نسبة المشعوذين في تونس تتضاعف مقارنة بعدد الأطباء

ساهم انتشار ظاهرة السحر والشعوذة بشكل علني داخل المجتمع التونسي في أن يصبح مصدرا للاسترزاق وتجارة ربحية، بغياب الرادع القانوني ما دفع نوابا في البرلمان للتحرك واقتراح قانون لتجريمه.
تونس - يستعد البرلمان التونسي لمناقشة مشروع قانون لتجريم ظاهرة السحر والشعوذة، التي تعرف رواجا كبيرا داخل المجتمع، وذلك في محاولة للحد من استمرار زيادة ممتهنيها، باعتبارها أصبحت مهنة، مستغلين حاجة المواطن إلى الأمل في ظل انعدام الأفق.
ولا يتطرق القانون الجنائي في تونس لجريمة السحر والشعوذة على عكس بعض قوانين الدول العربية التي تعاقب على هذا النوع من الجرائم، فقد ضمها المشرع التونسي في الفصل 291 من المجلة الجزائية في إطار جريمة التحيل والخزعبلات، وهنا يكون الإشكال، أنه لا يحق للمتضرر أن يحرر محاضر ضد الساحر والمشعوذ لأنه لا توجد رابطة بينهما، حتى وإن تم الإضرار به نظرا إلى أنها جريمة صعبة الثبوت، وعليه تمكن الإشارة إلى أن هناك قصورا في القانون التونسي.
وقالت عضو مجلس نواب الشعب فاطمة المسدي، خلال حلولها ضيفة في برنامج “صباح الورد” الإذاعي، إنّه “سيتمّ قريبًا طرح مقترح قانون لتجريم السحر والشعوذة لأوّل مرّة في تونس”، موضحة أنّه “سيقع عرض هذا المقترح رسميًّا خلال شهر رمضان”.
ويرى عدد من أساتذة القانون أن هذا الفراغ التشريعي، ساهم في انتشار ظاهرة السحر والشعوذة حتى أصبحت تمارس بشكل علني داخل المجتمع وأمام أعين الدولة خاصة في المناطق الشعبية، حتى أصبحت مصدرا للاسترزاق وتجارة ربحية.
واعتبر أستاذ علم الاجتماع بلعيد أولاد عبدالله أن “المقترح البرلماني ضعيف، لأنه كان بالإمكان الاستعانة بنص قانوني يثمّن مجهود الطب النفسي والخدمات الاجتماعية ومكاتب التوجيه النفسي، في خطوة للاعتراف بجودة الخدمات النفسية والاجتماعية، حتى لا يذهب المواطن إلى المشعوذين”.
وأوضح لـ”العرب” أنه “وجب دراسة الأسباب العميقة والموضوعية للظاهرة التي أصبحت متفشية، وهي ممنوعة أصلا دون الحاجة إلى مقترح برلماني يؤكد على ذلك”.
وأشار أولاد عبدالله إلى أن “هناك برامج تلفزيونية تبث ومضات إشهارية للمشعوذين بهدف الكسب المادي وهم يسوقون أنهم يساعدون على إيجاد حلول للباحثين عن عمل أو زواج أو غيرهما”.
وأكدت نجاة الزموري نائبة رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أن “المسائل المتعلقة بالمعتقدات الخرافية متجذّرة في ثقافة التونسيين ومجتمعهم، وفي الوقت الذي كنّا نعتقد أنها ولّت مع تحقيق الاستقلال وتدني الوعي المجتمعي، عادت الآن بقوة”.
وقالت في تصريح لـ”العرب” إنه “لا يمكن التصدي لهذه الظاهرة بالقانون فقط، بل يجب إيجاد مقاربة شاملة وثورة ثقافية كاملة، مع إصلاح هيكلي للبرامج والمنظومة التربوية، علاوة على الدور التوعوي للإعلام الذي أصبح أحيانا ينخرط في مثل هذه الممارسات بحثا عن جذب المشاهد والإثارة”.
ولفتت الناشطة الحقوقية إلى أن “القوانين الردعية لا تقضي على الظاهرة، كما هو الشأن مع بقية الظواهر الاجتماعية والاقتصادية”.
وخلال العامين الماضيين، سعت تونس إلى مكافحة ظاهرة انتشار محلات العلاج الروحاني والشعوذة، وأعلنت إيقاف العشرات من المعالجين والمنجمين وإغلاق محلاتهم، لكن ذلك لم يضع حدا للظاهرة، حيث تنتشر إعلانات العرافين وأرقامهم في الشوارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، للترويج لخدماتهم ولقدراتهم في دفع الضرر وجلب الرزق والسعادة والشفاء من الأمراض.
ويقول الباحث حسين العبدولي، مؤلف كتاب “السحر في تونس من أجل المال والسلطة والجنس” إن الشعوذة “تشترك مع السحر في بعض الجوانب، لكنها لا تحمل نفس دلالاته، فهي ضرب من ضروب التخيل والخداع والإيهام وادعاء البركة وتستند إلى عبقرية المشعوذ في إيهام الفرد بأنه يأتي أفعالا سحرية تشد الناظر، لكنها في الحقيقة ليست كذلك. فهي قدرة على المراوغة دون الاستناد إلى نفس وسائط السحر المذكور في كل الأديان السماوية ويعرف في اللغة بأنه صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره”.
ويوجد في تونس 145 ألف مشعوذ، حسب دراسة قام بها الباحث التونسي في علم الاجتماع زهير العزوزي، ونشرت سنة 2016، والذي يرى أن ذلك أكبر دليل على أن نسبة المشعوذين في تونس تقريبا تتضاعف مقارنة بعدد الأطباء والذي لا يتجاوز 80 ألفا بحسب نفس الدراسة.
ولفتت تقارير صحفية أن مشعوذين في تونس يستخرجون ورقة تعريف ضريبي تعرف باسم “الباتيندا” لممارسة أنشطة أو أعمال حرة لكن يستغلون هذا التعريف ليوهموا الناس أن لديهم ترخيصا بممارسة العرافة والسحر وسط غياب الرقابة من الضرائب، وعدم وجود نص قانوني يجرّم الشعوذة.
وبحسب أراء القانونيين فإن الفصل 291 من المجلة الجزائية هو فصل عام يتعلق بجريمة التحيل ويتضمن عبارات فضفاضة، إذ لم يحسم بصفة آلية في عقوبة الشعوذة والسحر، كما أنه تجب الإشارة بشكل صريح إلى هذه الجريمة وتكريس العقوبة اللازمة عليها وتشديدها، نظرا لتفاقمها واستشرائها وإسهامها في خلق مجتمع قائم على الجهل والتضليل، وذلك بهدف الحد منها.
وأغلب العقوبات المقررة في ارتكاب جريمة السحر غير صارمة في ردع السحرة والمشعوذين، بل غير متطرق إليها بشكل واضح، ممّا ساهم وبشكل رئيسي في استمرارية ممارسة طقوس السحر والشعوذة في تونس، بل وانتشار أوكار مزاولة هذه الأعمال مقابل الحصول على أموال كمصدر للاسترزاق، وليس بالأمر الغريب أن العالم الافتراضي من مختلف وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية قد أصبح من أهم الوسائل التي ساهمت بشكل كبير في انتشار هذه الظاهرة من دولة إلى أخرى مما سهل عملية ممارستها.
ويتساءل البعض، إلى متى سيبقى السحرة والمشعوذون يعملون بحماية القانون ويتم الإشهار لهم على العديد من المنصات المرئية والمكتوبة.
وفي محاولة للتوعية بمخاطر هذه الظاهرة، انتشرت حملات قبل فترة على مواقع التواصل الاجتماعي في تونس، تدعو إلى تنظيف المقابر من أعمال السحر والشعوذة.
وكانت بداية هذه الحملات بعد أن قرر الشباب في إطار “حالة وعي” شهدها الشارع التونسي تنظيف المقابر، إلا أنهم فوجئوا بوجود كم هائل من أعمال الشعوذة والتعويذات والسحر.
وأكد أستاذ علم الاجتماع منير السعيداني في تقرير نشرته وكالة تونس أفريقيا للأنباء “وات”، أن أنشطة المشعوذين تتطور حين يفقد الناس أملهم في بلوغ احتياجاتهم في الصحة والعلاج والعمل، مشيرا إلى أن عدم انتفاع المواطنين بأنظمة صحية تحل مشاكلهم يمكن أن يدفع بهم إلى البحث عن مسوغات للعلاج ولو على أيدي السحرة.
ويرى أن الفشل في تحقيق التطلعات ومواجهة المشاكل الاجتماعية والمادية كالإحباط إزاء الشعور بعدم النجاح في المسار الدراسي وتأخر سن الزواج والبطالة، كلّها حجج يتعلّل بها زبائن المنجمين.
وأضاف السعيداني أن ظاهرة الإقبال على المنجمين تنتشر لدى الفئات الاجتماعية الأكثر فقرا والتي تتسم بثقافة تقليدية، وتستند في ارتيادها لمحلات المنجمين إلى حجج دينية تؤكد وجود السحر وأثره، في حين أن ثقافتها الدينية سطحية، معتبرا أن “ظاهرة الشعوذة تجاوزت مجرد الاعتقاد وتحولت إلى نظام اقتصادي مهيكل ومرخص له من قبل الدولة”.
وأوضح المختص في علم الاجتماع أن وجود المئات من العرافين والعرّافات في البلاد منهم من يتخذ يافطة النشاط ضمن ما يعرف بـ”الطب الروحاني”، يؤكد وجود هذا النظام الاقتصادي في وقت بدأ فيه المجتمع التونسي يتحسس الطريق شيئا فشيئا نحو حل مشاكله الاجتماعية والاقتصادية.
وأشار السعيداني إلى أن التوجه إلى العرافين ينقسم إلى مظهرين اثنين، يتمثل أولهما في الاعتقاد البسيط لدى الأشخاص الذين يملكون إيمانا ضعيفا بالظاهرة لكنهم مستعدون للتخلي عنه بإيعاز من آخرين، في حين يتمثل المظهر الثاني في وجود اعتقاد راسخ لأناس طالت أزماتهم.

ومن جانبه أكد المختص في علم النفس نعمان بوشريكة أن أنشطة السحر والشعوذة ليست حكرا على المجتمع التونسي وهي ظاهرة شبيهة بالمعتقدات والأيديولوجيا، مبينا أن فكرة اللجوء إلى المشعوذين موجودة في المجتمعات الأوروبية أيضا.
وأوضح “حين يعجز الأفراد عن تحقيق احتياجاتهم يستندون إلى تأويل غير عقلاني”، موضحا أن الجانب الأسطوري الشفوي يرسم صورة للمشعوذ باعتباره القادر على جلب الرزق من خلال التمائم وأعمال السحر التي ينجزها.
وتزيد أنشطة ممتهني الشعوذة عند الأزمات خصوصا مع تفاقم البطالة وتوتر الحالات النفسية وفي ظل انعدام ثقافة المطالعة وغياب الشعور بالاستقرار.
ولفت طارق بالحاج محمد أستاذ علم الاجتماع التونسي في تحليل سابق لتفشي هذه الظاهرة، إلى أن اللجوء إلى السحر والشعوذة ليس حكرا على الفئات المهمّشة اجتماعيا وفكريا واقتصاديا وثقافيا، بل هو ممارسة رائجة لدى جميع الشرائح الاجتماعية وإن كان ذلك بدرجات وأشكال مختلفة، مشيرا إلى أن ما يجمع بين هذه الفئات هو تركيبة نفسية وثقافية معينة تبرّر وتفسر تصرفاتها.
وأوضح أنه حتى الفئات الأكثر تعلما والأرقى مكانة اجتماعية ومادية باتت تلجأ إلى السحر والشعوذة نظرا إلى سيطرة طريقة معينة على تفكيرها تتسم بعدم العلمية والعقلانية، لأن التفكير العلمي هو حالة حضارية وثقافية وليس مرتبطا بالشهادة العلمية والمراكز الاجتماعية.
وأكد بالحاج محمد أن من تربى على فكر الخرافة من الصعب عليه أن يتخلص منه مهما بلغ من مستوى دراسي ومادي، والالتجاء إلى السحر مؤشر على الفقر النفسي والثقافي والحضاري أكثر منه مؤشرا عن التهميش الاجتماعي والاقتصادي والدليل على ذلك أن شخصيات عامة ومشاهير وأثرياء يقصدون باستمرار العرافين والدجالين.
وبيّن أن السحر والشعوذة هما تعبيران واضحان على سيكولوجية الإنسان المقهور والمهزوم الذي يحاول البحث عن حلول ووصفات غيبية لمشاكله الواقعية. ولفت إلى أنه “حين لا نجرؤ على تحمل مسؤولياتنا في الحياة أو نعجز عن تحملها أو حلها نلتجئ إلى السحرة والمنجمين والعرافين ليجدوا لنا الحلول بالنيابة عنا نظرا إلى هيمنة سيادة ثقافة التواكل أو استبداد حالة اليأس بنا”.
وقال الخبير التونسي إن الأشخاص يلتجئون للسحرة والعرافين إما لتأمين مستقبلهم المهني أو الشخصي أو لحل مشاكلهم النفسية والواقعية أو لتصفية حساباتهم مع خصومهم.
كما أفاد بأن استبداد حالة فقدان الأمل واليأس بالأشخاص تجعلهم يلجؤون إلى الدجالين، موضحا أنه “حين يلاحقهم الماضي بخيباته وآلامه وحين يحاصرهم الإحساس بالعجز في الحاضر وحين يفقدون الأمل في المستقبل يندفعون نحو الخرافة بحثا عن الحل والراحة والمعجزات”.