الحرب في السودان أعمق من الصراع على السلطة

لا تزال أطراف إقليمية ودولية تبذل جهودا حثيثة لوقف الحرب في السودان واستعادة العملية الديمقراطية نحو دولة مدنية، إلا أن عدم حل أزمة الهوية التي تغذي حركات التمرد في السودان منذ استقلاله يُبقي الأوضاع هشة.
الخرطوم - يرى محللون أن الحرب الأهلية الحالية في السودان تتجاوز مجرد صراع بسيط على السلطة بين جنرالين، بل هي انعكاس لأزمة عميقة الجذور داخل هيكل الحكم في البلاد، والتي كانت موجودة منذ حصولها على الاستقلال عن البريطانيين في عام 1956.
ومنذ الاستقلال شهد السودانيون 35 انقلابًا ومحاولة انقلاب، أكثر من أي دولة أفريقية أخرى. وفي المنطقة الجنوبية من البلاد أدى التمرد الذي دام 56 عامًا في النهاية إلى إنشاء جنوب السودان في عام 2011. واندلعت انتفاضة دارفور في عام 2003 بسبب اتهامات بأن الحكومة المركزية كانت تمارس التمييز ضد السكان غير العرب في المنطقة، ما أدى إلى عمليات قتل عرقية مازالت متواصلة إلى الآن.
ويرى الدكتور حمدي حسن، أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد في الإمارات، في تقرير نشره موقع “ذا كونفرسيشن” أن الخوض في تاريخ السودان يكشف أن البلاد تعاني من أزمة هوية طويلة الأمد غذت حركات التمرد العديدة.
ويشير حسن إلى أن عجز، أو ربما عدم رغبة، الحكومات المتعاقبة عن إدارة التنوع في البلاد والتعبير عن رؤية مشتركة أدى إلى توزيع غير عادل للثروات والموارد.
الخوض في تاريخ السودان يكشف أن البلاد تعاني من أزمة هوية طويلة الأمد غذت حركات التمرد العديدة
ويبلغ عدد سكان السودان 49 مليون نسمة. ويضم 19 مجموعة عرقية رئيسية وحوالي 597 مجموعة عرقية فرعية تتحدث مئات اللغات واللهجات. ويشكل العرب السودانيون أكبر مجموعة عرقية واحدة بحوالي 70 في المئة من السكان، فيما تتركز القوة والموارد السياسية والاقتصادية في وسط البلاد (الخرطوم على سبيل المثال).
ويرى حسن أن تحقيق السلام في السودان يتطلب التركيز على هموم السكان المهمشين في مناطق النزاع والمناطق المحرومة. وتشمل هذه دارفور وجنوب كردفان وجبال النوبة.
ويتطلب ذلك أيضًا معالجة الأسباب الجذرية للعنف المسلح. ومن بينها قضايا التهميش، والعلاقة بين الدين والدولة، والحكم، وتقاسم الموارد، والأرض، والعدالة الاجتماعية والمساواة على المستوى الوطني.
وأصرت الحكومة السودانية التي وصلت إلى السلطة عام 1956 على الهوية العربية الإسلامية. وقامت الدولة على مبادئ المهدية، وهي طريقة صوفية إسلامية تأسست في ثمانينات القرن التاسع عشر. ولم تكن تمثل المجتمعات المتنوعة وسعت إلى إخضاعها لإرادة الدولة المهدية. لقد تطلب الأمر درجة من الامتثال لم يكن الكثيرون على استعداد لتقديمها، فيما كانت المقاومة ضد المهدية واسعة النطاق.
وفي عام 1989 سيطرت حكومة جديدة على الدولة تحت حكم الجبهة الإسلامية الوطنية. وكان هذا تحالفًا بين ضباط الجيش وجماعة الإخوان المسلمين، وهي جماعة هامشية نمت لتصبح منظمة سياسية قوية.
وأدى هذا الانقلاب إلى وصول عمر البشير إلى السلطة، بدعم من الزعيم الإسلامي حسن الترابي.
وأنشأت الحكومة جهازا للأمن الداخلي، قام باعتقال المنشقين وتعذيبهم. وفي عام 1991 قدم النظام قانون عقوبات جديدا لفرض أجندة الأسلمة، وأنشأ “شرطة الشعب”.
ويشير حسن إلى وجود تطورين آخرين من شأنهما أن يخلقا الظروف الملائمة للحرب التي لا تزال مشتعلة حتى اليوم.
الأول كان القرار الذي اتخذه نظام البشير في عام 2003 بتجنيد ميليشيات الجنجويد لقمع التمرد في دارفور. وثانياً، استخدام النظام الإسلامي هذه الميليشيا الجديدة لإبقاء النخبة في الجيش السوداني بعيدا عن مناطق الصراع في الأطراف.
وفي عام 2013 عيّن البشير هذه الميليشيات القبلية رسميًا باسم قوات الدعم السريع بموجب مرسوم رئاسي. وهذا ما أدى إلى ربطها بجهاز الأمن الوطني والمخابرات.
وفي عام 2017 صادق البرلمان السوداني على قانون قوات الدعم السريع. وأدى هذا إلى دمج الميليشيات رسميًا في الجهاز العسكري الحكومي تحت القيادة المباشرة للرئيس. وتم تكليف وزير الدفاع بالإشراف على القوات المسلحة السودانية.
بعد أن اجتاحت احتجاجات عام 2018 المدن الكبرى في السودان -مدفوعة بالمظالم المتعلقة بالفقر والفساد والبطالة- تدخل الجيش في أبريل 2019، وأطاح بالبشير من السلطة وأعلن حالة الطوارئ.
وعلى الرغم من تشكيل حكومة عسكرية انتقالية استمرت المظاهرات المطالبة بقيادة مدنية.
وبوساطة من الاتحاد الأفريقي تم التوصل إلى اتفاق بشأن تقاسم السلطة في أغسطس 2019. وأسفر الاتفاق عن إدارة انتقالية عسكرية مدنية. ومع ذلك استمرت التحديات، بما في ذلك محاولة الانقلاب الفاشلة في سبتمبر 2021. وبعد شهر قاد قائد الجيش السوداني في السودان، عبدالفتاح البرهان، انقلابًا آخر، ما أدى إلى عرقلة التحول الديمقراطي في البلاد.
وتميزت الأشهر التي سبقت الحرب في أبريل 2023 باحتجاجات مدنية تم قمعها بعنف، وتوترات بين قادة الجيش وقوات الدعم السريع.
بوساطة من الاتحاد الأفريقي تم التوصل إلى اتفاق بشأن تقاسم السلطة في أغسطس 2019. وأسفر الاتفاق عن إدارة انتقالية عسكرية مدنية. ومع ذلك استمرت التحديات، بما في ذلك محاولة الانقلاب الفاشلة
وبرزت قوات الدعم السريع كقوة موازنة للقوات المسلحة. ونشرت بشكل إستراتيجي الآلاف من المقاتلين المتمرسين بالمعارك في أكبر مدن البلاد والمناطق الحدودية المضطربة والمراكز الاقتصادية مثل مناجم الذهب.
وفي ظل التحول الديمقراطي المتطور في السودان كان صعود قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى منصب نائب رئيس مجلس السيادة في عام 2021 أمرًا حاسمًا، حيث أشرف على المسار المؤدي إلى الانتخابات. وكان حل قوات الدعم السريع أو تهميش حميدتي يخاطران بإثارة الاضطرابات.
وفي البداية امتنع حميدتي عن الاستيلاء على السلطة بالقوة بعد أن قام بضم قواته كحلفاء للجيش، الذي كانت لديه أيضًا مشاريع اقتصادية كبيرة. لكن انقلاب قائد الجيش في أكتوبر 2021 أوقف التقدم الديمقراطي في السودان.
ووسط القمع والتدهور الاقتصادي، وسعت قوات الدعم السريع نفوذها من خلال المشاريع التجارية والتعاقدات. وجاءت محاولة الجيش لدمج هذه القوات بنتائج عكسية، ما أدى إلى مواجهات مسلحة وسيطرة قوات الدعم السريع على المناطق الحيوية.
ويحتاج السودان إلى جهد تعاوني من المجتمع الدولي للمساعدة على إعادة الإعمار. ويتعين عليه إنشاء حكومة تتسم بالشفافية ويقودها مدنيون وتمثل الشعب السوداني وتسمع أصواته في عمليات صنع القرار.
وهناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لإعادة بناء دولة السودان ما بعد الاستعمار باعتبارها دولة تشمل حقوق الجميع وتحميها.