حرب غزة توسع عدم الاستقرار في سوريا

دمشق - تتوسع الصراعات في عدة مناطق وسط الاهتمام العالمي بغزة والأراضي الفلسطينية، إذ أن إحدى الضحايا الرئيسيين للحرب المستمرة بين إسرائيل وحماس، وإن كانت غير معترف بها إلى حد كبير، هي قدرة العالم على التخفيف من حدة الصراعات الأخرى الملحة ومعالجتها.
ويقول ألكسندر لانجلوا، وهو محلل للسياسة الخارجية يركز على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في تقرير نشرته مجلة ناشيونال أنتريست، إن سوريا تقدم دراسة حالة واحدة تجسد هذه الديناميكية، وتثبت أن مجرد “تجميد” الصراعات أو السماح لها بالتفاقم يمكن أن تكون له آثار كارثية على الطريق، خاصة عندما تستخدم الجهات الفاعلة عدم الاستقرار لتعزيز مصالحها.
وأعرب الكثير من الخبراء والمسؤولين عن قلقهم بشأن توسيع نطاق الحرب بين إسرائيل وحماس وهم يحددون المخاطر الحقيقية والمبررة، وخاصة عند ملاحظة التصاعد الكبير في حوادث العنف في جميع أنحاء سوريا منذ 7 أكتوبر الماضي.
والواقع أن أصحاب المصلحة الرئيسيين المنخرطين في الحرب السورية المستمرة منذ ثلاثة عشر عاما اتخذوا خطوات مهمة لتعزيز مصالحهم في سوريا بعيدا عن ظلال تدخل إسرائيل وأعمال الإبادة الجماعية في غزة واحتلالها المستمر للأراضي الفلسطينية.
تصرفات تركيا
التزمت أنقرة بحملة جوية جديدة وشاملة ضد قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة والإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا. ويهدد الرئيس رجب طيب أردوغان الآن بعملية برية أخرى في شمال وشرق سوريا، بغض النظر عن “التهديدات” التي منعت العمليات السابقة. وهو يشير إلى وجود القوات الروسية والأميركية في شمال غرب سوريا وإقليم شمال شرق سوريا، على التوالي، والذي أدى إلى منع أي تقدم من هذا القبيل نظراً للمخاطر المرتبطة بهما.
وتعمل جهات فاعلة أخرى أيضًا على تعزيز مصالحها في سوريا. وبحسب ما ورد من معلومات حققت إيران و”محور المقاومة” التابع لها تقدمًا كبيرًا في جميع أنحاء البلاد منذ 7 أكتوبر، حيث تشير مصادر محلية إلى أن طهران قامت بتوسيع عدد المنشآت العسكرية داخل البلاد في الأشهر الأخيرة وذلك بالاعتماد على الحرس الثوري. وبالتوازي مع ذلك هاجمت الميليشيات المدعومة من إيران المنشآت العسكرية الأميركية حوالي 180 مرة في سوريا والعراق والأردن منذ 7 أكتوبر تضامنا مع فلسطين.
وتواصل واشنطن الرد على هذه الهجمات بالقوة العسكرية إلى حد كبير ضد نفس الميليشيات في كل من سوريا والعراق. وزاد الأردن هجماته على شبكات تهريب الكبتاغون في جنوب سوريا وسط تزايد عمليات التهريب عبر الحدود، والتي يدعمها نظام الرئيس السوري بشار الأسد والميليشيات المدعومة من إيران، والتي تستمر في التوسع.
وتقصف إسرائيل بانتظام محور المقاومة في جميع أنحاء سوريا، بما في ذلك البنية التحتية المدنية مثل مطاري حلب ودمشق، في ضوء التقارير عن تهريب أسلحة الحرس الثوري الإيراني في هذه المواقع. وتواصل قوات النظام شن ضربات غير مسبوقة على قوات المعارضة. وتدرك كل جهة من هذه الجهات الفاعلة الواقع السوري في إطار الجغرافيا السياسية الإقليمية الأوسع، حتى لو ادعى الجميع أنهم يرفضون توسيع الحرب بين إسرائيل وحماس.
◙ في حالة إيران، يعد التضامن الفلسطيني وسيلة لتقويض منافسي طهران، على أمل إجبار الولايات المتحدة على الانسحاب من المنطقة
وتدعي بعض الجهات الفاعلة -وتحديداً إيران- التضامن مع فلسطين لتعزيز مصالحها، وتضرب القوات الأميركية دون كلفة تذكر. وتعزز هذه الإجراءات وغيرها شعبية محور المقاومة في جميع أنحاء المنطقة، كما تشهد على ذلك هجمات حركة الحوثي المتمركزة في اليمن على سفن الشحن الدولي في البحر الأحمر.
ويرفض العديد من صناع القرار والخبراء الغربيين بشكل غير صحيح التأكيدات على أن هذه الأعمال مرتبطة بالحرب بين إسرائيل وحماس. ومع ذلك، فإن المنطق الحقيقي وراء الهجمات لا معنى له إلى حد كبير مقارنة بالهدف المقصود الذي تسعى هذه الجهات الفاعلة إلى تحقيقه من خلال أفعالها وخطاباتها. وفي الواقع، في حالة إيران، يعد التضامن الفلسطيني وسيلة لتقويض منافسي طهران، على أمل إجبار الولايات المتحدة على الانسحاب من المنطقة.
وبالتالي تظل سوريا عنصرًا أساسيًا في المنافسة الإقليمية، لكنها مازالت تحظى بأولوية منخفضة في ما يتعلق بالقضايا الدولية والإقليمية الأخرى. وعلى الرغم من أن ما يقرب من 500 ألف شخص لقوا حتفهم في الحرب، إلا أن التباطؤ التدريجي في الأعمال العدائية على مر السنين ونشوء صراعات جديدة في جميع أنحاء العالم أديا في وقت لاحق إلى تحويل تركيز العواصم العالمية.
إدارة الصراعات
تسببت الجولة الأخيرة من القتال الوحشي داخل غزة في تدهور القدرات الدولية ورأس المال السياسي لمواصلة التركيز على سوريا بعد الانشغال باليمن وأوكرانيا. ومما يثير القلق بنفس القدر أن الإستراتيجية الافتراضية في كل صراع من هذه الصراعات تنطوي بشكل متزايد على أدوات سياسية صارمة وجهود “لتجميد” الصراع. وبينما يواجه العالم حالة من عدم الاستقرار المتزايد بسبب الدرجة العالية من الصراعات الطويلة الأمد، يختار زعماء العالم حلولاً سريعة تفشل في تحقيق السلام أو تهدئة الوضع.
وعلى هذا النحو أصبحت إدارة الصراعات هي الاسم السائد في اللعبة، وهو ما كان على حساب الاستقرار الحقيقي المستدام في غرب سوريا وأجزاء أخرى من العالم. ويعود هذا الواقع إلى الافتقار إلى الشجاعة السياسية، وليس إلى الخيارات السياسية البديلة. والواقع أن زعماء العالم يختارون السماح باستمرار الوضع الراهن المجمد في سوريا، ملتزمين بمواقف سياسية صارمة ذات أهداف غامضة.
◙ الجولة الأخيرة من القتال الوحشي داخل غزة تسببت في تدهور القدرات الدولية ورأس المال السياسي لمواصلة التركيز على سوريا
ويجسد الوجود العسكري الأميركي في شمال وشرق سوريا هذا الواقع، حيث أنه من غير الواضح سبب بقاء القوات الأميركية في البلاد بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش). وتفتقر واشنطن إلى سياسة حقيقية تجاه سوريا، وتدعي أن قواتها ضرورية لمنع عودة تنظيم داعش، في حين أن السبب الحقيقي لنشر قواتها له صلات قوية بـ”الحروب الأبدية” التي اندلعت بعد أحداث 11 سبتمبر؛ أي الحد من النفوذ الإيراني وكسر “الهلال الشيعي” من لبنان إلى إيران.
وإذا كان ذلك كذلك فإن الواقع في سوريا اليوم هو صراع لا ينتهي أبدًا، حيث تعمل الجهات الدولية الفاعلة على تعزيز مصالحها الإقليمية من خلال الوسائل العسكرية التصعيدية على حساب حل الصراع. وهذا يؤدي إلى إطالة أمد الحرب وسط العديد من القضايا الإقليمية والعالمية الجديدة، ما يجهد قدرة الدول المعنية الرئيسية على معالجة أي صراع من الصراعات.
والأسوأ من ذلك أن منظومة الأمم المتحدة تواجه بشكل متزايد قيود تمويل كبيرة تتسبب في خفض المساعدات في سوريا، وهي واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم اليوم. ولدى سوريا قدرة محدودة على مواجهة قدر كبير من عدم الاستقرار، وهو ما يتفاقم بشدة بسبب القرارات السياسية الانتهازية التي تتخذها جميع أطراف الحرب السورية.
ويرى لانجلوا أن تصاعد عدم الاستقرار هو نتيجة لهذا الوضع، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى انسداد آفاق السلام في البلاد وتزايد الصراعات الأخرى مع زيادة مخاطر الحرب الأوسع والمعاناة الإنسانية. وعند نقطة معينة، يتعين على زعماء العالم ذوي النفوذ أن يتخذوا قرارات صعبة تركز على الناس وتكون عملية إذا كانوا يأملون في تحسين الوضع الجيوسياسي والتخفيف من الانزلاق المستمر نحو عدم الاستقرار الإقليمي والعالمي والمنافسة على نطاق أوسع.