعدها جهاديون جزءًا مهمًا من أرض الخلافة المزعومة التي فشلوا في الانفصال بها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، عبر تمرد مسلح اتخذ طابعًا إسلاميًا بشكل تدريجي.
◙ قياديو داعش في القوقاز خططوا منذ بداية حرب غزة لخلق بيئة طائفية متصارعة تمهد لحكم انفصالي إسلامي
وخطط قياديو داعش في القوقاز منذ بداية حرب غزة في السابع من أكتوبر الماضي لخلق بيئة طائفية متصارعة،قد تمهد لحكم انفصالي إسلامي، ففي العاشر من أكتوبر المنصرم وقف وراء إثارة الشغب واقتحام مطار مدينة محج قلعة بحثًا عن الركاب القادمين على متن طائرة رحلة جوية من تل أبيب تحمل إسرائيليين، علاوة على تدبيره عديد من الهجمات التي جرى إحباطها ضد معابد يهودية منذ أكتوبر الماضي وحتى اليوم.
ويستغل قادة وناشطو ولاية القوقاز التابعة لتنظيم داعش ما تتمتع به المنطقة الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين من تنوع عرقي ومذهبي كبير واعتناق الغالبية للإسلام وميل أعداد كبيرة من الشباب للفكر المتطرف، وعودة آلاف العناصر التي انخرطت في الحرب السورية بهدف تغذية النزعات الانفصالية.
ويسير الإرهابيون الانفصاليون في داغستان وجمهوريات شمال القوقاز على هذه الخطة التي بدأها دوكو عوماروف مؤسس إمارة القوقاز الانفصالية في العام 2007، وهو أحد أمراء حرب الشيشان، وكان يريد فرض الشريعة الإسلامية على مجمل شمال القوقاز الذي يشكل المسلمون فيه نسبة 85 في المئة، أغلبهم من السنة الشافعية ذات الميول الصوفية.
ويدرك الجهاديون القيمة الإستراتيجية لمنطقة شمال القوقاز ضمن جمهوريات الاتحاد الروسي، والتي تحتوي على احتياطات كبيرة من مصادر الطاقة وتتمتع بموقع جغرافي مميز يربط بين البحر الأسود غربًا وبحر قزوين شرقًا، ما يخول لمن يهيمن عليها التحكم في أحد أهم طرق المواصلات والتجارة بين قارتي أوروبا وآسيا.
وحرصت روسيا التي تُولي مصالحها القومية في القوقاز في مواجهة تهديدات التنظيمات الإرهابية والانفصالية اهتمامًا خاصًا لضمان الحفاظ على أمنها واستقرارها، على تنظيف مناطق القوقاز (الشيشان وإنغوشيا وداغستان) من أخطر الإرهابيين الذين شاركوا في الحروب الشيشانية، وسكتت أجهزتها الأمنية عن تدفق غالبيتهم للمشاركة في الحرب السورية وتبعتهم بقواتها للتخلص منهم بكلفة رخيصة.
وشكل المسلحون المتمردون من شمال القوقاز جزءًا كبيرًا من قوات تنظيم داعش في سوريا، وكانت اللغة الروسية ثاني أكثر اللغات شيوعًا، وتم تدريسها خلال حكم داعش لمناطق في سوريا والعراق.
وبقي بعض المقاتلين المتمردين على قيد الحياة، ومنهم من تولى مناصب قيادية بارزة في صفوف تنظيمات السلفية الجهادية في سوريا، وعادوا إلى منطقهم الأصلية،لتوجيه ضربات انتقامية لروسيا ردًا على إسهامها الجوهري في دحر تنظيماتهم في سوريا، وتغذية التهديد المصيري الذي يقلق موسكو من خلال تحويل التطرف القوقازي إلى ظاهرة عابرة للحدود، ودفع العديد من سكان شمال القوقاز للانضمام للحركة الإرهابية العالمية، وإحياء النزعة الانفصالية التي سحقتها روسيا في السابق. وامتلكت بعض العناصر الإرهابية في القوقاز خبرات عسكرية وتنظيمية وحركية على خلفية انخراطها في مواجهات مسلحة في سوريا وأوكرانيا.
وبعد أن تقلصت قدرة تنظيم ولاية القوقاز على شن عمليات إرهابية داخل روسيا والجمهوريات ذات الأغلبية الإسلامية في الاتحاد الروسي، استفاد الإرهابيون من التغيرات الإقليمية والدولية وانشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا، وتداعيات حرب غزة، والوضع الاقتصادي المتردي وارتفاع نسبة البطالة، ولجوء الشباب لاعتناق الفكر السلفي الجهادي، ما أوجد ثغرات مكنتهم من إتمام بعض عملياتهم النوعية.
ونجح المتمردون الجهاديون في جعل منطقة القوقاز من أهم بؤر داعش في العالم وفي القارة الآسيوية عبر استغلال التهميش السياسي واضطراب الأوضاع الطائفية وتوتر العلاقات بين المسلمين وغيرهم من معتنقي الأديان الأخرى، وتضاعفت التهديدات، وأحبطت الأجهزة الأمنية عمليات إرهابية شرع في تنفيذها تنظيم داعش بفرعيه، القوقاز وداعش خراسان.
◙ قادة ومنتسبو (ولاية القوقاز) الموالية لتنظيم داعش يجدون في إثارة الأحقاد ضد اليهود والمسيحيين فرصة لاستعادة الأحلام الانفصالية
وكانت اللجنة الوطنية الروسية لمكافحة الإرهاب قد أعلنت في منتصف فبراير الفائت، أنه جرى إحباط 419 جريمة إرهابية العام الماضي، تم الإعداد لها بواسطة أشخاص جرى تجنيدهم من قبل جماعات إرهابية دولية، والخدمات الخاصة الأوكرانية، ومنظمات النازيين الجدد والمعادين لروسيا، منذ بدء العملية العسكرية الخاصة بأوكرانيا.
وساعد الاضطهاد المُمَنهج الذي تعرضت له الأغلبية المسلمة بالقوقاز من قبل سلطات موالية لموسكو في انضمام أعداد كبيرة منهم إلى تنظيمات جهادية، وكشفت استطلاعات رأي أن نسبًا تتراوح بين عشرين وثلاثين في المئة من طلاب المدارس والمعلمين في داغستان أظهروا دعمهم لمواطنيهم الذين انضموا لداعش، حيث لا يقتصر الاضطهاد والتعذيب على داغستان، ما مثل عاملًا رئيسيًا في تطرف الأفراد في المنطقة.
وبعد أن تراجع مستوى التهديد الإرهابي خلال تولية فلاديمير فاسيلياف، أول رئيس جمهورية بداغستان منذ 1948 وهو روسي مسيحي من أصل كازاخي، عاد مجددًا إلى الذروة تحت حكم سلفه رمضان عبداللطيفوف بداية من عام 2013 وحتى العام 2017 نتيجة الحكم القمعي وانتشار التعذيب، بسبب إنهاء الحوار والتفاوض مع الجماعات السلفية المعتدلة التي لا تتبنى العنف.
وأسهم النهج القمعي الاستبدادي في تغذية روح الانتقام والتطرف لدى آلاف من الشباب في داغستان، وغيرها من جمهوريات القوقاز ودول وسط آسيا، وعلى الرغم من أن غالبية الشباب ملتزمون بأداة الصلاة والطقوس الدينية، إلا أن قطاعا كبيرا منهم التحق بتنظيم داعش الذي أعلنت إمارة القوقاز ولاءها له عام 2015 ليصير اسمها (ولاية القوقاز). وأدت عمليات مكافحة الإرهاب الذي كان يستهدف بصورة شبه حصرية قوات الأمن إلى تدمير وإفقار قرى بأكملها، مخلفة منذ عام 2010 إلى اليوم ما يزيد عن خمسة آلاف ضحية.
ويعكس الهجوم الأخير في داغستان مع المحاولات السابقة التي جرى إحباطها تبلور نهجا إنفصاليا ينطلق من إشعال صراع طائفي متعدد الروافد،تركز دعايته على مظالم حرب غزة والمقاومة ضد الاتحاد الروسي بزعم اضطهاد المسلمين، وتورط مقاتلين من شمال القوقاز في الصراع الأوكراني وقبله السوري، علاوة على رواسب تاريخية شكلت حرب الشيشان الأولى (1994-1996) وحرب الشيشان الثانية (1999-2009) الفكرة الانفصالية عن الاتحاد الروسي في أذهان السكان الأصغر سنًا.
ومن غير المرجح أن ترتخي القبضة السياسية والأمنية عن جمهوريات شمال القوقاز، وتعتبرها موسكو مناطق إستراتيجية على المستوى العسكري، وتأمين طرق نقل طاقتها، خاصة داغستان التي تتمتع باستقلال إداري واسع منذ سقوط الاتحاد السوفييتي.