المصالحة والقانون والمرأة.. ثالوث صناعة المستقبل في رواندا

على الرغم من الإبادة الجماعية الأكثر فظاعة في أواخر القرن الحادي والعشرون، استطاعت رواندا تجاوز الآلام والأحقاد لتبني نهضة اقتصادية واجتماعية نموذجية في أفريقيا. وكان للمصالحة الدور المركزي في كل ذلك.
كيغالي - أحيت رواندا الأحد الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية التي راح ضحيتها 800 ألف شخص خلال مئة يوم فقط، لكن بعد مرور ثلاثة عقود تغلب الحس الوطني على الحميّة القبلية وشهدت كيغالي طفرة اقتصادية واجتماعية نهضت بها.
ويؤكد محللون أن ثالوث المصالحة والقانون والمرأة شكل نهضة كيغالي التي شهدت أكبر المذابح مأساة وقسوة في نهاية القرن العشرين.
وفي 6 أبريل 1994، اغتيل الرئيس الرواندي هباريمانا بإسقاط طائرته لدى هبوطها في كيغالي لدى قدومها من تنزانيا، وعلى متنها رئيس بوروندي المجاورة وعدد من كبار مسؤولي البلدين، وأعقب ذلك اندلاع قتال بين عرقيتي التوتسي والهوتو، ما أدخل البلاد في حرب إبادة جماعية لم يحرك المجتمع الدولي ساكنا لوقفها.
وخلال مئة يوم، وصل عدد القتلى الى حوالي 800 ألف شخص وتعرض نصف مليون امرأة للاغتصاب، ونزح نصف الشعب داخل البلاد وخارجها، ورفضت الأمم المتحدة طلب زيادة قوات حفظ السلام لوقف الإبادة فيما أبادت الحرب ما يقرب من 90 في المئة من التوتسي داخل رواندا.
وانتخب بول كاغامي رئيسا للبلاد في أبريل 2000، ليصبح مهندس إعادة إعمار بلد مدمر وليعمل على إنجاز مصالحة صعبة.
واتجه كاغامي إلى العديد من المسؤولين عن الإبادة الجماعية وأعلن دستورا جديداً في عام 2003 تضمن التنصيص على العديد من المبادئ الحديثة: مكافحة الفساد والحكم الرشيد ومكافحة الانقسامات العرقية، حتى أنه حظر استخدام مصطلحات “التوتسي – الهوتو” في بطاقات الهوية.
وبداية من عام 2002 تم تشكيل أكثر من 12000 محكمة شعبية في كل مناطق رواندا، وفي كل محكمة تسعة قضاة يختارهم السكان، وتقام المحاكمات في الساحات، أما تمويلها، فكان بأن يدفع كل متهم مستطيع دولارا واحدا.
وفي سنة 2012 كان قد تم الانتهاء من محاكمة مليونين من المتهمين، وأدين 65 في المئة منهم، وتفاوتت العقوبات من السجن إلى العمل في حقول الضحايا أو تنظيف القرية.
وسعى كاغامي إلى إعادة هيكلة المجتمع سياسيا واجتماعيا وثقافيا مؤمنا بأن السلطات المركزية القوية يمكن أن تحمي المجتمع من أيّ صراعات عقائدية أو قبلية موروثة.
وكان دستور 2003 يمنح الرئيس فترة ولاية مدتها سبع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. ولكن تم تعديله في استفتاء مثير للجدل في عام 2015 لتسمح التغييرات، التي تمت الموافقة عليها بنسبة 98 في المئة من الأصوات، للرئيس بالترشح لولاية ثالثة مدتها سبع سنوات ثم يخدم فترتين أخريين مدة كل منهما خمس سنوات تبدأ في عام 2024.
ويقود كاغامي حاليا بلاده نحو المزيد من التطور في شتى المجالات، ويسعى إلى إعادة تأسيسها على ثوابت جديدة تعتمد مبادئ العدل والمساوة بين مكوّنات المجتمع وتحقيق الرفاه الاقتصادي المبني على نهضة علمية وثقافية وهوية وطنية موحدة.
واليوم يعتبر معدل النمو الاقتصادي في رواندا من بين الأعلى في أفريقيا وبلغ خلال العقدين الماضيين حوالي 8 في المئة سنويا.
واستند هذا النجاح إلى أرباح الصادرات الزراعية مثل الشاي والقهوة، واستخراج المعادن والسياحة والقطاع العام الكبير. وفي الوقت نفسه نجحت جهود تنويع مصادر الاقتصاد مؤخرا في صعود قطاع التكنولوجيا، ومبادرات تطوير القوة العاملة.
معدل النمو الاقتصادي في رواندا من بين الأعلى في أفريقيا وبلغ خلال العقدين الماضيين حوالي 8 في المئة سنويا
كما شهدت البلاد تحسّنا كبيرا في الناحية الصحية بفضل نظام التأمين الصحي الذي غطى حوالي 90 في المئة من السكان.
وزاد متوسط العمر المتوقع للمواطن الرواندي إلى الضعف خلال عقدين بعد المذبحة. وانخفضت معدلات وفيات الأطفال والإصابة بمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز).
وعلاوة على ذلك تعاملت رواندا مع جائحة فايروس كورونا المستجد بطريقة جيدة وسجلت أحد أعلى معدلات التطعيم ضد الفايروس على مستوى أفريقيا، وضخت استثمارات كبيرة في المنشآت الصحية الريفية.
وبحسب البنك العالمي فإن رواندا صاغت رؤية جريئة لتصبح محايدة للكربون بحلول عام 2050، مع تدخلات طموحة للتكيف مع المناخ والتخفيف من آثاره، بتكلفة تبلغ 11 مليار دولار بحلول عام 2030.
ويعتبر بنك التنمية الأفريقي وصندوق النقد الدولي رواندا واحدة من أكثر الدول الواعدة اقتصاديا في القارة الأفريقية.
ومع نمو بنسبة 7.9 في المئة في الفترة من 2010 إلى 2015، يمكنها أيضًا أن تتباهى بتخفيض معدل الفقر بشكل كبير (56 في المئة في عام 2005 مقابل 39 في المئة في عام 2014).
بنك التنمية الأفريقي وصندوق النقد الدولي يعتبران رواندا واحدة من أكثر الدول الواعدة اقتصاديا في القارة الأفريقية
وتعتبر رواندا “أنظف دولة في أفريقيا، والأكثر أمانا، ولديها حكومة مستقرة وبرلمان يضم أكبر أغلبية من النساء في العالم. وهي تتمتع، بعد بوتسوانا، بأفضل نظام لمكافحة الفساد في أفريقيا”.
وتمثل الخدمات أكبر قطاع في اقتصاد رواندا وتشكل 53 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. وأهم القطاعات الفرعية للمجال الخدمي هي: أنشطة العقارات (8 في المئة)، وتجارة الجملة والتجزئة (8 في المئة)، والخدمات الثقافية والمحلية والأخرى (6 في المئة)، وأنشطة الدعم الإداري والخدمات العامة والدفاع والضمان الاجتماعي الإلزامي (5 في المئة لكل منها).
وتشكل الزراعة والغابات وصيد الأسماك 29 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مع مساهمة المحاصيل الغذائية بنسبة 17 في المئة، بينما يشكل القطاع الصناعي 18 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، حيث يعد البناء (7 في المئة) والتصنيع (6 في المئة) أكبر حصصٍ فيه.
وأما على الصعيد الاجتماعي فإن رواندا تمثل نموذجا نجاحا لتقليل الفجوة بين الجنسين في البرلمان حيث يضم أكبر نسبة من النساء مقارنة بأيّ برلمان آخر في العالم بنسبة بلغت 64 في المئة.
وأصبحت نسبة استمرار الأطفال في المدارس الأعلى على مستوى قارة أفريقيا. ورغم ذلك فإن مدى التقدم الحقيقي في رواندا مازال موضع جدل بسبب التناقضات المحتملة في البيانات.
وكان دستور رواندا للعام 2003 قد خصص للنساء حصّة 30 في المئة من مجموع المناصب المنتخَبة في الحكومة سعيا إلى تعزيز المساواة بين الجنسين وزيادة تمثيل المرأة في مناصب صنع القرار.
ومهّد هذا التمثيل الطريق لإصلاحات كبيرة قادتها البرلمانيات مثل المساواة في تملّك الأراضي، والمساواة في الأجور في قوانين العمل.
وينصّ القانون على وجوب أن تشغل النساء 30 في المئة من جميع المناصب المنتخبة في هيئات صنع القرار على الصعيدين الوطني ودون الوطني، بما في ذلك 24 مقعدا من أصل 80 مقعدا في مجلس النواب في البرلمان.