من نميري إلى الإنقاذ: سودان اليوم نتاج السلطوية

السلطة في السودان تأسست في الغالب على الانقلابات، لكن بناءها لم يكن فقط بالأولوية التي توليها للمؤسسة العسكرية، وإنما أيضا من خلال بسط نفوذها على الاقتصاد ووضع اليد على السياسة النقدية وتوظيف مدخرات الدولة في كسب الولاءات.
كتاب “السياسات الاقتصادية والاستدامة السلطوية.. دراسة حالة السودان” للباحث محمود أحمد عبدالعزيز، وإن كان بحثاً في الاقتصاد السياسي للسلطوية في السودان خلال سنوات الإنقاذ الثلاثين إلا أنه يمثل مُقدمة طبيعية لفهم حالة الصراع والاحتراب القائم في السودان منذ أبريل 2023.
المشكلات التي خلفتها الإدارة السلطوية للاقتصاد السياسي للسودان هي جوهر وعمق الأزمة، سواء المتعلقة بالتهميش والعلاقة المُعقدة بين المركز والأطراف، أو الدور السياسي والاقتصادي للقوات المسلحة وقوات الدعم السريع، أو الخلل في إدارة السياسة الاقتصادية والتنموية وسط شبكة واسعة من الفساد والتهريب والمحسوبية.
يؤكد الباحث في كتابه الصادر عن دار العربي أنه لا يمكن القول إن الحرب الدائرة رحاها في السودان هي فقط نتاج سنوات ما بعد ثورة ديسمبر 2018 ضد حكم الإنقاذ، بل هي في جوهرها وحقيقتها تعبيراً عن أزمة السودان منذ حصل على استقلاله في أول يناير 1956.
إنها مشكلة السلطوية بصورها العسكرية والدينية، ومن ثم إفرازات هذه السلطوية سياسيّا واقتصاديا واجتماعيا. ولا شك أن السودان اليوم، وهو يعيش شبح الحرب الأهلية، يخشى مُجددا من انفصال قطعة منه أو أكثر على غرار ما حدث في الجنوب عام 2011، وتلك حقيقة تُرشحها الأحداث بقوة.
ويقول: عاش السودان منذ عام 1956 في ظلال ثلاثة أنظمة حكم سلطوية، نظام الفريق إبراهيم عبود 1958 – 1964، ونظام جعفر محمد نميري 1969 – 1985، ونظام الإنقاذ/ عمر البشير 1989 – 2019، كان لكل منها طريقته في إدارة السلطة والثروة، وأدواتها التي اعتمدت عليها في ترسيخ هذه السلطة والحفاظ عليها لأطول مدى زمني في مواجهة التحديات المختلفة. وذلك استنادا إلى آليات تتمثل في آلية السيطرة على الموارد والسياسات الاقتصادية، وآلية السيطرة على المجال العام وتفتيت قوى المعارضة، وآلية السيطرة على وسائل الإعلام، وآلية السيطرة على الأجهزة الأمنية والعسكرية، وآلية توظيف العامل الخارجي للحفاظ على استمرار النظام القائم.
يتم تحليل النظام السلطوي في السودان من خلال سياساته الاقتصادية التي تبناها على مدار ثلاثين عاماً هيمن فيها على شؤون البلاد، بدأت مع اليوم الأول للانقلاب في 30 يونيو 1989، وتبلورت مع ما عُرف بالمشروع الحضاري، ثم اتخذت بُعداً مختلفاً مع ما عُرف بالمثلث الحمدي نسبة إلى وزير المالية في حكومة الإنقاذ عبدالرحيم حمدي، وهو تصور لتوزيع التنمية في السودان بناء على طبيعة القاعدة الاجتماعية والثقافية والعرقية المؤيدة لنظام الحكم، وصولاً إلى اهتزاز مشروع الاقتصاد السياسي للإنقاذ مع انفصال الجنوب.
فتحت المنظومة السلطوية الباب أمام صعود المكون العسكري داخل نخبة الحكم من جهة، وأتاحت الفرصة أمام ظهور قوات الدعم السريع من جهة أخرى، وهما معاً يمثلان الوريث الشرعي لحكم جبهة الإنقاذ السلطوي في السودان، وهذا الامتداد السياقي هو المدخل المناسب لفهم الحالة السودانية الراهنة.
ويشير الباحث إلى أن إحكام السيطرة على السياسة النقدية يُعتبر من قبيل مكملات السيطرة على السياسة المالية، خاصة إذا اعتمد الإنفاق العام في الشق الغالب منه على الاستدانة من البنك المركزي، وبالتالي من أموال المودعين، ومن دون إحكام هذه السيطرة ربما لا ينجح النظام في مواجهة الأزمات الاقتصادية التي تتطلب إنفاقاً كبيراً.
وقد كان من بين أخطاء نظام نميري، على سبيل المثال، أن السياسة النقدية خرجت بعيدا عن سيطرة النظام بعد المصالحة الوطنية، وصعود الحركة الإسلامية في ظل انتشار المصارف الإسلامية التي مكنتها اقتصاديّا، وقد استوعب نظام البشير الدرس، فأحكم السيطرة والرقابة الرسمية والدينية على السياسة النقدية.
لكن في السنوات الأخيرة لحكم البشير حدث تراجع في مستويات الثقة السياسية، وساد الشعور العام بأن النظام قد أفلس ولم يعد لديه ما يقدمه، بعدما تحقق انفصال الجنوب وتفاقمت الأزمة الاقتصادية، وهو ما أدى في النهاية إلى انهيار النظام، كما بدا هذا التراجع خارجيا من خلال ارتفاع معدلات الفوائد التأخيرية والفوائد على الديون، والتي تجاوزت أصل الدين، تعبيراً عن فقدان المؤسسات المُقرضة للثقة في قدرة الحكم على السداد والوفاء بما عليه من التزامات.
ويبدي الباحث العناية بتأصيل ظاهرة الاستدامة السلطوية وعلاقتها بالسياسات الاقتصادية خلال حكم نميري، حيث كانت المشكلة الاقتصادية قائمة منذ البداية كأحد دوافع الانقلاب العسكري في مايو 1969، وقد تقلب النظام في توجهاته السياسية والاقتصادية من اليسار إلى أقصى اليمين.
من 1969 إلى 1985 تضخمت أدوات الدولة السودانية وأصبح القطاع العام الذي تسيطر عليه الدولة هو القطاع الاقتصادي الأول، وتراجع دور القطاع الخاص، وأنشأ النظام الجديد تنظيما سياسيا وحيدا، وتمكن النظام بفضل الموارد التي تحصل عليها من عمليات التأميم والمصادرة من الإنفاق على متطلبات بقائه.
كما استفاد النظام من طبيعة البيئة الدولية في ذلك الوقت فانتقل من اليسار إلى اليمين. وحصل من حلفائه الجدد، سواء الولايات المتحدة أو دول الخليج، على معونات اقتصادية. ومن ثم توفرت له القدرة على الاستدانة التي استخدمها في إنفاق استهلاكي لا مردود له أدى إلى أزمة عدم القدرة على سداد الديون. وفي النهاية أصبح النظام أكثر انكشافاً لدى حلفائه، فأقدم على قبول مبدأ المصالحة الوطنية الذي شهد بداية تمكين الحركة الإسلامية المعروفة آنذاك بالجبهة القومية الإسلامية.
ويتابع محمود أحمد عبد العزيز: جاء نظام الإنقاذ إلى السلطة واعيا بأدواته المطلوب استخدامها، فسيطر تماماً على السياسة النقدية، وتحكم في أولويات الإنفاق العام، وأنفق على بناء تنظيماته الأمنية المختلفة، كما قام بسياسات إقصاء واسع للعاملين بالخدمة المدنية وفرض تعيين موالين للنظام في مواقع اتخاذ القرار المختلفة.
لجأ النظام إلى سياسة التحرير الاقتصادي لتخفيف الضغط عن الموازنة العامة للدولة التي باتت تُمول بصورة أساسية من بنك السودان المركزي، أي من أموال المواطنين، ونظراً لإدراك النظام أن سياسة التحرير الاقتصادي التي جرى اتباعها بصورة حقيقية قد تؤدي إلى فقدان النظام أدوات السيطرة الاقتصادية لجأ إلى التحايل بإعلان تبني سياسة الخصخصة المزعومة والفيدرالية غير الحقيقية، والتي صبت في صالح شبكات النظام الاقتصادية والسياسية.
ومع محاولات النظام توفير موارد مالية إضافية تأتي أساساً من النفط، اتجه إلى تبني خيار الانفتاح السياسي النسبي الذي أحدث انشقاقاً في صفوف نخبة النظام، لكن هذا الانقسام لم يؤثر على قدرة النظام وفاعليته، وفي هذا رد على ترجيح مبدأ وحدة وتماسك النخب السياسية على ما عداه من آليات أخرى في الحفاظ على وحدة النظام السياسي واستدامته، فالمصالح الاقتصادية داخلياً وخارجياً كانت مرتبطة بوجود الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة، بالإضافة إلى شبكات المصالح التي استفادت من سياسات الخصخصة والتسهيلات الاقتصادية المختلفة التي حصلت عليها على مدار السنوات من 1990 إلى 1999 لحكم الإنقاذ.
وبالنتيجة، فقد انحازت هذه المكونات إلى موقف البشير، لكن ما يبدو مهما في هذا الصدد هو ارتباط مبدأ الانفتاح السياسي النسبي بغْية الحصول على موارد اقتصادية إضافية وهي النفط، الذي كان كذلك مدخلاً لسياسة إنهاء الحرب في الجنوب وعقد السلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان.
ويضيف الباحث: من ثم تميزت السنوات 2000 – 2010 بوفرة الإيرادات النفطية التي تزايدت سنوياً حتى عام 2010، والتي أدت إلى كفاءة في الإدارة المالية لأولويات النظام السياسية والعسكرية، وهي ليست كفاءة في إدارة السياسات الاقتصادية عموماً، فلم يعمل نظام الإنقاذ على تحويل هذه الإيرادات لتحقيق تنمية مستدامة كان من شأنها توفير مصادر حقيقية للدخل، ومن ثم مصادر إضافية للاستدامة السلطوية.
وقد اتسمت سياسة حكومة الإنقاذ بالنهب والفساد والتحايل، ودعم الممارسات الاقتصادية غير المشروعة كالتهرب من الضرائب أو الإعفاءات الجمركية، أو اللجوء إلى ملاذات ضريبية آمنة في الخارج، وغيرها من السياسات التي عرضت لها الدراسة في الفصلين الثالث والرابع.
وتحتاج أي استدامة سلطوية في حقيقتها إلى استدامة اقتصادية، بمعنى توفير مصادر دائمة للدخل لا تكون عُرضة للتقلبات، أو ضعيفة أمام الأزمات الاقتصادية سواء كانت محلية أو خارجية.
وبناء على خبرة السودان التاريخية خلال نظام مايو (1969 – 1985) تراجعت السلطوية عندما بدأ النظام يفقد أدواته الاقتصادية تدريجياً خاصة مع فقدان السيطرة الكاملة على السياسة النقدية، والتي كان الحكم يلجأ إليها لتمويل نفقاته، حيث بدأ عصر البنوك الإسلامية، ذات الأجندة المتعلقة بتمكين الحركة الإسلامية/ الجبهة الإسلامية القومية.
وقد استغلت الحركة الإسلامية هذه البنوك لحشد الموارد اللازمة لبناء شبكات التنظيم واختراق مؤسسات الدولة الحيوية كالشرطة والقوات المسلحة، فضلاً عن بناء قواعد جماهيرية في المدن التي لم تكن منحازة تقليدياً إلى التنظيم مثل العاصمة الخرطوم، حيث أدت سياسة الاحتواء والاستقطاب التي اتبعها نظام نميري إلى تفكيك النظام من الداخل، فانهار في أبريل 1985 على خلفية تفاقم الأزمة الاقتصادية وفشله في حشد أدواته المختلفة الأيديولوجية والأمنية لاحتواء حركة الجماهير الغاضبة، وورثته مرحلة من الديمقراطية المتعثرة تمكنت معها الحركة الإسلامية في الأخير بفضل سنوات التمكين والصعود الاقتصادي خلال حكم نميري من الصعود إلى قمة السلطة عبر انقلاب عسكري في يونيو 1989.
ويؤكد الباحث أن انفصال جنوب السودان أدى إلى أزمة مالية بالنسبة إلى نظام الإنقاذ، والذي اعتاد على نمط مرتفع من الإنفاق بأكثر مما كان قائماً في السنوات 1990 – 1999، وبالتالي اعتاد على هذا النمط بافتراض أنه مستمر، لكن ما حدث أن الإيرادات الحكومية تراجعت ولم تُفلح محاولات النظام في إيجاد مصادر ريعية جديدة للدخل، كالذهب أو المحاصيل النقدية كالقطن والصمغ، أو الثروة الحيوانية الهائلة التي تمتلكها البلاد.
والأهم سياسة انتزاع ملكية الأراضي الزراعية الخصبة وإخضاعها للاستثمارات الأجنبية مقابل امتيازات كبيرة لم يستفد منها المواطن السوداني استفادة مباشرة، بل أصبح البلد الذي يمتلك واحدة من أكبر المساحات الخصبة المؤهلة لزراعة المحاصيل الغذائية، يعاني من أزمة في توفير الغذاء للمواطنين، فوُضع النظام أمام اختبار جماهيري حاسم خلال مظاهرات سبتمبر 2013، والتي جاءت احتجاجاً على سياسة التقشف التي أعلنتها الحكومة لاحتواء الآثار السلبية لتراجع الإيرادات المالية بعد الانفصال.
بيد أن النظام كان لا يزال قادراً على تمويل نفقاته الأساسية المتعلقة بالدفاع والأمن، وسمح للمؤسسات العسكرية النظامية وشبه النظامية بزيادة مواردها المالية بصورة ذاتية أدت إلى تضخم قدرات هذه المؤسسات بصورة أكبر من قدرات الدولة، ما ساهم في رسم معالم المشهد السياسي في أبريل 2019.
لإحكام قبضته على السلطة سيطر نظام الإنقاذ على السياسة النقدية، وأنفق على بناء تنظيماته الأمنية
ويرى محمود أحمد عبدالعزيز أنه في ظل حكم الإنقاذ خرج الانفتاح السياسي النسبي في جانب أساسي منه بدافع اقتصادي، ثم انتهى كذلك في خضم أزمة اقتصادية خانقة متعددة الأبعاد وواسعة التأثير. كان معلمها الأساسي هو ارتفاع هائل في مستويات التضخم، وتراجع سعر الصرف الرسمي، وارتفاع فاتورة الديون الخارجية.
وعلى الرغم من أن حكومة الإنقاذ قفزت بفاتورة الأجور والدعم المخصص للسلع الإستراتيجية في سنتي 2018 و2019 كمحاولة أخيرة لامتصاص غضب الشارع الذي يعاني من تراجع مستويات المعيشة، إلا أن الإجراءات فشلت في احتواء الغضب.
كما أن النخب المعارضة أو التي انشقت عن النظام فقدت هي الأخرى ثقتها في أي إجراءات إصلاحية يُعلن عنها النظام نظراً لخبرتها بعدم وفائه بما تعهد به مثلما جرى في الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس السابق عمر البشير ولم يكن مُستعداً للقبول بنتائجه.
الأجور مهما كان مستوى ارتفاعها لا يمكن أن تصمد أمام موجات الغلاء الفاحش، فالناس لا يأكلون أجورهم ولكن يأكلون بأجورهم. وقد عجز النظام السياسي خلال هذه السنوات عن تمويل الإنفاق الأهم والأبرز بالنسبة إليه وهو الإنفاق على الأمن والدفاع، والذي وصل إلى أدنى مستوى له خلال السنوات الثلاثين، ومن ثم فقد النظام حيثيته بالنسبة إلى الجميع، النخب العسكرية والنخب المعارضة والمنشقين سابقا والقوى الخارجية، والأهم ومن قبل هؤلاء جميعا المواطن السوداني.