نزيف المهندسين يفاقم أزمة هجرة الكفاءات في تونس

الهجرة حلم آلاف المهندسين أملا في حياة أفضل.
الاثنين 2024/03/18
الجميع الآن يريد المغادرة

تتكبّد البلاد التونسية بسبب تزايد هجرة الأدمغة، لاسيما في صفوف المهندسين، خسائر فادحة تساهم في هدر الثروة البشرية، وهو ما يرجع متخصصون أسبابه إلى تدني الأجور، بالإضافة إلى اهتزاز صورة هذه المهنة اجتماعيا وفقدان التقدير الكامل للعاملين بها، ففي حين تكافح تونس لمواجهة نزيف المهندسين يرى البعض أن إيقافه سيكون صعبا، نظرا لتأخر الكثير من الإصلاحات.

تونس - أنهت ريم بن أحمد دراستها الجامعية في اختصاص الهندسة بمجال تكنولوجيا الاتصال في 2022، وبعد نحو ثلاثة أشهر فقط من العمل غادرت البلاد لتستقر في العاصمة الفرنسية باريس بعد حصولها على عقد عمل.

وتعد ريم من بين الآلاف من المهندسين الذين يغادرون تونس سنويا بحثا عن فرص عمل أفضل وحياة أكثر رفاهية في دول الاتحاد الأوروبي.

وتوضح بن أحمد في حديثها لوكالة الأنباء الألمانية من مقر عملها في باريس أن “مرتب العمل في تونس لا يغطي الالتزامات ولا يلبي الطموح المهني في المستقبل، أضف إلى ذلك الأزمة الاقتصادية الخانقة في البلاد”، مشيرة إلى أن “ظروف العمل لم تكن مشجعة بما في ذلك العلاقة المهنية مع أرباب المؤسسات بجانب الضغوط اليومية”.

قبل انتقالها إلى باريس لم يكن راتب ريم يتعدى في تونس 800 دينار تونسي (250 أورو)، بينما لا يقل راتبها الحالي في فرنسا عن 1700 أورو.

المنصف بوكثير: هجرة الأدمغة وصلت إلى مستويات تدعو إلى القلق
المنصف بوكثير: هجرة الأدمغة وصلت إلى مستويات تدعو إلى القلق

وتتقاسم ريم مع شقيقتها الكبرى في تونس وشقيقها الذي يعمل هو الآخر بالولايات المتحدة، أعباء مصاريف العائلة في تونس من خلال إرسال حوالات شهرية مثل مئات الآلاف من المغتربين التونسيين.

ومن بين حوالي 12 مليون نسمة يعيش أكثر من مليون و700 ألف تونسي خارج البلاد أغلبهم في دول الاتحاد الأوروبي. ويبلغ تعدادهم في فرنسا أكثر من مليون.

وكشف كمال سحنون، عميد المهندسين التونسيين، أن عدد المهندسين الذين يتخرجون سنويا من الجامعات التونسية يعد ما بين 8000 و8500. ويغادر البلاد سنويا حوالي 6500 إلى الخارج بعد اكتساب التجربة وإتقان المهنة.

وأوضح سحنون في تصريحات سابقة بأن 39 ألف مهندس غادروا تونس خلال الست سنوات الأخيرة، أي بمعدل 6500 مهندس سنويا و20 مهندسا يوميا، مشيرا إلى أن الدولة التونسية تنفق على تكوين 6500 مهندس 650 مليارا سنويا، ثم تهديهم إلى اقتصاديات دول أخرى.

وتشير إحصاءات عمادة المهندسين إجمالا إلى مغادرة أكثر من 40 ألف مهندس لتونس منذ العام 2015، في حين تتوقع ريم أن يكون العدد أكبر من ذلك، لافتة إلى أن كل المتخرجين من دفعتها لم يبق منهم أحد في تونس.

وأفضى آخر جرد لعمادة المهندسين في قطاع المياه، على سبيل المثال، إلى مغادرة سبعة مهندسين بالمنشآت العمومية العاملة في هذا القطاع إلى الخارج في خلال ستة أشهر من العام 2023. ولم يتسن تعويضهم.

ويرى سحنون أن “المهندس التونسي يتمتع بالكفاءة والتكوين الجيدين وسرعة الاندماج ما يجعله محط اهتمام دول أفريقيا وأوروبا وأستراليا والخليج العربي التي تسعى لاستقطابه مع توفير كل الظروف الملائمة له”.

وهذا ما يمثل خسارة مزدوجة لتونس، فعلاوة على هجرة الكفاءات، فإن كلفة تكوين مهندس واحد من المال العام تناهز 100 ألف دينار (حوالي 30 ألف أورو)، وفق عمادة المهندسين، أي ما يقارب 650 مليون دينار كلفة 6500 مهندس مغادر.

الاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي الأول لتونس يستحوذ على النسبة الأعلى من الكفاءات التونسية، بما في ذلك المهندسون

ويقول عميد المهندسين التونسيين إن هذا المبلغ المهدور يسمح ببناء مستشفى أو كلية أو مطار. وهذه من بين المعاضل التي تعوق إصلاح المؤسسات العمومية المتعثرة في تونس، والحد من استنزاف المالية العمومية الصعبة.

وتفاقمت وتيرة ظاهرة الهجرة في سنوات ما بعد الثورة، واحتلّت تونس مراتب متقدمة عربيا، لناحية هجرة الكفاءات العلمية والنخبة من الأكاديميين. ويعزو متخصصون الأسباب إلى تدني الأجور وعدم توفر المناخ والإمكانيات المناسبة للبحث العلمي في تونس.

إذ يشكل ضعف الرواتب، في الغالب، الدافع الأساسي للهجرة، حيث تعد رواتب المهندسين التونسيين الأضعف في المنطقة بشمال أفريقيا على الرغم من أنهم الأعلى تكوينا. وعلى سبيل المثال يتقاضى المهندس في المغرب أربعة أضعاف ما يتقاضاه المهندس في تونس.

الاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي الأول لتونس يستحوذ على النسبة الأعلى من الكفاءات التونسية، بما في ذلك المهندسون

ويلفت سحنون إلى أنه “عندما يتخرج المهندس يجد نفسه يعاني من ظروف مهنية ومادية صعبة لهذا نحن نخسر يوميا حوالي 18 مهندسا يغادرون أرض الوطن ولا يتم تعويضهم فيما بعد”.

ويعد الوضع أكثر تعقيدا في القطاع الخاص، حيث يؤكد سحنون أن “مفاوضات الزيادات لأجور المهندسين في القطاع الخاص فشلت”، فرغم “توقيع اتفاق منذ 2021″، فإنه لم يتم تفعيله حتى الآن.

ويتراوح المرتب في القطاع الخاص للمهندسين الشباب ما بين 600 و800 دينار تونسي (ما يعادل 193.42 و257.90 دولار أميركي) بما في ذلك منحة حكومية بـ200 دينار (نحو 64.47 دولار أميركي). ويقول مهندسون في وقفات احتجاجية متكررة إن المرتب مهين ولا يتطابق مع المجهود الدراسي.

وهناك عامل آخر ضاعف من محنة المهندسين في تونس، وهي اهتزاز صورة هذه المهنة اجتماعيا. ويقول عميد المهندسين “فقد المهندسون التقدير الكامل ولم يعد الوضع كما كان في الماضي في عقد الثمانينيات. وهذا عنصر مهم مع الجانب المادي”. وتؤكد ريم بن أحمد من باريس “في تونس بكيت كثيرا بسبب الضغوط في العمل وأرهقني هذا كثيرا. ولكن هنا، سلطة القانون قوية. يمكنك الدفاع عن حقوقك المهنية ضد أي انتهاك”.

ويتناقل المغادرون من الكوادر الشباب في عدة قطاعات، صور المغادرة من مطار تونس قرطاج الدولي عبر مواقع السوشيال ميديا. ويحصل هؤلاء على عقود انتداب من الخارج بشكل مباشر أو بعد حصولهم على عروض من برامج التعاون الفني للدولة التونسية مع الخارج وفي إطار برامج تدريب مهني.

وتكشف ريم أن هناك عاملا آخر محفز للمغادرة لا يقل أهمية بالنسبة إليها وآلاف الشباب التونسيين، ألا وهو أن “العمل والإقامة الدائمين في إحدى الدول الأوروبية يسمح بحرية التنقل والسفر إلى عدة وجهات من دون قيود واستكشاف العالم وفرص أخرى”.

ومع تصاعد موجة المغادرة حذر وزير التعليم العالي والبحث العلمي التونسي المنصف بوكثير أثناء مشاركته في مؤتمر في بروكسل حول “التعاون الدولي في مجال البحث العلمي”، من أن هجرة الأدمغة من تونس وصلت إلى مستويات تدعو إلى القلق خاصة في صفوف الكفاءات العليا.

هه

وتشير بيانات المرصد الوطني للهجرة في تونس إلى أن أكثر من 30 ألفا من الكوادر في المتوسط، يغادرون البلاد سنويا، وهو رقم ضخم في بلد يعد حوالي 12 مليون نسمة. ويستحوذ الاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي الأول لتونس على النسبة الأعلى من الكفاءات التونسية بما في ذلك المهندسون.

وترى ريم أنه “سيكون من الصعب تدارك الوضع الحالي على المدى المتوسط لإيقاف النزيف”، قائلة “الإصلاحات تأخرت كثيرا وسيحتاج الأمر إلى جيل آخر. الجميع الآن يريد المغادرة من أجل حياة أفضل”. وتتابع الشابة العشرينية “المعضلة في تغيير العقلية قبل الإمكانيات. يجب القضاء أولا على المحسوبية وإعلاء معيار الكفاءة. المرتبات أيضا كارثية، وفي المقابل كلفة العيش في صعود”.

ولكن تجربة ريم قد لا تتوقف عند فرنسا، حيث كشفت قائلة “بدأت هنا بمرتب ضعيف ولا أتقاضى كما يتقاضى الموظف الفرنسي. أفكر جديا في تغيير البلد مع تصاعد الموجة العدائية ضد المهاجرين والقوانين المقيدة. وهناك مبالغة أيضا في الضرائب”. ومع ذلك تحتفظ الفتاة بآمالها في تغير إيجابي في وضعها. وتضيف بحماس “أتوقع أن الأمور ستتحسن مع مرور الوقت وزيادة الخبرة والكفاءة”.

16