اقتصاديات الضفة الغربية أساسية لترسيخ السلطة الفلسطينية أو لدفعها إلى الانهيار

توجه إسرائيل لتقويض الاستقرار في الضفة يخدم حماس ويزيد مكاسبها.
الثلاثاء 2024/06/04
خنق الضفة يزيد متاعب إسرائيل بدل تطويقها

إذا نفذت إسرائيل بالكامل التدابير الضريبية والمصرفية وتدابير تعويضات الضحايا التي اتخذتها مؤخرا، فقد يؤدي ذلك إلى انهيار الاستقرار النسبي الذي شهدته الضفة الغربية على مدى عقدَين من الزمن، والقضاء على أي مخطط لاضطلاع السلطة الفلسطينية بدور في غزة بعد الحرب.

القدس - في 22 مايو الماضي أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش أنه يعتزم رفض تحويل عائدات الضرائب إلى السلطة الفلسطينية حتى إشعار آخر. وفي إشارة إلى تطوّرين دوليين حديثين -اعتراف أيرلندا والنرويج وإسبانيا أحادي الجانب بالدولة الفلسطينية، والإعلان عن أن محكمة العدل الدولية ستطلب استصدار أوامر اعتقال ضد مسؤولين إسرائيليين- قال الوزير اليميني المتطرف “يعمل الفلسطينيون ضد إسرائيل باستخدام الإرهاب السياسي ويروجون لخطوات أحادية الجانب تجاه العالم، لذلك لا ينبغي أن نستمر في تحويل الأموال إليهم… وإذا تسبب ذلك في انهيار السلطة الفلسطينية، فلتنهار… لن أحاول إنعاش السلطة الفلسطينية اصطناعيا لكي تعمل ضدي”.

كما أعلن سموتريتش عن نيته اتخاذ خطوة إضافية تترتب عليها تداعيات واسعة النطاق، إذ هدد بعدم تمديد نظام تأمين التعويض الذي توفره الحكومة لمصارف المراسلة الإسرائيلية التي تحوّل الأموال إلى المصارف في الضفة الغربية بحلول نهاية يونيو. ويُعد هذا التعويض ضرورياً لأن المصارف تخشى أن تتعرض للعقوبات بسبب تحويل الأموال إلى الأنشطة الإرهابية.

وتنطوي العواقب العملية لهذا التهديد على توقف المصارف الإسرائيلية عن إجراء معاملات تتعلق بحسابات المصارف الفلسطينية (بما في ذلك تحويل عائدات الضرائب)، وعدم تمكن الشركات الإسرائيلية التي تتعامل مع السلطة الفلسطينية من إيداع الشيكات لدفع رواتب العمّال الفلسطينيين في إسرائيل أو إجراء التحويلات المصرفية الإلكترونية.

إلى حد الآن لا يزال معظم سكان الضفة الغربية يحافظون على الهدوء ويتجاهلون دعوات حماس لفتح جبهة أخرى

وبالإضافة إلى ذلك دخل قانونان إسرائيليان إضافيان حيز التنفيذ في الأول من يونيو، حيث سيؤثران أيضاً على الوضع المالي للسلطة الفلسطينية، وهما “قانون تعويض ضحايا الإرهاب” و”قانون تعويض ضحايا الأعمال العدائية”. وسيمنح القانونان ضحايا الأعمال الإرهابية الحق في المطالبة بتعويضات من السلطة الفلسطينية، تُقتطع من جميع أموال السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها إسرائيل، بما في ذلك عائدات الضرائب. وبطبيعة الحال، قد يؤدي هذا التشريع إلى دعاوى قضائية ضد السلطة الفلسطينية تصل قيمتها إلى مئات الملايين من الدولارات، ما قد يؤدي إلى انهيار اقتصادها.

وتقول نعومي نيومان، الرئيسة السابقة لوحدة الأبحاث في وكالة الأمن الإسرائيلية ضمن تقرير نشره معهد واشنطن، “إذا تم تنفيذ هذه التدابير مجتمعة، فمن شأنها أن تضعف تدريجياً قدرة حكومة السلطة الفلسطينية على العمل، وستعيق بدرجة كبيرة قدرتها على دفع رواتب الموظفين (ومن بينهم عناصر الأمن) وتقديم الخدمات إلى المدنيين، أو حتى ستقضي عليها”.

وتضيف نيومان أن ذلك سيعني أيضا انهيار السلطة الفلسطينية -حتى لو لم يكن ذلك بحكم الأمر الواقع، وبالتأكيد بحكم القانون- وتفاقم التدهور الاقتصادي في الضفة الغربية.

وتتابع أنه إذا اقترن القصور الوظيفي للسلطة الفلسطينية بالوضع الاقتصادي الصعب فقد يؤديان مجتمعَين إلى الفوضى والعنف والإرهاب ضد السلطة الفلسطينية والإسرائيليين على حد السواء.

وثمة أيضا أسباب معقولة تدفع إلى افتراض أن قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي لا تملك على أي حال دافعا كبيرا إلى التعاون مع إسرائيل أو القضاء على الإرهاب، ستصبح أقل تحفّزا للقيام بذلك، وأن “المقاومة”، ولاسيما حماس التي تسعى إلى تقويض الاستقرار في الضفة الغربية، ستستفيد من الوضع.

الاستقرار النسبي مهدد

إذا اقترن القصور الوظيفي للسلطة الفلسطينية بالوضع الاقتصادي الصعب فقد يؤديان مجتمعَين إلى الفوضى والعنف والإرهاب ضد السلطة الفلسطينية والإسرائيليين على حد السواء

عندما انتهت الانتفاضة الثانية وتبوّأ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس السلطة في عام 2005، شهدت الضفة الغربية فترة طويلة من الاستقرار النسبي استمرت قرابة عقدين من الزمن، باستثناء بعض الأزمات. ولكنها تواجه اليوم أخطر تهديد لها.

ويقوم استقرار الضفة على ثلاث ركائز أساسية هي: حكومة فلسطينية فعالة نسبياً تتعاون مع إسرائيل ولاسيما في القضايا الأمنية، وشعب فلسطيني يحاول تأمين قوته اليومي، وفي الغالب لا ينخرط في أعمال العنف، إضافة إلى محدودية قوة العناصر الإرهابية، وخاصة حركة حماس.

وفي إطار هذا الترتيب توفر إسرائيل للسلطة الفلسطينية وسكان الضفة الغربية شبكة أمان اقتصادي، وتحصل في المقابل على تنسيق أمني وهدوء نسبي من عامة الناس. وحتى في الوقت الحالي، بعد مرور أشهر على اندلاع حرب غزة، مازال معظم سكان الضفة الغربية يحافظون على الهدوء إلى حد ما ويتجاهلون دعوات حماس لفتح جبهة أخرى ضد إسرائيل.

ومع ذلك تسببت الحرب في مشكلة كبيرة أخرى في الضفة الغربية؛ فقد أدت إلى تدهور الوضع الاقتصادي المتردي أصلا في أراضيها. وبعد اندلاع الصراع مباشرة مُنع 170 ألف عامل من الضفة الغربية من مواصلة عملهم في إسرائيل، ووجّه فقدان الأجور ضربة موجعة للاقتصاد الفلسطيني.

وفي الوقت نفسه خفضت إسرائيل عائدات الضرائب الشهرية للسلطة الفلسطينية، والتي بلغ متوسطها نحو 175 مليون دولار من ضرائب الاستيراد وضرائب الاستهلاك وضرائب القيمة المضافة والضرائب المباشرة.

وقد أصبحت هذه الضرائب المصدر الرئيسي لإيرادات السلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة. وبموجب “اتفاقية أوسلو” تقوم إسرائيل بجمع عائدات الضرائب لصالح السلطة الفلسطينية ومن ثم تحويلها إلى رام الله بعد خصم رسوم الخدمات الإسرائيلية المقدّمة للفلسطينيين، مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي. ومع ذلك قرر سموتريتش البدء بخصم حصة غزة من عائدات الضرائب أيضا.

وحاليا تبلغ قيمة الدَين الخارجي للسلطة الفلسطينية 5.4 مليار دولار موزعة بين ديون للمصارف ولمقدمي الخدمات ومدفوعات المعاشات التقاعدية. ويصل العجز الشهري إلى نحو 110 – 125 مليون دولار، مقارنة بحوالي 50 مليون دولار في الأوقات العادية. أما نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فبلغ 910 دولارات في الربع الرابع من عام 2023، مسجلاً انخفاضاً بنسبة 20 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، في حين وصلت حالياً نسبة البطالة في الضفة الغربية إلى 30 في المئة.

وتدفع السلطة الفلسطينية من 50 إلى 70 في المئة فقط من قيمة الرواتب لموظفيها البالغ عددهم 145 ألف موظف، ومن بينهم رجال الأمن المسؤولين عن منع الإرهاب. وقد أثّر ذلك سلباً في أدائهم وتوقف الكثير منهم عن القدوم إلى العمل بانتظام.

وفي فبراير أعلن البنك الدولي أن ميزانية السلطة الفلسطينية معرضة للانهيار التدريجي بسبب تأثير حرب غزة على العمالة والاستهلاك في الضفة الغربية. وأشارت بيانات أحدث عهدا للبنك الدولي إلى احتمال تعرض السلطة الفلسطينية لانهيار اقتصادي.

ما الذي يريده سموتريتش؟

Thumbnail

في سبتمبر 2017 نشر سموتريتش خطة لإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. وتتضمن هذه الخطة، التي أُطلق عليها اسم “الخطة الحاسمة”، محو “الخط الأخضر” وضم جميع الأراضي إلى إسرائيل وإغراق الضفة الغربية بالمستوطنين الإسرائيليين. بمعنى آخر، طرح سموتريتش “حل الدولة الواحدة” بشكل مفصل، على أن تكون هذه الدولة إسرائيل.

أما فيما يتعلق بمصير الفلسطينيين فكتب سموتريتش “كل من يريد أن يتخلّى عن تحقيق تطلعاته الوطنية ويستطيع أن يفعل ذلك، سيكون قادراً على البقاء هنا والعيش كفرد في الدولة اليهودية… ولن يُعتبر المقيم هنا مواطناً إسرائيلياً، بل سيعيش في إطار نموذج من شأنه تمكين ‘الإدارة الذاتية لحياة المجتمع’… ومع تقدم العملية واستيعابها، سيتمكن هؤلاء الفلسطينيون من الاندماج كمواطنين في دولة إسرائيل”. أما الفلسطيني الذي “لا يرغب أو لا يستطيع التخلي عن تطلعاته الوطنية” فسيحصل على “مساعدة إسرائيلية للهجرة إلى إحدى الدول العربية المتعددة، أو إلى أي وجهة أخرى في العالم”.

ويشغل سموتريتش إلى جانب منصبه كوزير للمالية منصباً هاماً في وزارة الدفاع، حيث يتولى مسؤولية “الإدارة المدنية” ومستوطنات الضفة الغربية. ويمنحه ذلك سلطة كبيرة في الضفة الغربية، لاسيما في مجال تعزيز المستوطنات وزيادة السيطرة الإسرائيلية على حياة الفلسطينيين. وأعلن مؤخراً، على سبيل المثال، أنه سيقيم مستوطنة جديدة في الضفة الغربية كلما اعترفت دولة بفلسطين كدولة مستقلة.

وبالإضافة إلى ذلك يُعد سموتريتش الجهة الفاعلة الرئيسية وراء التغييرات الاستيطانية وفرض القيود الاقتصادية وغيرها من التدابير التي تطال الضفة الغربية، ولكن رؤيته المتعلقة بتوسيع نطاق السيادة اليهودية بدرجة أو بأخرى تحظى بتأييد أعضاء آخرين في الحكومة.

سموتريتش يُعد الجهة الفاعلة الرئيسية وراء التغييرات الاستيطانية وفرض القيود الاقتصادية وغيرها من التدابير التي تطال الضفة الغربية

وعلى غراره، لا يرى الكثيرون منهم في الانهيار المحتمل للسلطة الفلسطينية مشكلة، بل خطوة أخرى نحو تحقيق رؤيتهم السياسية والدينية والوطنية.

ولطالما عانى اقتصاد السلطة الفلسطينية من ضعف هيكلي أساسي ومن اعتماد عميق على إسرائيل. ومع ذلك تمكّن الطرفان من الحفاظ على أمن واستقرار اقتصادي نسبيين في الضفة الغربية على مدى عقدَين من الزمن. لكن المؤشرات الحالية، أي منع العمال الفلسطينيين من العودة إلى إسرائيل خلال الحرب، والخصم المتزايد من عائدات الضرائب للسلطة الفلسطينية، والتهديد الذي يطرحه قانونان اقتصاديان جديدان قد يستنزفان أموال السلطة الفلسطينية، تدلّ جميعها على احتمال انهيار السلطة الفلسطينية ووقوع أزمة اقتصادية في الضفة الغربية في الأشهر المقبلة.

وقبل 7 أكتوبر الماضي كانت الضفة الغربية تشهد بالفعل مستوى مرتفعاً من العنف، وأظهرت حرب غزة إلى أي مدى يمكن أن يصل هذا العنف، وبأي سرعة. ولا تريد إسرائيل إدارة أزمة أمنية أخرى بينما تحاول استكمال الحملة في غزة وردع التصعيد في شمال البلاد وجنوبها.

ومع ذلك، أوضح سموتريتش أن انهيار السلطة الفلسطينية يندرج ضمن خطته، ولم يرتفع أي صوت في الحكومة الإسرائيلية لمعارضة وجهة النظر هذه. وإذا تم تنفيذ هذه السياسة بالكامل، فلن تؤدي إلا إلى عرقلة الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة وشركاؤها العرب لإصلاح السلطة الفلسطينية، في وقت تشتد فيه حدة التوترات مع واشنطن.

وأخيرا، إذا أرادت إسرائيل الحفاظ على طابعها اليهودي والديمقراطي على المدى الطويل وتجنب التوجه نحو “دولة واحدة لشعبين”، عليها أن تبذل كل ما في وسعها للحفاظ على الفصل القائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ويشكّل وجود سلطة فلسطينية فعالة شرطاً أساسياً لتحقيق هذا الهدف، وكذلك الجهود الرامية إلى توفير الأمن والاستقرار ومستوى معيشي معقول لسكان الضفة الغربية.

6