الجنوب السوري بؤرة صراع على طريق الاشتعال

دمشق - يبدو الجنوب السوري عالقًا على نحو خطير بين كمّاشة واقعَين. الأول هو الحملة الحازمة التي تشنّها إسرائيل لإبطال التهديدات الحدودية، ولاسيما بعد الهجوم المباغت الذي شنّته حماس ضدّها يوم 7 أكتوبر من العام الماضي. والثاني هو ترسُّخ إيران المتعاظم في المناطق الحدودية في جنوب سوريا، خصوصًا محافظة القنيطرة، بهدف ضمان نفوذها الجيوسياسي في المنطقة.
ويقول أرميناك توكماجيان وهو باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت في تقرير نشره المعهد إنه ما لم يطرأ تغييرٌ بارز على الوضع الراهن، فمن الممكن أن يحدث تصعيد عسكري في المستقبل قد يقوّض الاستقرار الإقليمي من جديد.
وعند النظر إلى منطقة جنوب سوريا بعد عودة القوات الحكومية السورية إليها في العام 2018، يلاحظ مفارقة، فنشرُ الجيش وقوى الأمن هناك ارتكز إلى حدٍّ كبير على تفاهمٍ بين روسيا، والولايات المتحدة، وإسرائيل، والأردن، وعلى سماح نظام الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق بعودتهما، شرط ألا تعود معهما إيران وحلفاؤها.
وكان على موسكو أن تضمن هذا الترتيب، غير أن ما نشهده اليوم هو تنافسٌ للسيطرة على الجنوب السوري، ازدادت خلاله قوة إيران فيما تقهقر نفوذُ كلٍّ من روسيا ونظام الأسد. وكانت الحرب على أوكرانيا السبب الرئيس في التراجع النسبي للنفوذ الروسي، بعد أن أرغمت موسكو على إعادة تخصيص مواردها، وإعادة تركيز طاقاتها.
وقبل ذلك، كان لروسيا حضورٌ متعدِّد الأوجه في سوريا، حيث اضطلعت بدور المحارب النشط مع انتشار عسكري على الأرض؛ وكان لها دورٌ دبلوماسي نافذ في المفاوضات لحلّ الصراع السوري؛ وأدّت كذلك دورًا وسيطًا استثنائيًا للتوصّل إلى اتفاقات بين قوى فاعلة لم تكن على تواصل مباشر في ما بينها، ما عزّز نفوذ موسكو.
وقد جاء الاتفاق على عودة القوات الحكومية إلى الجنوب في العام 2018 نتيجةً عرَضية لهذا الموقع الفريد. لكن مذّاك الحين، استغلّت إسرائيل وإيران تراجع النفوذ الروسي، بموازاة التقهقر المتواصل لقوة نظام الأسد نتيجة مجموعةٍ من العوامل، بما فيها العقوبات الأميركية، واستمرار عزلة سوريا على المستوى الإقليمي، والانهيار المنهجي للدولة السورية جرّاء الانتفاضة.
وتجلّت محصّلة هذا الوضع الكارثي على الصعيدَين الاقتصادي والسياسي. ففي حين كانت قيمة العملة السورية مثلًا 3600 ليرة مقابل الدولار يوم بدأت روسيا هجومها ضدّ أوكرانيا، أمست اليوم أقلّ من 14000 ليرة بقليل، أي تراجعت بنسبة 290 في المئة. وأحد المؤشّرات الأخرى على هذه المحصّلة يأتي من السويداء، حيث تنظّم الطائفة الدرزية، غير المتوائمة مع المعارضة تاريخيًا، احتجاجاتٍ متواصلةً ضدّ النظام أغسطس 2023، لفشله في توفير الأمن والاستقرار والخدمات الأساسية، من جملة أمور أخرى، وهي احتجاجات لم تتمكّن السلطات من كبحها.
وفي غضون ذلك، تُبدي دولٌ عربية أخرى، ولاسيما الأردن، قلقها إزاء المستجدّات في الجنوب السوري، إلا أن قدرتها على التأثير في مسار الأحداث هناك تبقى ضئيلة. ومع ذلك، وإن كان النفوذ الإيراني آخذٌ في التنامي، لا تبسط طهران سيطرتها على الجنوب وتواجه عقبات كثيرة هناك، أبرزها من إسرائيل التي تواصل منذ العام 2013 استهداف عناصر الحرس الثوري الإيراني ومسؤولين في حزب الله، إذ شنّت ما يزيد عن 240 غارةً في أرجاء سوريا كافّة.
ويُضاف إلى ذلك أن طهران قوبِلَت أيضًا بصدٍّ محلّي. فالإيرانيون لم يحقّقوا سوى تقدّم محدود في درعا والسويداء، نظرًا إلى أن سكان المحافظتَين بمعظمهم معادون لإيران. وتُظهِر البيانات حول الغارات التي شنّتها إسرائيل في سوريا، بين العام 2013 وفبراير 2024، أن درعا والسويداء استُهدِفتا سبع مرّات فقط، أي بوتيرة أقلّ بكثير من محافظة ريف دمشق، التي تعرّضت للغارات مئات المرّات تقريبًا. وهذا يدلّ على أن إسرائيل لا ترى في محافظتَي درعا والسويداء تهديدًا كبيرًا لها.
◙ ما يمنح إيران أفضلية إستراتيجية في الجنوب السوري هو الفوضى التي أعقبت عودة القوات الحكومية في العام 2018، حيث لا يزال الوضع الأمني محفوفا بالمخاطر
لكن لا يخفى أن إيران حقّقت بعض النجاحات أيضًا، ولاسيما في مرتفعات القنيطرة التي لا تزال خاضعة للسيطرة السورية وتطلّ على الجولان الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي. واستطاعت إيران وحلفاؤها تعزيز موقعهما في المنطقة فمن الناحية الجغرافية، تتيح تضاريس المنطقة الجبلية والوعرة التخفّي، ما يُسهّل عمليات الميليشيات وتَحرُّكها ثم إن قرب القنيطرة من الحدود اللبنانية، التي تخضع لسيطرة حزب الله، ومن جنوب محافظة ريف دمشق حيث النفوذ الإيراني واضح، يؤكّد أكثر أن المنطقة ككلّ تشكّل مركزًا لممارسة أنشطة موالية لإيران.
وفضلًا عن ذلك، أتاحت الديناميات المحلية في القنيطرة خلال الانتفاضة السورية فرصًا لإيران وحلفائها. فبين العامَين 2015 و2018، بسطت جماعة جبهة النصرة السنّية المتطرّفة سيطرتها على المنطقة، وهدّدت سكانها الدروز والمسيحيين قليلي العدد. فعمد هؤلاء ردًّا على ذلك إلى نسج روابط مع إيران، وخصوصًا مع حزب الله، حمايةً لأنفسهم، الأمر الذي أفسح المجال للإيرانيين بالاحتفاظ بموطئ قدم على جبهة القنيطرة طوال فصول الصراع السوري.
ولهذا السبب على الأرجح أصبحت القنيطرة، منذ العام 2013، ثاني أكثر الأهداف التي كرّرت إسرائيل غاراتها عليها، بحيث تعرّضت للقصف 30 مرة. وما يمنح إيران أفضلية إستراتيجية في الجنوب السوري هو الفوضى التي أعقبت عودة القوات الحكومية في العام 2018. فالوضع الأمني لا يزال محفوفًا بالمخاطر، والاقتصاد غير الشرعي آخذٌ في التنامي، وكلاهما ساهم في إرساء بيئة مواتية لتوسّع النفوذ الإيراني.
والواقع أن خبرة إيران في العمل في مثل هذه البيئات في الشرق الأوسط غير مسبوقة. في المبدأ، كان يُفترَض بنظام الأسد ومؤسّساته التمتّع بالأفضلية، نظرًا إلى معرفتهما للواقع المحلّي، إلا أنهما يفتقران إلى الموارد، وفقدا آليات السيطرة التي كانت لديهما قبل العام 2011، ويعتمدان اليوم بشكل كبير على طهران.
واللافت أن روسيا عزّزت وجودها على طول مرتفعات الجولان بعد بداية الحرب على غزة العام المنصرم، من خلال إنشاء عددٍ من مراكز المراقبة. ومن شأن هذا الحضور أن يزيد الضغط على إيران، أو يساعد على تخفيف وطأة المواجهة الإيرانية الإسرائيلية في جنوب سوريا، حتى لو لم تتمكّن موسكو من استبدال النفوذ الإيراني أو إلغائه.
ولا تعتمد روسيا على إيران فقط بسبب الحرب في أوكرانيا، بل لأنها فشلت أيضًا في بناء شبكة قوية من الوكلاء المحليين المرتبطين بشبكات المحسوبية مثلما فعلت إيران. ولذا، في حال استمرّت إيران في تعزيز موقعها قرب الجولان المحتلّ، أو في نشر المزيد من السلاح هناك، فالصراع مع إسرائيل قد يصبح واقعًا لا مفرّ منه.