متاحف افتراضية تنبش في الآثار المندثرة بالعراق

يواصل أيوب ذنون المؤسس لمبادرة إحياء روح الموصل التعريف بما اندثر أو كاد من تراث العراق عبر تنظيمه وفريقه جولات افتراضية تحمل زوار كل من مدينتي الموصل والبصرة إلى مواقع دمرتها الحرب والنهب، مع التخطيط لأن تشمل المبادرة بقية مدن البلاد.
نينوى (العراق) - "كنت أتمنى أن تكون حقا هذه هي الموصل الحقيقية، التي يحدثني عنها والداي كثيرا حينما عاشا بها، بكيت عندما شاهدت جامع النوري من خلال صور افتراضية، كانت تبدو وكأنها حقيقية فعلاً، ثم شكرت التكنولوجيا التي قد تعيد لنا جزءا من حضاراتنا القديمة جدا للعالم، مرة أخرى للحياة”. وتبدو نور سعد (26 عاما) ممتنة للغاية، ومنبهرة، بنظارات ضخمة ترتديها، وتنقل إليها تفاصيل ثلاثية الأبعاد، لشكل مسجد النوري الذي تعرض لتدمير كبير من قبل تنظيم داعش الإرهابي.
وتتنقل سعد بين معالم أثرية أخرى من المدينة بفضل جولات افتراضية تم إنشاؤها بمساعدة مبادرة إحياء روح الموصل، ومؤسسها الناشط أيوب ذنون، الذي أخذ على مسؤوليته – مع عدد من الناشطين والمتطوعين – إحياء تراث هذه المدينة العتيقة وتوثيقها، من خلال افتتاح أول متحف افتراضي لمعالم المدينة، ثم انتقل العمل ليشمل اليوم مزارات مدينة البصرة الأثرية. وتهدف مبادرة التوثيق الافتراضي للمواقع خاصة التي تعرضت للتدمير بسبب داعش، إلى إعادة إحيائها على الأقل بواسطة التكنولوجيا ثلاثية الأبعاد، وفق ذنون وهو مؤسس بيت تراث الموصل وسفير مبادرة إحياء روح الموصل.
وأضاف ذنون (31 عاما) أن المبادرة تهدف كذلك لإطلاع الجيل الجديد ممن لم يتمكن من رؤية حضارة هذه المدينة قبل 2014، مشيرا إلى أن الفكرة لاقت إقبالاً جماهيريا كبيرا من قبل مواطني محافظة نينوى، والزوار القادمين إليها. ولفت أيوب في حديثه لوكالة الأنباء العراقية (واع) إلى أن “الكثير من الرحلات المدرسية كانت وجهتها نحو متحف تراث الموصل، ثم إلى تقنية التصوير ثلاثي الأبعاد والذي يتم من خلاله عرض نماذج لمبان تهدمت فعلاً بسبب داعش”.
◙ نجاح التنقية الرائعة في الموصل شجع على التفكير في نقل التجربة إلى البصرة، التي تضم العشرات من المواقع الأثرية والتراثية
وشجع نجاح التنقية الرائعة في الموصل أيوب ورفاقه على التفكير في نقل التجربة هذه المرة إلى البصرة، التي تضم العشرات من المواقع الأثرية والتراثية التي تستحق التوثيق أيضا، وبدأوا بالفعل مع متحف البصرة الحضاري، ومسجد البصرة الكبير. وبين ذنون أن “عملية التوثيق بدأت قبل أسبوعين فعليا، وهي جزء من مشروع كامل، سيشمل جميع المعالم المهمة”.
وأشار إلى أن “الكثير من الأطفال والزوار لم يروا من قبل جامع النوري ومئذنته الحدباء والذي لم يبق منه اليوم إلا قاعدته، ونحاول من خلال الواقع الافتراضي أخذ الأشخاص بجولة في تلك المواقع، الأمر الذي دفعنا إلى التفكير أيضا، بما سيود أن يشاهده الطلبة في البصرة وبما يتعلق بحضارة مدينتهم”. ويُنفذ المشروع بالتعاون مع شركة “قاف لاب” العراقية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية بالتنسيق مع مفتشية الآثار والتراث في المحافظات، بحسب ذنون.
وتتيح تقنية الواقع الافتراضي للزائرين إمكانية مشاهدة أهم المعالم التاريخيّة التي دُمّر أغلبها مثل جامع النوري وكنيسة الساعة ومرقد النبي يونس ومنارة الحدباء ومسجد البصرة الكبير، وغيره بتقنيّتي الواقعين الافتراضي والمعزز، بالإضافة إلى وجود جهاز هولوغرام يُمكن من خلاله مشاهدة الأماكن التراثية على شكل مجسّمات ثلاثية الأبعاد، إلى جانب الشرائط التوثيقية التي تُعرَض على شاشة عرض كبيرة داخل المتحف.
ويتم عمل الجولات الافتراضية عن طريق استخدام التقنيات الحديثة والأرشفة والتوثيق الرقمي من خلال التقاط الصور للمعالم حسب طرق التصوير الخاصة بتصوير المباني والآثار، مع استخدام طائرات درون خاصة من أجل المسح الجوي للمبنى والمعلم المراد توثيقه، ثم جمع هذه الصور وتسجيل المعلومات الخاصة بالمعالم.
وعندها يتم تحويل الصور الملتقطة بعد ترتيبها وتصنيفها، إلى نماذج ثلاثية الأبعاد، تتيح للمتصفح القيام بجولات افتراضية عن طريق استخدام نظارات الواقع الافتراضي، وفق ما أوضح أيوب، مؤكدا أن “العمل لم يتوقف، بل سيستمر من خلال معالم أخرى، لمدن عراقية ممتدة في التاريخ لجذور قديمة”.
وتابع “عملنا على إقامة ورش للإرشاد السياحي من خلال تدريب 20 شخصا من أجل الترويج للسياحة في البصرة، وهذا جزء من أهداف المؤسسة، الحفاظ على التراث من خلال استدامة السياحة، كما يتم العمل على إنشاء دليل إرشادي سياحي كتبي يحتوي على أهم المواقع الأثرية والسياحية في البصرة، مع نشاط أخير، سيكون مع الحدث الختامي، لعرض نشاطات المشروع، وسلسلة فيديوهات توثيقية للمهن التراثية في الفيحاء”.
ويحمل المشروع رسالة مفادها “استخدام التقنية الحديثة لخدمة أرشفة الحضارة والتراث”، وفق ذنون، مشيرا إلى أن “العراق بلد مليء بالآثار التي يعاني الكثير منها الإهمال، لكن مواكبة العالم بتقنياته الجديدة، تعمل على تنشيط السياحة وأرشفته وإطلاع العالم على تاريخ وحضارة هذا البلد”. ويرى الآثاري سليم أحمد (46 عاما) أن “هذه المبادرات تنعش المدن العراقية وتمكن الناس من معرفة قيمة حضارتهم الحقيقية، وتثقيفهم حولها وتعليمهم”.
◙ المبادرة تضمن بقاء الآثار التي تعرضت للتخريب، ولو بشكل افتراضي، لأنها جزء من المدينة والأجيال في المستقبل في حاجة للاطّلاع عليها
وقال أحمد لوكالة الأنباء العراقية إن “الموصل فقدت أغلب آثارها وتراثها بفعل التدمير والتفجير أو التخريب من قبل تنظيم داعش، كما أن بعضا من آثارها تم تهريبه خلال فترة الانفلات الأمني في المدينة، حتى أن مدنا أثرية تعرضت للاندثار بشكل جزئي أو كلي ومنها، النمرود، خورسباد والحضر، لذا من الضروري إعادة دمجها بما تبقى من الآثار، وعدم السماح بأن تصبح مجرد ذكرى”.
وأوضح أن هذه المبادرة تضمن بقاء الآثار التي تعرضت للتخريب، ولو بشكل افتراضي، لأنها جزء من هذه المدينة، والأجيال في المستقبل في حاجة للاطّلاع على ما كانت تزخر به مدينتها. ويقع المتحف الافتراضي في “بيت الارحيم”، وهو من البيوت الموصلية التراثية، المطلة على نهر دجلة. وقد أُعيد ترميمه بعد تحرير المدينة، بسبب تعرضه لأضرار كبيرة بفعل التنظيم الإرهابي.
وفسر ذنون أن “فكرته تعتمد على إعادة مكانة المدينة التاريخية وتوثيق تراثها الذي مزقته الحرب، وهويتها الثقافية”، مضيفا أن العمل مستمر على توثيق المواقع الأثرية الأخرى لتصبح ضمن عروض المتحف الافتراضي. وتابع “قد يكون المتحف الافتراضي هو البديل الوحيد عن الآثار التي اختفت ودمرت بشكل نهائي ولا يمكن إعادتها”، مؤكدا على الاستمرار في “تطوير المتحف وتوسيع المكان لاحتواء المزيد من المقتنيات وتوثيق ما يمكن توثيقه من معالم تراثية، ولا يشمل عرض المقتنيات وحسب، بل يستقبل المتحف الأمسيات الموسيقية والأدبية حول الموصل وأهميتها”.