المواهب الشابة تعيد اكتشاف إسبانيا

انتصر منتخب إسبانيا على نظيره الإيطالي بهدف نظيف، في مباراة سيطر عليها الإسبان تحت قيادة مدربهم دي لافوينتي، كما برز بين صفوفهم النجم الصاعد بسرعة الصاروخ، لامين جمال، الذي لقبته جماهير إسبانيا بالساحر الجديد، أو ميسي إسبانيا، كما يحلو لبعضهم أن يُطلق عليه.
دوناوشينغن (ألمانيا) - عندما اعتقد كثر أن إسبانيا التي سيطرت على الساحتين القارية والعالمية بين 2008 و2012، باتت من الماضي، جاء جيل جديد بقيادة المدرب لويس دي لا فوينتي ليعيد البريق والجمالية إلى “لا روخا”، لكن بمزيد من اللعب المباشر والمواهب الشابة.
هيمنت إسبانيا على عالم الكرة المستديرة بين عامي 2008 و2012، فأحرزت لقب كأس أوروبا مرّتين 2008 في النمسا وسويسرا و2012 في بولندا وأوكرانيا ومونديال جنوب إفريقيا 2010.
لكن الكرة الإسبانية واجهت منذ حينها أزمة ثقة، فغابت عن منصات التتويج 11 عاما، قبل أن تتصالح مجدّدا مع الانتصارات بفوز المنتخب بلقب مسابقة دوري الأمم الأوروبية العام الماضي.
ويبدو أنها تعلّمت من دروس الأعوام الأخيرة وفق ما ظهر في مباراتيها الرائعتين الأوليين اللتين خاضتهما في كأس أوروبا المقامة حاليا في ألمانيا، حيث استحقت تماما الفوز على كرواتيا 3-0 في مباراة تخلت خلالها عن النسبة الأكبر من الاستحواذ للوكا مودريتش ورفاقه، ثم إيطاليا حاملة اللقب 1-0، ضامنة بذلك التأهل إلى ثمن النهائي.
لكن هذه الدروس التي تعلّمها المنتخب الإسباني لا تعني تخليه كليا عن أسلوب اللعب المعروف بـ”تيكي تاكا” والمستوحى من نادي برشلونة أيام المدرب الهولندي الراحل يوهان كرويف ومن بعده جوزيب غوارديولا، بل قام بتحديثه.
وبعد الفوز الخميس على إيطاليا في مباراة لا تعكس نتيجتها بتاتا المجريات والفرص التي سنحت لرجال دي لا فوينتي، كتبت صحيفة “ماركا” الإسبانية “وداعا لمباريات الألف تمريرة (في إشارة إلى ارتكاز تيكي تاكا على التمرير القصير)، وأهلا وسهلا بكرة القدم المذهلة للامين (جمال) ونيكو (وليامز) والضغط الذي يحاصر الخصوم".
وتابعت “إذا كان علينا في يوم من الأيام، كما حدث ضد كرواتيا، أن نمتلك الكرة بشكل أقل من الخصم، فهذا لا يهم. الفكرة واضحة: خطف الكرة والخروج بسرعة بشكل عمودي”، أي مباشرة نحو المرمى عوضا عن الإمعان في التمريرات القصيرة. وبعدها “جودة لاعبينا تتكفل بالباقي” بحسب ما أفاد المدرب دي لا فوينتي، مهندس النهضة الإسبانية وأسلوب اللعب الجديد لمنتخب "لا روخا".
القوة الضاربة
بقيادة المدافع السابق لأتلتيك بلباو الذي كان مجهولا لدى عامة الناس بعدما قضى سنوات عدّة على رأس فرق الشباب، وجد “لا روخا” لونا وفضيلة أساسييْن: التكيّف مع الخصم ونوعية لاعبيه. واستلم دي لا فوينتي، الملقب بـ “لويس الهادئ” خلفا لسلفه بُركاني المزاج لويس إنريكي، منتخبا في حالة يرثى لها أوصلته لدرجة الخسارة في دور المجموعات لمونديال قطر أمام اليابان 1-2، قبل الخروج من ثمن النهائي على يد المغرب بركلات الترجيح بعد مباراة كاريكاتورية استحوذ خلالها على الكرة بنسبة 77 في المئة، لكن بتسديدة واحدة على المرمى. لكن تحت إشرافه، أعاد المنتخب اكتشاف نفسه مع اعتماد مقاربة دمج العناصر الجديدة تدريجيا مما أعطى وجها آخر للفريق وجعله أحد المرشحين للقب القاري، وذلك
بقيادة اليافعين لامين جمال (16 عاما) ونيكو وليامز (21 عاما). ومن دون أي عقد وحسابات، دخل الجناحان السريعان في الأجواء ومنحا المنتخب مزيدا من العمق والديناميكية لدرجة أنهما باتا المحور الذي يرتكز عليه رفاقهما باستمرار من أجل إحداث الفارق.
تسبّب جناحا برشلونة وبلباو بالدوار للاعبي كرواتيا وإيطاليا بفضل المهارات الفنية التي جعلتهما على رأس لائحة أكثر المراوغين في نهائيات ألمانيا 2024 حتى الآن. وبينهما في وسط الملعب، عاد صانع ألعاب برشلونة بيدري (21 عاما)، وبعد تخلصه من لعنة الإصابات، ليذكر العالم بالأسباب التي رشحته كي يكون أحد أعظم الواعدين في كرة القدم العالمية ومقارنته بنجم “لا روخا” والنادي الكتالوني سابقا أندريس إنييستا.
◙ المنتخب الإسباني يبدو أنه تعلم من دروس الأعوام الأخيرة وفق ما ظهر في مباراتيه الرائعتين في كأس أوروبا
لكن هل يكفي ذلك لإعادة إسبانيا إلى مكانتها بين الأفضل أوروبيا؟ بالنسبة لدي لا فوينتي “المنافسون يتعرّفون عليك مع تقدم المباريات، لذا من الصعب للغاية الفوز ببطولة كهذه، لكني أعتقد أنه لا يوجد فريق أفضل منا، ونحن بحاجة فقط إلى مواصلة العمل واللعب كما كنا من قبل”.
لكن “مازال إمكاننا التحسّن كثيرا، على الرغم من أننا سنبقي أقدامنا على الأرض لأن كل مباراة صعبة حقا”. ويعد الساحر الإسباني هو أصغر لاعب في تاريخ اليورو، يشارك في مباراة بالبطولة، واستطاع وهو بعمر 16 عاما أن يقود إسبانيا للفوز على إيطاليا، وكان عنصرا فعالا في مستوى وأداء الماتادور، واستطاع أن يقهر الآتزوري صاحب الخبرة والتاريخ.
وتغنت جماهير إسبانيا في المدرجات باسمه، وكذلك بعد نهاية اللقاء، ولكن ربما لا يعرف الكثيرون قصة هذا اللاعب، فهو من أصول مغربية، وقد تنازعت عليه المغرب وإسبانيا، ولكنه حسم الأمر بتفضيله اللعب لمنتخب إسبانيا، لكن قصته أكثر عمقا، فهو من أم غينية، وأب مغربي، وولد في إسبانيا في يوم 13 يوليو 2007 بمنطقة إيسبلوجاس دي يوبريجات، وهي إحدى بلديات إقليم كاتالونيا في برشلونة، وينحدر من عائلة عربية أفريقية.
وعندما بلغ لامين جمال سن السابعة في صيف 2014، التحق بأكاديمية لاماسيا التابعة لنادي برشلونة، حيث اكتشفه المدرب ديفيد سانشيز، الذي أُعجب بمهاراته، وخاصة أسلوبه الساحر في التعامل مع الكرة بقدمه اليسرى.
وفي سنواته الخمس الأولى سحر جمال عقول المسؤولين في برشلونة، وفق صحيفة “إس” بسبب جودته الفنية العالية، وقدمه اليسرى “الخيالية”، والتي تساعده على مراوغة الخصوم، وتمرير الكرة لزملائه بدقة متناهية، واعتمد عليه المدربون في الفئات السنية المختلفة في مركز المهاجم الصريح، وأحيانا تم الاعتماد عليه في مركز الظهير الأيسر.
وقد نجح أن يكون عنصرا مؤثرا أمام إيطاليا، بفضل مهارته ومراوغاته كما كان اللاعب الوحيد، الذي يقوم بـ8 انطلاقات ناجحة للهجوم خلال المباراة، و7 مراوغات ناجحة، كما قدم 15 تمريرة مفتاحية ناجحة، وصنع فرصة محققة، وسدد مرة واحدة على المرمى خلال مواجهة الآتزوري.
تهنئة خاصة
نزل ملك إسبانيا، فيليبي السادس، إلى غرفة تبديل الملابس في ملعب جيلسنكيرشن، لتهنئة منتخب بلاده بعد الفوز على إيطاليا. وقال الملك للاعبين عند وصوله إلى غرفة تبديل الملابس رفقة رئيس الاتحاد الإسباني بيدرو روتشا “جيد جدا. يجب الفوز حتى لو كان ذلك بهدف عن طريق الخطأ، لكن هناك مناسبات عديدة كانت فيها الأمور مذهلة".
ثم هنأ لاعبي المنتخب واحدا تلو الآخر، وأبدى اندهاشه الشديد عندما سأل لامين جمال عن عمره، وأجابه بأنه 16 عاما فقط. وقال مازحا مع حارس المرمى أوناي سيمون “تركوك هادئا”، وبعد تهنئة كل لاعب، حصل من القائد ألفارو موراتا، على قميص إسبانيا يحمل الرقم 10، واسم فيليبي السادس على الظهر.
ونوه “سأرتديه لأنني لن أتمكن من الحضور حتى. لا أستطيع أن أقول ذلك، لكن إذا واصلتم اللعب بهذه الطريقة ستكون هناك فرحة كبيرة”، مؤكدا أنه سيحضر المباراة النهائية حال بلوغ إسبانيا نهائي اليورو. وبهذه النتيجة، أكد بطل أوروبا 3 مرات بهذه النتيجة، تأهله لثمن النهائي، في صدارة المجموعة الثانية.
◙ تحت إشراف دي لا فوينتي المنتخب الإسباني يعيد اكتشاف نفسه مع اعتماد مقاربة دمج العناصر الجديدة تدريجيا
من جانبه يرى ألفارو موراتا، مهاجم وقائد المنتخب الإسباني، أن الانتصار على إيطاليا، كان يمكن أن يكون بنتيجة أكبر، لولا تألق حارس الآتزوري، جيانلويجي دوناروما. وقال موراتا، خلال تصريحات “النتيجة كان يمكن أن تكون مختلفة، لكنّ لديهم حارس مرمى رائعا، ولاعبين في أفضل أندية العالم”.
وتابع “حصلنا على ثلاث نقاط، وتأهلنا إلى الدور التالي.. كانت لدينا فرص واضحة كثيرة، لكننا سعداء جدا، لأننا أظهرنا أننا فريق كبير، ومن الصعب جدا اللعب ضدنا”. وعند سؤاله هل إسبانيا أفضل منتخب في البطولة حتى الآن؟ أجاب “نشاهد كل المباريات، لكننا نريد أن نكون الأبطال.. نضع في أذهاننا أننا يمكننا المنافسة ضد أي فريق.. الآن نفكر في المباراة المقبلة أمام ألبانيا".
بدوره أبدى مدرب المنتخب الإسباني لويس دي لا فوينتي اقتناعا بأن لاعبيه هم "الأفضل في العالم" بعد قيادتهم إلى دور الـ16 في بطولة أمم أوروبا 2024 قبل مباراة واحدة على نهاية دور المجموعات. وعقب نهاية المباراة، قال دي لا فوينتي “سعيد وفخور بهذه المجموعة المميزة من اللاعبين الذين لا يتوقفون عن الفوز والتطور”. وأضاف “اللاعبون لديهم رغبة كبيرة في النمو، لقد جلبنا السعادة ليس فقط للفريق، بل لكل إسبانيا".
وتابع “لن أتعب أبدا، كما ذكرت، من الترويج لكرة القدم الإسبانية. أعتقد أننا الأفضل في العالم من حيث تفسير المباريات المختلفة، وبالطبع يتم تعزيز ذلك وتقويته عندما تفوز بالألقاب”. وأردف قائلا “لكن من المهم التأكيد على جودة هذا الجيل من اللاعبين، اللاعبون الذين انضموا بالفعل لهذا الفريق.
أعتقد أن اللاعبين الإسبان هم الأفضل في العالم”. وختم مدرب المنتخب الإسباني بالقول “كما قلت، لا يوجد فريق أفضل منا، مازلت على هذا الرأي، لكننا بحاجة إلى مواصلة العمل الجاد ومواصلة اللعب كما فعلنا حتى الآن".
صمت مدهش
بعكس صراخ الطليان، أثار صمت لاعبي منتخب إسبانيا خلال النشيد الوطني قبل انطلاق المباريات، اندهاش الكثيرين، حيث لا يُردد اللاعبون الإسبان أي كلمات، ولا تتحرك شفاههم عندما يتم عزف النشيد الوطني. ولفت عدم تفاعل لاعبي منتخب إسبانيا على الإطلاق، خلال وقت عزف النشيد الوطني، أثناء المباريات في الفترة الماضية بشكل عام، وبطولة كأس أمم أوروبا يورو 2024 بشكل خاص، نظر الكثير من عشاق كرة القدم.
السبب لا يعود إلى قلة الإحساس الوطني لدىّ الإسبان، وإنما لطبيعة السلام الوطني، حيث بالبحث عن السبب، تبين أن النشيد الوطني الإسباني الحالي لا يحتوي على أي كلمات، وذلك لأسباب سياسية ولخلافات بين الأقاليم والمقاطعات. بين عامي 1938 و1975، كان النشيد الوطني الإسباني يحتوي على كلمات مع وصول الجنرال فرانسيسكو فرانكو إلى مقاليد الحكم.
ويعد السلام الوطني الإسباني “المسيرة الملكية” من المعزوفات الشهيرة للملحن فرانشيسكو غراو، وبالرغم من أنه لحن مع كلمات، إلا أنّ مملكة إسبانيا تخلت عنها عام 1978، وفضلت استخدام لحن النشيد فقط. وفي ذلك الوقت، قام فرانكو – الذي يُصنف من قبل كثيرين بأنه كان دكتاتور البلاد من دون معارضة لأكثر من ثلاثة عقود – بإصدار تعليماته للشاعر الشهير خوسيه ماريا بيمان، لتأليف نشيد جديد يتضمن كلمات تدعم "نهضة إسبانيا".
ثم عند وفاة فرانكو في عام 1975 بعد صراع مع المرض، تم إلغاء النشيد الوطني، وعاد النشيد من دون كلمات حتى يومنا هذا، ويمكن رؤية بعض المشجعين وهم يغنون الكلمات القديمة، وهم متحمسون قبل مباريات منتخبهم الوطني. والنشيد الوطني الحالي لمنتخب إسبانيا تم إقراره في عام 1997 بمرسوم ملكي، ويُكتَفى فيه باللحن فقط من دون أن أي كلمات.
الجدير بالذكر أنّ منتخب إسبانيا يمتلك في تاريخه العديد من الألقاب والبطولات، وأبرزها لقب كأس العالم 2010، كما فاز الماتادور بلقب كأس أمم أوروبا في ثلاث مرات (1964، 2008، 2012)، وتوج بدوري الأمم الأوروبية في عام 2022.